فقلت منكسرا: نعم، من لا ريش لهم ولا أذناب مثلي.
فقال ضاحكا: هؤلاء قد عرفوا كيف يصمتون.
فطعنتني كلمته طعنة شديدة، وخيل إلي أن عذاب الجحيم نفسه أهون علي من الإقامة في بلد ليس لي فيه إلا أن أصمت. وجاء عند ذلك خادم المكان يحمل القهوة. وكنت أحبها فأقبلت عليها أرشفها، وشغل عني صاحبي بمساومة بعض الباعة الذين جاءوا يعرضون سلعهم يحملونها في أيديهم أو فوق رءوسهم، وكانت مساوماته أشبه الأشياء بالنضال، حتى لم يخل بعضها من الدفع باليد والسباب. وكان الباعة رجالا يستطيع أحدهم إذا شاء أن يدير ساقية بزنده، ولكنهم كانوا لا يحملون من السلع إلا يسيرا لا يزيد ثمنه على دريهمات. ففهمت عند ذلك السر الخفي؛ فهمت كيف يرضى العامة في جانبولاد بأن يقيموا فيها خاضعين، ويضعوا ألسنتهم داخل أفواههم؛ فليس بهم من حاجة إلى الكلام لأنهم في شغل عن ذلك بهم اقتناص الرزق الضئيل. وجمع صاحبي كومة كبيرة مما اشتراه من أصناف كثيرة مختلفة الألوان، ولم يبق له إلا أن يشتري ليمونا، فتنبهت على صوته وهو يشاحن البائع ليأخذ منه ليمونة عاشرة، فلما سخا له البائع بها أعطاه دانقا ثم التفت إلي وقال: أف لهؤلاء الباعة! ما أشد لجاجتهم!
ولما رآني مشغولا عنه هزني بيده وقال: أراك غارقا في تفكيرك.
ثم أخذ يجمع السلع ويضعها في منديل كبير، ولكن المنديل لم يتسع لها، فقلت له باسما: هذا حمل كبير.
فقال وهو يغمز بعينه: عندي الليلة بعض أصحابي، وحبذا لو كنت معنا.
فتذكرت الليلة التي عربد فيها علي، وفهمت من غمزة عينه أنه يشير إلى الكئوس الثلاث التي ظن أنني شربتها، ولم أجد جوابا أرد به، فاستمر قائلا: هم جميعا من أصحابي المقربين ويسرهم وجودك بينهم. لقد سمعوا عنك وهم يحبون أن يتمتعوا بحديثك. وعلى فكرة، هم جميعا من أصحاب الأعلام، وليس أولى بك من مصاحبتهم.
ومال علي هامسا: لا تبعد عن مجالسة أصحاب الأعلام إذا شئت أن تكون لك أعلام في جانبولاد.
فأثارني قوله وقلت: «ما هذه الأعلام التي جعلت جانبولاد لها كل هذه القيمة؟ وما هذه القدور المختومة التي في باطنها الذهب؟ إنها لا تزيد على قدور مملوءة بالرمل أو الطين ما دامت مقفلة.»
فضحك طوطاط حتى كاد يستلقي على ظهره، ثم قال: سيتغير رأيك إذا أصبحت من أصحابها.
Bilinmeyen sayfa