ثم قلت له، وكان صوتي متهدجا: كنت في شبابي أرى قمم الجبال من بعيد تغطيها الثلوج الشهباء، وأرى أشعة الشمس تصبغها عند الغروب وعند الشروق فتلونها ألوانا ساحرة تخلب النظر والفؤاد. وكم تمثلتها وتصورت ما فيها من بهاء، وكنت أحس في نفسي دافعا لا يقاوم يدفعني إلى توقل الصخور والصعود إلى تلك القمم الساحرة.
وهكذا قضيت زمنا أهيم في خيالي وأنا ناظر نحوها وقلبي متعلق بالتسامي إليها. ولم أستطع أن أقاوم نفسي فخرجت أسعى لأبلغها، وكنت أتصور ما تخبئه لي تلك القمم اللامعة من كنوز وصور باهرة ومسارح ساحرة. فسافرت سفرا مضنيا تمزقت فيه أعضائي وخارت فيه قواي من نضال الصخور ومحاورة ثنايا الشعاب، وكدت أهلك جوعا وبردا، فلم يمسكني إلا الأمل الذي كان يملأ قلبي. وكنت كلما ضجرت وكاد الضعف يغلبني استندت إلى الأماني التي تجيش في صدري فتدفعني وتزيل آلامي. كنت دائما أنظر إلى القمة وأمني النفس بما لا يزال أمامي، وأخيرا بلغت القمة وسقطت من الإعياء وخانتني أنفاسي، ثم كادت الخيبة تقتلني، ماذا رأيت هناك؟ تلفت حولي فلم أر إلا صخورا مثل الصخور، وكهوفا مثل ما مررت به في صعودي. وكانت القمة جرداء صماء كالحة باردة، فسألت نفسي: أين البهاء والرونق؟ وأين الألوان الزاهية والأضواء الباهرة؟
لقد كادت الخيبة تقتلني، وعدت أدراجي أجر قدمي وأجادل غروري حتى عدت إلى السهل ونظرت إلى القمة وأنا أتهالك على المروج الخضراء، فرأيت القمة لا تزال تلمع وتصبغها الألوان الساحرة كما كانت من قبل تصبغها، فصحت في حنق: أيتها القمم الساخرة!
ولقد كان هذا هو شعوري عندما فارقني رسول السلطان وجلست إلى نفسي أراجعها.
ثم قلت في لهفة: أرضيت «نجوى» بزواجي؟
فقال كمال الدين مطرقا: لقد لمحت السعادة عليها.
فقلت: أتكون وكيلها؟
فقال كمال الدين: قد زوجتكها.
ومد إلي يده، فخطفتها وقلبي يرفرف كالطائر في قفصه، وقمت مسرعا لم أتكلم بكلمة حتى بلغت داري لا أتلفت إلى يمين ولا إلى شمال، وقضيت سائر الليلة أصلي وأناجي ربي.
ولما أصبح الصباح ذهبت إلى القصر ودخلت بين عمده، فانفرج لي صف الحراس، ودخلت إلى البهو حتى بلغت مجلس السلطان.
Bilinmeyen sayfa