ولو كان عجيب ابني يقنع بسوء الظن بجيل أبيه لوافقته واستحسنت صنعه؛ فقد عاشرت هذا الجيل وعرفته معرفة لم تتح لابني. وكلما مرت الأيام بي زدت يقينا أن هذا الجيل خلقة شاذة من السخف والجهل. ولست أبرئ نفسي؛ فأنا كذلك خلقة شاذة من هذا الجيل، فأنا شاذ في جيل شاذ، ولكن المصيبة الكبرى أن ابني يحسن الظن بنفسه وبأبناء جيله، مع أني لا أرى إلا زيادة متصلة في التخليط والخبط.
وقد ولع ابني بما يسميه الأدب، واستهتر به استهتارا عظيما، حتى بلغ به الأمر أن صرف همه إليه، ولم يبال ما يكون حاله في مستقبل أيامه. حقا إنني لم أصنع في حياتي ما أحمده، وقد تركت نفسي أتخبط مع الأيام فلم أحسن عملا ولم أستطع شيئا، وشهدت على نفسي بأنني لا أصلح في صنعة، ولكني مع ذلك لا أريد لولدي ما جربت أثره في حياتي. على أن ولدي قد فهم من الأدب القشور وغاب عنه اللباب. رأيته يوما يشتري معجما، ثم رأيته يقبل عليه كلما وجد فراغا، فيحفظ من ألفاظه كل ما شذ واستعجم، وتعود بعد ذلك أن يستعمل تلك الألفاظ في كتابته وحديثه، وولع بعبارات يجمعها في قراءته من كل ما هب ودب من كتب هؤلاء المساكين المخدوعين الذين يحسبون أن الأدب لا يزيد على طمس المعاني وإلقاء الألفاظ سحبا سوداء عليها تجعلها غامضة مبهمة، فإذا قرأ القارئ مثل هذه الكتب لم يدرك منها معنى، فلا يسعه إلا أن يتهم نفسه ويسيء الظن بفهمه، ويدفعه اليأس إلى أن يقول مع القائلين إن هؤلاء الكتاب من نوابغ الأدب. ولقد طالما صدع عجيب رأسي بما يقذفه عليه من عبارات هؤلاء البائسين؛ فهو يتغنى بالضوء الذي يداعب أعطاف السماء، وبالنشوة التي تتمشى في الظلال الناعمة، وبالسحر الذي يتموج فوق مجالي النبضات اللانهائية. وقد كنت ليلة جالسا وحدي في حديقة داري أتمتع بضوء القمر الزاهي، فسمعت ولدي يتغنى بأبيات مما يسمونه الشعر، وكان لا بد لي أن أسمع غناءه وإنشاده؛ فقد كان الليل ساجيا ليس فيه ضجيج أحتمي فيه من السماع، وما أزال إلى اليوم أقشعر كلما مرت أصداء تلك الأغنية بخاطري، كانت شيئا لا معنى فيه ولا وزن له، ووالله لو كان ذلك شعرا لاستطاعت كل عنز في حقول ماهوش أن تكون شاعرة.
كان عجيب يتغنى بشيء مثل هذا:
الشجر والطير والسحاب
والنور والحب والضباب
فشعرت بدوار في رأسي وغصة في حلقي وصحت به: «اخرس.»
ولكن الخبيث أقبل نحوي في حماسة شديدة، وجعل يرجمني رجما متصلا بإنشاده حتى أوشكت أن يغمى علي، ولم أستطع أن أصرفه عني إلا عندما قلت له: هذا مدهش، فاذهب إلى أمك لتدخل به السرور على قلبها.
وقد عرف عجيب ابني بالنبوغ في الأدب بين لداته، وتمكن منه الوهم فاعتقد أن الله قد وهب له من فضله ما لم يهبه لسواه. وجعل يسألني عن أسماء شياطين الشعراء ليختار له واحدا من بينهم ظريف الاسم كريم السابقة.
وكثيرا ما أفضى إلي بأمله في أن يكون كبير الأدباء في جيله، فتأخذني الشفقة عليه فأهز رأسي صامتا. فليمض كما شاء الله له، ولا حيلة لي في صرفه عن وهمه، والزمن وحده كفيل بحل مشكلات الحياة. إن تيار الحياة يحمل الإنسان في سبيله كما يريد هو لا كما يريد الإنسان، ولا عجب إذا كان ابني يصبح كبير الأدباء في عصره؛ فإني رأيت العصر يصير من فساد إلى فساد، ولعل هذا الأدب الممسوخ يكون في عصره آية الإبداع في أنظار أهله، والعبرة بأبناء ذلك الزمان لا بنا نحن. ومع ذلك فإني لم أتمالك نفسي يوما أن أخوض مع ولدي في مناقشة صاخبة عندما سمعته يتحدث عن الأدب في حماسة حمقاء، فقلت له ناصحا: ماذا تريد من ذلك الذي تسميه الأدب؟ حقا إن اسمه محبب إليكم معاشر الأبناء؛ لأنكم تسمعون منا أن الأدب محمود، ولكن الأدب الذي تتحدث عنه شيء آخر. فقال لي متبرما: أتظنني لا أعرف معنى الأدب؟ لقد حفظت تعريفه على شيخي، وأنا أعرف عن عظماء الأدباء أكثر مما تظن. فضحكت وقلت: عظماء؟ يا خبر!
فقال وقد نفخ صدره: بلا شك، إنهم عظماء وخالدون، وسأكون أحد الخالدين.
Bilinmeyen sayfa