هذه المقدمة عن تاريخ الجليل مهمة جدا لفهم الخلفية الثقافية التي كانت وراء رسالة يسوع التي خرج بها عن الأعراف والشرائع والعقائد اليهودية. فلربما لم ينشأ يسوع في أسرة يهودية، أو أن أسرته قد تهودت خلال فترة الحكم المكابي واستمرت على اليهودية الشكلية بحكم العادة، أو كانت تنتمي إلى جماعة روحية من جماعات جبل الكرمل والمعروفة بطبيعتها الصوفية ونزعتها العالمية. لقد نشأ يسوع في الجليل وعاش فيه طيلة حياته وبشر برسالته، وكان تلامذته وأتباعه جليليين، وهو لم يذهب إلى أورشليم إلا في أواخر مسيرته التبشيرية حيث صلبه اليهود . وهذا يستتبع منطقيا أن يكون قد ولد في الجليل لا في اليهودية. ولكن كيف يمكن التوفيق بين هذه النتيجة وبين الأخبار التي أوردها كل من متى ولوقا عن ولادة يسوع في بيت لحم؟
في الحقيقة إذا كانت قصة الميلاد في بيت لحم ذات أصل تاريخي، فإن المدينة المرشحة لأن تكون مكان الميلاد ليست بيت لحم اليهودية، وإنما مدينة أخرى في الجليل تحمل الاسم نفسه. إن ما لا يعرفه الجميع، وما تم التعتيم عليه تاريخيا، هو وجود مدينة في الجليل تحمل اسم بيت لحم تقع مقابل السفوح الشمالية الشرقية لجبل الكرمل، وقد كانت هذه المدينة قائمة ومزدهرة خلال حياة يسوع، على ما بينته التنقيبات الأثرية التي أرجعت تاريخها إلى القرن السابع قبل الميلاد. وقد عثرت البعثة الأثرية الإسرائيلية التي نقبت في الموقع على بقايا كنيسة بيزنطية تعود بتاريخها إلى أواخر القرن الرابع الميلادي، ولكنها بنيت في موقع كنيسة أقدم منها تعود بتاريخها إلى نحو عام 100م. وبيت لحم الجليل هذه تظهر في المصورات الجغرافية القديمة ومنها مصور بطليموس الذي يرجع بتاريخه إلى نحو 150م. وقد تتالت على المدينة مراحل خراب وهجران ثم بناء وازدهار طوال أكثر من ألفي سنة، وعند قيام دولة إسرائيل عام 1948م استوعبت حدودها بيت لحم هذه مع معظم الجليل، وهي تظهر الآن في جميع الخرائط الحديثة لدولة إسرائيل. وقد ورد في الموسوعة اليهودية الصادرة في إسرائيل عام 1972م بخصوصها ما يلي: «إن بيت لحم الجليلية تقع في غرب الجليل، وهي قريبة من قرية تيفون في سبط زبولون. وكانت في الماضي ضمن الأراضي التابعة لصور ... وفي سنة 1948م سكنتها جالية ألمانية تابعة لجمعية الهيكل» (الجزء 4، ص750).
1
وقد عرف محررو التوراة بيت لحم الجليل، وفي الكتاب إشارات عديدة إليها. من ذلك ما أورده محرر في سفر يشوع في معرض تعداده للمناطق التي وزعها يشوع على الأسباط وبينها بيت لحم التي أعطيت لسبط زبولون (يشوع، 19: 10-16). وكما هو معروف فإن سبط زبولون في كتاب التوراة قد سكن منطقة في الجليل الأدنى تقع إلى الشرق من جبل الكرمل. ومن ذلك أيضا ما ورد في سفر القضاة: «وقضى يفتاح لإسرائيل ست سنين. ومات يفتاح الجلعادي، وقضى بعده لإسرائيل إبصان من بيت لحم سبع سنين. ومات إبصان ودفن في بيت لحم، وقضى بعده لإسرائيل إيلون الزبولوني ...» وتعلق الترجمة الكاثوليكية الجديدة، وتوراة أورشليم الفرنسية على هذا النص بقولها: «إن بيت لحم التي يتحدث عنها السفر هنا هي بيت لحم زبولون، وهي التي ذكرها سفر يشوع 19: 15. وهي بالقرب من الناصرة.»
اعتمادا على ذلك نستطيع القول بأن الأخبار التي تواترت إلى مؤلف إنجيل متى عن بيت لحم بأنها الموطن الأصلي لأسرة يسوع ربما كانت صحيحة، إلا أن متى وجه أنظار قارئه إلى بيت لحم يهوذا بدلا من بيت لحم الجليل لكي تنطبق على يسوع النبوءة التوراتية الواردة في سفر ميخا عن ولادة المسيح فيها، فقال: «لأنه هكذا مكتوب بالنبي: وأنت يا بيت لحم أرض يهوذا، لست الصغرى بين رؤساء يهوذا؛ لأن منك يخرج مدبر يرعى شعبي إسرائيل» (متى، 2: 6). بينما وردت نبوءة ميخا في نصها الأصلي على الشكل التالي: «أما أنت يا بيت لحم أفراته، وأنت صغيرة أن تكوني بين ألوف يهوذا، ولكن منك يخرج لي الذي يكون متسلطا على إسرائيل ومخارجه منذ القدم» (ميخا، 5: 2).
هذا ويطرح المكان الذي أمضى فيه يسوع طفولته وشبابه مشكلات لا تقل عن مشكلات مكان ميلاده. فقد قال متى في نهاية قصته عن الميلاد: إن يوسف بعد عودته من مصر خاف من العودة إلى بيت لحم، و: «انصرف إلى نواحي الجليل وأتى وسكن في مدينة يقال لها ناصرة، لكي يتم ما قيل في الأنبياء إنه يدعى ناصريا» (2: 22-23). وهنا نلفت النظر إلى أن اسم المدينة لم يرد في النص اليوناني بصيغة
Nasirah (ناصرة-كما ورد في العربية) وإنما بصيغة
Nazareth (نازاريت). أما النسبة إليها فقد وردت بصيغة
Nazoraios (نازورايوس). وقد احتفظت الترجمات الأوربية بصيغة
Nazareth
Bilinmeyen sayfa