Al-Muqaddima fi al-'Usul - Ibn al-Qassar - Dar al-Ilmiyyah
المقدمة في الأصول - ابن القصار - ط العلمية
Araştırmacı
محمد حسن محمد حسن إسماعيل
Yayıncı
دار الكتب العلمية
Baskı Numarası
الأولى
Yayın Yılı
١٤٢٤ هـ - ٢٠٠٣ م
Yayın Yeri
بيروت - لبنان
Türler
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
"الحمدُ للَّه الَّذِي هَدَانَا إِلَى معرفة سبله، وأرشدنا لمتابعة رسله، وأوضح لنا ما افترضه من عبادته وطاعته، ويسَّر لنا الدلائل على شرعيته، وأجلى ذلك واضحًا في كتابه العزيز الذي: ﴿لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (٤٢)﴾ [فصلت: الآية ٤٢]. وقرن طاعته ﷾ بطاعة رسوله الكريم، فقال: ﴿أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾ [النساء: الآية ٥٩]، ونهى عن مخالفة الرسول، أو جماعة المسلمين، فقال: ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (١١٥)﴾ [النساء: الآية ١١٥].
الحمد للَّه الذي جعلنا مؤمنين بالفرقان، متبعين آثار مَنْ مَضى بإحسان وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له شهادة مَن أَخلصَ للَّهِ الطاعة، وأفرده بالعبادة.
وصلّى اللَّه على سيدنا ونبينا محمد، إمام المرسلين، وخاتم النبيين، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد، فإن اللَّه ﵎، لما أراد أن يَمْتَحِن عباده، وأن يبتليهم، فرَّق طرق العلم، فجعل منها ظاهرًا جليًّا وباطنًا خفيًّا، ليرفع الذين أوتُوا العلم، كما قال ﷿: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ [المجادلة: الآية ١١].
والدليل على أن ذلك كذلك، هو أن الدلائل (^١) لو كانت كلها جليَّة ظاهرة لم
_________
(^١) جمع دليل، يطلق في اللغة على أمرين: أحدهما: المرشد للمطلوب على معنى أنه فاعل الدلالة ومظهرها، فيكون معنى الدليل الدال "فعيل" بمعنى الفاعل كعليم وقدير مأخوذ من دليل القوم لأنه يرشدهم إلى مقصودهم.
قال القاضي: والدال، ناصب الدلالة ومخترعها وهو اللَّه سبحانه ومن عداه ذاكر الدلالة وعند الباقين الدال ذاكر الدلالة واستبعد إذ الحاكي والمدرس لا يسمى دالًا وهو ذاكر =
1 / 13
يقع التنازع، وارتفع الخلاف، ولم يحتج إلى تدبر ولا اعتمال ولا تفكر، ولبَطَل الابتِلاءَ، ولم يحضر الامتحان، ولا كان للشُّبهة مدخل ولا وَقَعَ شك ولا حسبان ولا ظن، ولا وجد ذُهُول؛ لأن العلم وإن يكون طبعًا، وهذا قياس، فبطل أن تكون العلوم كلها جليَّة، ولو كانت كلها خفيَّة لم يُتَوَصَّل إلى معرفة شيء منها، إذ الخفي لا يعلم بنفسه؛ لأنه لو عُلِم بنفسه لكان جليًّا، وهذا فاسد، أيضًا، فبطل أن تكون كلها خفيَّةَ، وقد قال اللَّه ﷿: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ﴾ [آل عمران: الآية ٧] إلى قوله: ﴿وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [آل عمران: الآية ٧].
وقال ﷿: ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾ [النساء: الآية ٨٣].
وإذا بطل أن يكون العلم كله جليًّا، وبطل أن يكون كله خفيًّا، ثبت أن منه جليًّا ومنه خفيًّا، وباللَّه التوفيق.
بَابُ الكَلام فِي وُجُوبِ النَّظَرِ (^١)
وجوب النظر والاستدلال هو مذهب مَالِكٍ -رحمه اللَّه تعالى- لأنه قد يستدلّ في المسائل بأدلة متعددة، وتقدّم أن في الدلائل خفيًّا وجليًّا، فلا بد من النظر؛ لأن
_________
= الدلالة فالأولى أنه يقال: الدال ذاكر الدلالة على وجه التمسك بها ويسمى اللَّه تعالى دليلًا بالإضافة، وأنكره الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في كتاب الحدود قال: ولا حجة في قولهم للَّه تعالى يا دليل المتحيرين لأن ذلك ليس من قول النبي ﷺ ولا أحد من الصحابة وإنما هو قول أصحاب العكاكيز وحكى غيره في جواز إطلاق الدليل على اللَّه وجهين مفرعين على أن الخلاف في أن أسماء اللَّه هل تثبت قياسًا أم لا؟ لكن صح عن الإِمام أحمد أنه علم رجلًا أن يدعو فيقول يا دليل الحيارى دلني على طريق الصادقين.
فالثانية: ما به الإرشاد أي العلامة المنصوبة لمعرفة الدليل ومنه قولهم العالم دليل الصانع ثم اختلفوا فقيل حقيقة الدليل: الدال وقيل بل العلامة الدالة على المدلول بناء على استعمال المعنيين في اللغة وقال صاحب الميزان من الحنفية الأصح إنه في اللغة اسم للدال حقيقة وصار في العرف اسمًا للاستعمال فيكون حقيقة عرفية وفي الاصطلاح: الموصل بصحيح النظر فيه إلى المطلوب. انظر الصحاح ٢/ ١٦٩٨، المحصول ١/ ١/ ١٠٦، الأحكام للآمدي ١/ ١٤٥، تيسير التحرير ١/ ٣٣.
(^١) انظر لغة الانتظار وتقليب الحدقة نحو المرئي والرحمة والتأمل ويتميز بالمعدى من حروف الجر. وفي الاصطلاح: الفكر المؤدي إلى علم أو ظن. انظر البحر المحيط ١/ ٤٢.
1 / 14
في تركه امتناعًا من الوصول إلى معرفة الخفيّ منها، وذلك غير جائز، فدل على وجوبه، وقد دل اللَّه -تعالى- على وجوب النظر والاستدلال، والتفكر والاعتبار في آيات كثيرة من كتابه.
فقال ﷿: ﴿أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (١٧)﴾ [الغاشية: الآية ١٧].
وقال ﷿: ﴿أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا﴾ [الأنبياء: الآية ٤٤].
وقال ﵎: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ [يوسف: الآية ١٠٩].
وقال ﷿: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ﴾ [سبأ: الآية ٤٦].
وقالَ ﷿ محتجًّا على مَنْ أنكر البعث والإعادة: ﴿قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (٧٨) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (٧٩)﴾ [يس: الآيتان ٧٨، ٧٩] إلى قوله: ﴿وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ﴾ [يس: الآية ٨١].
ومثل ذلك في آيات كثيرة، وفي هذا وجوب النظر وصحته، وباللَّه التوفيق.
بَابُ الكَلامِ في إِبْطَالِ التَّقْلِيدِ (^١) مِنَ العَالِمِ لِلْعَالِمِ
ومذهب مَالِكٍ ﵀ إِبطال التقليد من العالم للعالم.
وهو قول جماعة من الفقهاء، وأجازه بعضُهُم، والدليل على منعه أنه إِذا ثبت النظر، ووجب الرجوع إِلى الاستدلالات ففيه فساد من لا يعلم حقيقة قوله، ووجب الرجوع إلى الأصول، وما أودع فيه من المعاني التي تدل على الفروع، وهي الكتاب والسُّنَّة والإجماع.
قال اللهُ ﷿: ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ﴾ [النساء: الآية ٥٩].
يريد إلى كتاب اللَّه وسُنَّة نبيه ﷺ، فلم يردهم عند التنازع إلى غير ذلك، فيدل على إبطال التقليد من غير حُجَّة.
_________
(^١) انظر تعريف التقليد في تيسير التحرير ٤/ ٢٤١.
1 / 15
كما قال اللَّه تعالى حكاية عن قوم على طريق الذَّم لهم والإنكار عليهم: ﴿قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (٢٣) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ﴾ [الزخرف: الآيتان ٢٣، ٢٤].
وقال ﷿: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا﴾ إلى قوله: ﴿وَلَا يَهْتَدُونَ﴾ [البقرة: الآية ١٧٠].
فَأَلْزَمَ اللَّه تعالى اتِّباع الحجة، وعدم التقليد بغير حجة فدل على صحة ما قلنا، واللَّه أعلم.
بَابُ الْقَوْلِ فِيمَا يَجُوزُ فِيهِ التَّقْلِيدُ
فمما يجوز عند مالك في مثله التقليد للعامي (^١) ما ليس للعالم فيه طريق إلا نَدَرَ أن يكون من أهله، ويجوز عند مالك أن يقلد القائف في إلحاق الولد بمن يلحقه، إذا كان القائف عدلًا في دينه بَصِيرًا بِالقِيَافَة؛ لأنه علم قد خصهم اللَّه ﷿ به.
والدليل على ذلك ما روي عن النبي ﷺ في قصة مُجَرِّزِ المدلجيِّ، وقوله ﷺ لما رأى أقدام زَيْد وأُسَامَةَ أنَّ بَعْضَ هَذِهِ الأَقْدَامِ من بَعض فَسُرَّ بذلك النبي ﷺ وذكره لعائشة ﵂ (^٢) - والنبي ﷺ لا يسر إلا بالحق". وقد روى ابْنُ نَافِعٍ عن مالك أنه لا يقبل إلا من قَائفَيْن ذَكَرَيْن، ويجوز تقليد الناصر في تقويم المتْلفَات، ويكفي في ذلك واحد إلا أنْ تَتعلَّق القيمة بحدٍّ، فلا بدّ من اثنين لمعرفتهم بذلك وطول دُرْبَتِهِمْ له.
قال القاضي: وقد وجدت في موضع أنه لا يجوز في كل تَقْويم إلا اثنان وإنما جاز تقليده في ذلك؛ لأنه علم يختص به، والضرورة تدعو إليه، فجاز قَبُول قولهم فيه، ويجوز تقليد القَاسِمِ إِذَا قسم شيئًا بين اثنين، على ما رواه ابْنُ نَافِعٍ عن مالك، وهذا كما يقلد المقوّم في أُروش الجنايات لمعرفته بذلك، وكان الشيخ أَبُو بكر بْنُ صَالِحِ الأَبْهريُّ يقول: يجب أن يكون بِقَيِّمَين، ثم رجع عن ذلك وروى ابْنُ القَاسِم عن مَالِكٍ: أنه لا يقبل قول القاسم فيما قسم، وإن كان معه آخر؛ لأنه يشهد على فعل نفسه كالحاكم إِلا أن يكون الحاكم أرسلها، فتقبل شهادتهما.
_________
(^١) انظر تعريف العامي في البحر المحيط ٦/ ٢٨٣، ٢٨٤.
(^٢) الحديث عند البخاري ١٢/ ٥٧، ومسلم ٢/ ١٠٨١، وأبو داود ٢/ ٢٨٠، والترمذي ٤/ ٣٨٣.
1 / 16
ويجوز تقليد الخَارِصِ فيما يخرصه، ويكفي في ذلك واحد، وقد كان النبي ﷺ يبعث ابْنَ رَوَاحَةَ على الخَرْصِ وحده، ويجوز تقليد الرَّاوي فيما يرويه إذا كان عدلًا، وكذلك الشاهد فيما يشهد به، إلا أن الشهادة باثنين عَدْلَيْن، والأخبار يقبل فيها الواحد العدل حرًّا أو عبدًا، ذكرًا أو أُنْثى، ويجوز تقليد الطَّبيب فيما يرد إليه من علم الجراح وغيرها مما لا يعلم إلا من جهته للضرورة إِلَى ذلك، ويجوز تقليد الملاح إذا خفيت الدلائل في جهة القبلة على الذين يَرْكَبُون معه إِذا كان عدلًا، وكانت عادته جارية بسَيْره في الماء والبحار للضرورة إليه، وكذلك كل من كانت صناعته في الصحراء، يجوز تقليدهم في القبلة لمعرفتهم بها وأنه لا يمكن كل أحد تعاطيه ولا معرفته، وكذلك مَنْ هو في البادية يجوز تقليده في القبلة، إذا كان عارفًا بالصلاة، وكان عدلًا في باديته لمداومتهم مشاهدة جهة القبلة ودلائلها، والضرورة إليهم في ذلك عند خفاء دلائلها.
بَاب الْقَوْلِ في تَقْلِيدِ الْعَامِيِّ لِلْعَالِمِ
فأما تقليد العامِّي للعالم، فجائز عند مالك في الجملة. والأصل فيه قول اللَّه ﷿: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: الآية ٤٣] وأيضًا قوله: ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾ [النساء: الآية ٨٣].
وهذا ما لا خلاف فيه نعلمه، واللَّه أعلم.
بَابُ الْقَوْلِ في تَقْلِيدِ العَامِّيّ لِلعامِّيِّ
عند مالك ﵀ ليس لِعَامِّيِّ أن يقلَّد عامِّيًّا بوجه إلا في أشياء: منها رؤية الهلال إذا أراد به علم التاريخ فإنه يُقْبَل قوله وحده؛ لأنه خبر وإن كان مما يتعلق به فرض في دينه، مثل صوم رمضان والفطر منه، فلا بد من اثنين عَدْلَيْن؛ لأنه من باب الشهادات، وفي كلا الأَمْرَيْنِ الأخبار، والشهادات لا بد من العدالة.
ومن ذلك قَبُول الهدية بالرسول الواحد والإذن بالواحد لعُرْف الناس واستعمالهم، وجري عادتهم به، فهو يقبل من البالغ، وغير البالغ والذكر والأُنْثَى، والمسلم والكافر والواحد والاثنين، والحر والعبد، ويقبل قول القَصَّاب في الزكاة؛ لأن الإنسان يشتريه على الظاهر أنه زكى، فلو لم يخبره لما ضرّه، فهو يقبل من الذكر والأنثى، ومن مثله يذبح، والمسلم والكتابي، واللَّه أعلم.
1 / 17
بَابُ القَوْلِ فِيمَا يَلْزَم الْمُستفتي العَامِّيِّ
يجب عند مَالِكٍ على العامِّي إِذا أراد أن يستفتي ضربًا من الاجتهاد (^١)، وهو أن يقصد إلى أهل ذلك العلم الذي يريد أن يسأل عنه ولا يسأل جميع من يلقاه، ولكنه إذا أرشد إلى فقيه نظر إلى هيئته وحذقه وصنعته، وسأل عن مبلغ علمه وأمانته، فمن كان أعلى رُتْبَةً في ذلك استفتاه، وقبل قوله وفتواه؛ لأن هذا أوفق لدينه وأحوط لما يقدم عليه من أمر شريعته، ويصير هذا بمنزلة الخبرين والقِيَاسين إذا تعارضا عند العالم، واحتاج للترجيح بينهما، وترجَّح بينهما، وكذلك العامي في المَعْنيين، واللَّه أعلم.
بَابُ القَوْلِ فِيمَا يَلْزَمُ فِيهِ الاجْتِهَادُ وَمَا لَا يَلْزَمُ
ومذهب مَالِكٍ إِذا دخل رجل إلى قرية خَرَاب لا أحد فيها، وحضر وقت الصلاة، فإن كان من أهل الاجْتِهَاد، ولم يَخْفَ عليه دلائلِ القبلة يرجع إلى ذلك، ولم يلتفت إلى غير ذلك، ولم يلتفت إلى محاريب يشاهدها في آثار مساجد قد خربت، فإن خفيت عليه الدلائل، أو لم يكن من أهل الاجتهاد، وكانت القَرْيَة للمسلمين، فإنه يصلِّي إلى مُصَلَّى تلك المحاريب؛ لأن الظاهر من بلاد المسلمين أن مساجدهم وآثارهم لا تَخْفَى وأنَّ قبلتهم وَمَحاريبَهُمْ على ما توجبه الشريعة، وأما إذا كانت محاريب منصوبة في بلاد المسلمين العامرة، وفي المساجد التي تكثر فيها الصلوات وتتكرَّر، ويعلم أن إمامًا للمسلمين بناها، واجتمع أهل البلد علي بنائها، فإن العالم والعامي يصلون إلى تلك القبلة، ولا يحتاجون في ذلك إلى الاجتهاد؛ لأنها معلوم أنها لم تُبْنَ إلا بعد اجتهاد العلماء في ذلك، وأما المساجد التي لا تجري هذا المجرى، فإن العالم إذا كان من أهل الاجتهاد، فسبيله أن يستدل على الجهة، فان خفيت عليه الدلائل صلى إلى تلك المحاريب إذا كان بلدًا للمسلمين عامرًا؛ لأن هذا أقوى من اجتهاده مع خفاء الدلائل عليه، فأما العامِّي فيصلي في سائر المساجد؛ إذ ليس من أهل الاجتهاد، واللَّه أعلم.
_________
(^١) وهو لغة: افتعال من الجهد وهو المشقة وهو الطاقة. وفي الاصطلاح: بذل الوسع في نيل حكم شرعي عملي بطريق الاستنباط، انظر البرهان ٢/ ١٣١٦، نهاية السول ٤/ ٥٢٤، المستصفى ٢/ ٣٥٠.
1 / 18
بَابُ القَوْلِ فِيمَا لَا يَجُوزُ فِيهِ التَّقْلِيدُ وَمَا يَجُوزُ
ولا يجوز عند مالك ﵀ لعالم ولا عامِّي أن يقلد في زوال الشَّمس، لأنه أمر يشاهد، ويصل كل واحد منهم إلى معرفته، بل العامي يقلِّد العالم في أن وقت الظهر هو إذا زالت الشمس، ويقلده في أوقات الصلوات أنها هي الأوقات التي وَقْتَهَا رسول اللَّه ﷺ؛ لأن هذا أمر يعلمه أهل العلم بالتوقيف، وليس مما يشاهد، فإن كان في العامة مَنْ يخفى عليه علم الزوال، ولا يتمكن من إدراكه، جاز أن يقلَّد فيه كما يقلد في سائر ما لا مَعْرِفَةَ له به، واللَّه أعلم.
بَابُ الْقَوْلِ فِي اسْتِعْمَاله العَامّيّ ما يُفْتَى بِهِ
يحتمل مذهب مَالِكِ إذا استفتى العامي العالم في نازلة، فأفتاه، ثم نزلت مثل تلك النازلة بالعامّيّ مرة أخرى، فيحتمل أن يقال: إنه يستعمل تلك الفتوى، ولا يحتاج إلى أن يسأل ثانية؛ لأنه على الظاهر قد ساغ له، ولو كلف ذلك لشقّ عليه، وهذا إذا كانت المسألة بعينها، وما لا إشكال فيه على أحد، ويحتمل أن يقال: أو عليه أن يسأل، ولعله الأصح؛ لأنه يعمل باجتهاد ذلك الفَقِيه، ولعل اجتهاده في وقت ما أفتاه قد تغيَّر عما كان أفتاه به في ذلك الوقت، وهذا مثل من يجتهد بالقبلة فَيُصَلِّي، ثم يريد أن يصلّي صلاة أخرى، فإنه يجتهد ثانية، ولا يعمل على الاجتهاد الأول.
بَابُ الْقَوْلُ فِي تَقْلِيد مَنْ مَاتَ مِنَ الْعُلَمَاءِ
إذا حكى للعامي عن مالك ﵀ أو عَنْ غَيره من العلماء، وهو في غير عصره فتوى في مسألته، فإنه يجوز للعامي أن يقلد مالكًا بعد موته، وكذلك غيره من العلماء الذين اشتهرت أمانتهم؛ لأن العامي إذا جاز له أن يعمل على اجتهاد بعض أصحاب مالك، كان عمله على اجتهاد مالك أولى، فإن لم يكن أولى منه، فهو مثله، ويكون مَالِك كأنه باقٍ لأن قوله بمنزلته وهو حيّ.
وتصير منزلة مَالِك مع العامِّيّ كمنزلة مَالِكٍ مع الصحابي أنه يرجع إلى قوله وإن كان ميتًا، ويكون قول الصحابي أول من أهل عصر الإِمام مالكٍ.
بَابُ الْقَوْلِ فِيمَا يُوجَدُ في كِتَابِ الْعُلَمَاءِ
قال القَاضِيُّ: إِذا وجد الرجل كتابًا مترجمًا مثل كتاب مُوطَّأ مالك أو كتاب الثورِيِّ أو الأوْزَاعِي أو الشَّافِعيّ، فهل يجوز له أن يقال في شيء يجده فيه، قال مَالِكِ، وقال الثَّوْرِيُّ، وقال الأَوْزَاعِيُّ، وقال الشَّافِعِيُّ.
1 / 19
قال القَاضي: فهذا سبيله أن ينظر، فإن كان من الكتب التي قد اشتهر ذكرها مثل "الموطَّأ" لمالك، و"جامع الثوري"، وكتب الرَّبِيعِ، جاز أن يعزى ذلك للمترجم عنه إذا كان الكتاب صحيحًا مقروءًا على العلماء معارضًا بكتبهم، وإن كان من الكتب التي لم تشتهر، ولم ينشر ذكرها لم يجز ذلك حتى يروي ما فيه عمن ينسب إليه بروايات الثقات عنه، واللَّه أعلم.
بَابُ الْقَوْل فِي التَّرْجَمَةِ عَلَى المُفْتِي
مذهب مالك ﵀ إذا كان الفقيه عربيَّ اللسان ولا يحسن بالفارسية أو غيرها من الألسن، وكان المفتي عجميًّا لا يحسن بالعربية، فجاء رجل يحسن لسان العرب والعجم، وهو عامي فترجم للفقيه عن الأعجميّ ما قاله، وترجم عن الفقيه للأعجمي ما قاله، وأفتاه به، فيجوز ذلك، ويصير طريقه طريق الخبر، ويجب أن يكون الترجمان عربيًّا كما يقول في نقل الخبر ويكون معبرًا للفتوى بلسانه حَسَبَ ما قاله الفقيه للأعجمي من غير تغيُّرٍ له عن معناه، وكذلك إذا بعث الرجل بسؤاله إلى الفقيه، فأجابه بالخط أي: بعَثَ بسؤاله في رُقْعَة إلى الفقيه، فأجابه بخطّ، فيجب أن يكون الرسول ثقة؛ لأن هذه من الأمور التي جرت العادة بها في كل عصر وزمن وإلى الناس ضرورة إليها واللَّه أعلم.
بَابُ الْكَلام فِي وُجُوبِ أَدِلَّةِ السَّمْعِ
قال القاضِي: قَد بَيَّنَّا قول مالك ﵀ في بُطْلانِ التَّقْلِيد، ووجوب الرجوع إلى الأصول ومعانيها، فمن الأصول السمعية عند مَالِكٍ الكتاب والسنة والإجماع واستدلالات منها والقياس عليها فصل في الكتاب. . . وكتاب اللَّه ﷿ هو الذي كان وصفه اللَّه -تَعَالَى- فقال: ﴿وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (٤١) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (٤٢)﴾ [فصلت: الآيتان ٤١، ٤٢].
وقال تعالى: ﴿لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: الآية ٢].
وقال تعالى: ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾ [الأنعام: الآية ٣٨].
فلم يفرط فيه في شيء من أمر الدين، بل جعله تبيانًا لكل شيء وشفاء وهدى.
وقال تعالى: ﴿فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (١٨) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (١٩)﴾ [القيامة: الآيتان ١٨، ١٩].
1 / 20
وقال ﷿: ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (٨٨)﴾ [الإسراء: الآية ٨٨] أي: عوينًا.
فقطع عذر الخَلْق به وبإعجازه، وظهر إعجازهم عن أن يأتوا بسورة من مثله، فثبتت آياته ولزمت حجته.
فصل في السُّنَّة
وأما سُنَّة الرسول ﵇ -فأصل ذلك في كتاب اللَّه- ﷿، قال اللَّه تعالى: ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ﴾ [النساء: الآية ٨٠].
وقال ﷿: ﴿أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾ [النساء: الآية ٥٩].
وقال تعالى: ﴿لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا﴾ [النور: الآية ٦٣] إلى قوله: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ﴾ [النور: الآية ٦٣].
وقال تعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ [الحشر: الآية ٧].
وقال تعالى: ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ﴾ [النساء: الآية ٥٩].
وقال: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (٦٥)﴾ [النساء: الآية ٦٥].
فأوجب اللَّه ﷿ علينا طاعة رسوله ﷺ كما أوجب علينا طاعته نفسه سبحانه.
وقرن طاعته بطاعته، وأمر بأخذ ما أتى به والانتهاء عما نَهَى عنه، وأخبر أنه ولاه بيان ما نزل إليهم، وقال تعالى: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (٣) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (٤)﴾ [النجم: الآيتان ٣، ٤]. . . إلى آيات كثيرة تدلُّ على وجوب السنة كوجوب الكتاب.
فصل فِي الإِجْمَاعِ
وأما الإجماع فأصله في كتاب اللَّه ﷿ -أيضًا قال اللَّه تعالى: ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ إلى قوله: ﴿وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ [النساء: الآية ١١٥].
وقال تعالى: ﴿أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ [النساء: الآية ٥٩].
1 / 21
وقال تعالى: ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾ [النساء: الآية ٨٣].
فأمر تعالى باتِّباع سبيل المؤمنين وحذر ترك اتباعهم، كما حذر في ترك اتِّباع رسول اللَّه ﷺ وأمر بطاعة أُولي الأمر منهم مقرونةً بطاعة اللَّه -وطاعة رسوله- ﵇.
فَقِيلَ في "أُولى الأَمْر": إِنَّهُمُ العُلَمَاء
وقيل: أمراء السرايا، وهم من العلماء أيضًا، فيحتمل أن تكون الآية عامَّة في العلماء وأمراء السرايا على أنَّ أُمَرَاء السرايا من جملة العلماء؛ لأنه لم يكن يولى عليهم إلا من علماء الصحابة وفقهائهم، فأمر اللَّه -تعالى- بالرَّد إليهم واتباع سبيلهم، فصحَّ أنهم حجَّة لا يجوز خلافُهُم، فهذه أصول السمع وأصلها كلها في الكتاب كما قد رأيت، وهي مضافة لبيان الكتاب لقوله تعالى: ﴿تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ [النحل: الآية ٨٩] وقوله: ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾ [الأنعام: الآية ٣٨].
وعلى هذا إضافة ما أجمع عليه مما لا يوجد له في الكتاب نصّ، ولا في السنة ذكر؛ لأن الكتاب أمر بِقَبُول ذلك كله ووجبت حجته جميعه، وهذا تقليد من لزم تقليده من أولي الأمر وهم العلماء كما ذكرنا.
فصل فِي الاسْتِدْلالِ وَالْقِيَاسِ
ثم دل الكتاب على الاستنباط والاستدل الذي غير موضع قال اللَّه ﷿: ﴿فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ﴾ [الحشر: الآية ٢].
وقال تعالى: ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ﴾ إلى قوله: ﴿تَأْوِيلًا﴾ [النساء: الآية ٥٩].
فكان في ذلك دليل على الانتزاع من الأصول وإلحاق المسكوت عنه بالمذكور على وجه الاعتبار، وهذا هو باب القياس والاجتهاد.
وأصله في الكتاب، وهو أيضًا مضاف إلى بيانه، وليس شيء من الأحكام يخرج من الكتاب نصًّا، وعن السُّنَّة والإجماع والقياس.
وقد انطوى تحت بيان الكتاب ذلك كله، وفي ذلك بيان معنى قوله: ﴿تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ [النحل: الآية ٨٩].
1 / 22
وقوله: ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾ [الأنعام: الآية ٣٨].
وقوله: ﴿وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ﴾ [يونس: الآية ٥٧]، واللَّه أعلم.
فَصْلٌ فِي الْقِيَاسِ (^١)
ومذهب مالك ﵀ القول بالقياس، وقد بَيَّنَّا الحُجَّة له، والدليل أيضًا على صحّة القياس، وهو إجماع الصَّحابة ﵃ على تسويغ بعضهم لبعض القول بالقياس والاستعمال له في الحوادث أعلا [. . .] أن بعضهم لبعض شبه بالشجرة، وبعضهم شبه بالنَّهر في مسائل الجَدّ والأخوة.
وبقول ابْنِ عَبَّاسٍ لو لم يعتبر الإنسان في العقل إلا بالأصابع وغير ذلك مما يطول ذكره مما هو مشهور عنهم، ولم ينكر أحد منهم على الآخر ما ذهب إليه من جِهَة القياس، فَدَلَّ على إجماعهم على القول بالقياس، وعلى حُجِيَّتهِ، وأنه ممَّا يتوصل به إلى علم الحوادث مع ما ذكرناه من دلائل الكتاب والسنة والإجماع على صحته، ووجوب القول به، وباللَّه التوفيق.
بَابُ القَوْلِ فِي الْخُصُوصِ (^٢) وَالْعُمُومِ (^٣)
قال القَاضِي: من مذهب مالك ﵀ القول بالعموم، وقد نصّ عليه في كتبه في مسائله حيث يقول محتجًّا لإيجابه اللعان (^٤) بين كل زوجين لعموم إيجاب اللَّه ﷿ ذلك بين الأزواج، وكذلك قال: وقد سئل عن عِدّة (^٥) الصغيرة من الوفاة واحتجَّ بقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ﴾ إلى قوله: ﴿وَعَشْرًا﴾ [البقرة: الآية ٢٣٤] وقد احتج لقوله: إن الاعتكاف لا يكون إلا في المساجد، سواء كان جامعًا أو غيره بقوله تعالى: ﴿وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ﴾ [البقرة: الآية ١٨٧].
_________
(^١) انظر تعريف القياس في البرهان ٢/ ٧٤٣، التمهيد للأسنوي في (٤٦٣)، والإحكام للآمدي ٣/ ١٦٧، ونهاية السول ٤/ ٢.
(^٢) الخصوص جمع خاص وهو اللفظ الدال على مسمى واحد. انظر البحر المحيط ٣/ ٢٤٠.
(^٣) في اللغة: شمول أمر المتعدد، سواء كان الأمر لفظًا أو غيره، واصطلاحًا: اللفظ المستغرق لجميع ما يصلح له من غير حصر، انظر البرهان ١/ ٣١٨، نهاية السول ٢/ ٣١٢، المستصفى ٢/ ٣٢، الإحكام للآمدي ٢/ ١٨٥.
(^٤) انظر المصباح المنير ٢/ ٧٦١.
(^٥) انظر الصحاح ٢/ ٥٠٥.
1 / 23
قال مالك: جمع اللَّه ﷾ المساجد كلها، ولم يخص مسجدًا عن مسجد، وحكم هذا الباب عنده أن الخطاب إذا ورد باللفظ العام نظر، فإن وجد دليل يخصّ اللفظ كان مقصورًا عليه، وإن لم يوجد دليل يخصه أجرى الكلام على عمومه، ووجه ذلك أن فِطْرَة اللسان في العلم الذي وصفته، واحتمال الخصوص إذا لم يكن محتملًا لذلك كان سنة، فوجب أن يجري حكمه على جميع ما استعمل عليه، ولو كانت عينه توجب ذلك، لم يجز أن يوجد في الخطاب لفظ علم أريد به الخصوص، ولا جاز أن يقوم دليل على خصوص لفظ علم، وفي وجود ذا الأمر بخلاف ذلك دليل على أنَّ غير اللفظ لا يوجب العموم، وَإِذَا كان ذلك كذلك علم احتماله، ومتى علم أنه محتمل لم يجز الإقدام على الحُكْم به دون البَحْث والنَّظَر في المراد به، والمعنى الذِي يخرج عليه؛ لأن اللَّه ﷿ أمرنا باتِّبَاع كتابه وسنة نبيه والاعتبار بهما، والرد إليهما فذلك كله كالآية الواحدة.
فلا يجوز ترك شيء من ذلك مع القدرة عليه، وإذا لم يجز ذلك وجب أن ينظر ولا يهجم بالتنفيذ، قبل التأمل كما لا يبادر بذلك في الكلام المتصل إلى أن ينتهي إلى آخره، فينظر آخرُهُ، هل يتبعه استثناء أم لا؟ وكذلك الكتاب والسنة والأصول كلها كالآية الواحدة، ولا يجوز أن يبادر إلى التنفيذ حتى يتدبر وينظر، فإن وجد دليل يخصّ حَمَلْنا الخطاب عليه، وإن لم يجد فقد حصل الأمر، والمراد به التنفيذ، وإنما جعلت الأسماء دليلًا على المسمَّياتِ، وقد ورد اللفظ مشتملًا على مسمَّيَّات، فليس بعضها أولى من بعض، وقدم عليه فهو على عمومه، والحكم جاء على جميع ما انطوى عليه؛ لأن قضية العقول أن كل مُتَساويين، فحكمهما واحد من حيث تساويا إلا بأن يخص أحدهما معنى يوجب إجراءة عن صاحبه، وإذا عده دليل الأفراد فلا حكم إلا التسوية؛ إذ ليس أحدهما أولى من الآخر وإذا كان هكذا صحّ ما قلنا في العموم والخصوص، وباللَّهِ التوفيق.
بَابُ الكلامِ في الأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي (^١)
عند مالك ﵀ أن الأوامر على الوجوب إذا وردت من مفروض بالطاعة، وقد احتجّ حيث سئل عن تَمَام ما يدخل فيه القرب بقوله ﷿: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾ [البقرة: الآية ١٩٦] وبقوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ﴾ [البقرة: الآية ١٨٧].
_________
(^١) انظر البرهان ١٠/ ٢٠٣، الأحكام للآمدي ٢/ ١٢٠، نهاية السول ٢/ ٢٢٦، المستصفى ١/ ٨١.
1 / 24
والدليل على صحة ذلك أن المفروض الطاعة إذا قال لمن تلزمه طاعته: افعل، لم يعقل منه لا تفعل، ولا ما في معناه، ولا توقف، ولا ما في معناه، ولا أنت مُخَيَّر، ولا ما في معناه، فلم يبق إلا البخاري الفعل وإنجازه من المأمور به، فدل على أن الأوامر تدل على الوجوب إذا تجردت عن القرائن التي تدل على الندب (^١) وغيره، واللَّه أعلم.
بَابُ الْقَوْلِ فِي أَفْعَالِ النَّبِيِّ ﷺ- (^٢)
ومذهب مالك ﵀ أن أفعال النبي ﷺ على الوجوب، وقد أباح ذلك، والثاني: أنه لا يتبع فيه إلا بدليل، هكذا حكى الخلاف في "شرح الطريقين في العيد"، وعن الماوَرْدِي أن ما فعله النبي ﷺ لمعنى فزال ذلك المعنى، فيه قال ابن القطان: ولا خلاف فيه.
قال في مواضع كثيرة احتجاجًا بقوله تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ [الأحزاب: الآية ٢١] وسواء كان ذلك حظرًا أو إباحة حتى يتبيَّن أنه ﵇ مخصوص بذلك دوننا، وقد أسقط مالك ﵁ الزَّكَاة في الخضراوات اقتداء بأنها لم يأخذها النبي ﵇ فدلّ على أن أفعاله ﷺ عنده على الوجوب، وقال تعالى: ﴿فَاتَّبِعُوهُ﴾ [الأنعام: الآية ١٥٣].
والأمر على الوجوب، فوجب اتباعه ﵇ في قوله وفعله، وكذلك قال عمر ﵁ لَمَّا قَبَّلَ الحَجَرَ: "إِنِّي لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولَكنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَبَّلَكَ".
وكذلك خلعت الصَّحابة ﵃ نعالهم لدخول الكعبة، وقالوا: رأينا رسول اللَّه ﷺ خَلَعَ نَعْلَين لدخولها، فدل على أن أفعاله على الوجوب إلا أن يقوم دليل الخصوص.
بَابُ الكَلامِ في الأَخْبَارِ وَالقَوْلِ في التَّوَاتُرِ (^٣)
ومذهب مالك ﵀ قَبُول الخبر الذي قد اشتهر واستغنى عن ذكر عدد
_________
(^١) الندب هو في اللغة المدعو إليه. وفي الاصطلاح: الفعل الذي طلبه الشارع طلبًا غير جازم، انظر البرهان ١/ ٣١٠، الأحكام للآمدي ١/ ١١١، نهاية السول ١/ ٧٧، المستصفى ١/ ٧٥.
(^٢) انظر البرهان ١/ ٣٨٣، الأحكام للآمدي ١/ ١٥٨، نهاية السول ٣/ ٦٤.
(^٣) التواتر: هو في اللغة المتتابع أو مع فترات، وفي الاصطلاح: ما رواه جمع يحيل العقل =
1 / 25
ناقليه لكثرتهم، كمواقيت الصلاة وأركان الحج التي لا يتم إلا بها، وتحول القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، وأشباه ذلك من الشرائع التي تواترت الأخبار بها عن رسول اللَّه ﷺ وهذا هو الخبر المُتواتر الذي يوجب العلم، ويقطع العذر، ويشهد على مُخبره بالصدق، ويرتفع معه الرَّيْب، وهذا مما لا خلاف فيه بين فقهاء الأمصار، وسائر الأُمَّة، ولا ينكره إلا من خرج عن الجماعة ومَرَق من الدين وخالف ما عليه المسلمون، ولأنه بمثله تعرف أخبار الأنبياء والرسل والمماليك والدول والأيّام والأسلاف، وما لم نشاهد من البلدان مثل الصين، وَخُراسَانَ، فمن أنكر ذلك لزمه أن يتوقف عن معرفة هذه الأشياء، ومن توقَّف عن هذا بأن عَوَار مذهبه، وقبح طريقته وعناده ومكابرته وخروجه عن جميع ما عليه العقلاء، وكفى بهذا بطلانًا وفسادًا، وباللَّه التوفيق.
بَابُ القَوْلِ في خَبَرِ الْوَاحِدِ العَدْلِ (^١)
ومذهب مالك ﵀ قَبُول خبر الواحد العدل، وأنه يوجب العمل دون القطع على عَيْنِهِ، وبه قال جميع الفقهاء، وقد احتج مالك بذلك في الْمُتَبايعِينِ بالخيارِ مَا لَمْ يَفْتَرقَا (^٢)، وكَذَلِكَ في غَسْلِ الإِنَاءِ من وُلُوغ الْكَلْبِ (^٣)، وفي مواضع كثيرة.
والدليل على وجوب العمل به قوله ﷿: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا. . .﴾ إلى قوله: ﴿نَادِمِينَ﴾ [الحجرات: الآية ٦]، فدل على أن العدل لا يثبت في خبره، إذ لو كان الفاسق والعدل سواء لم يكن لتخصيص الفاسق بالذِّكْر فائدة، وإنما لم يقطع على عَيْنه؛ لأن العلم لا يحصل من جهته؛ إذ لو كان يحصل من جهته العلم لوجب أن يستوي فيه كل مَنْ سمعه كما يستوي في العلم بمخبر خبر التواتر، فلما كنا نجد أنفسنا غير عالمين بصحة مخبره، دل على أنه لا يقطع على معينه، وأنه بخلاف التَّواتر، وصار خبر الواحد، بمنزلة الشَّاهد الذي قد أمرنا بقَبُول شهادته، وإن
_________
= تواطأهم على الكذب عادة من أمر حسي، أو حصول الكذب منهم اتفاقًا ويعتبر ذلك في جميع الطبقات إن تعددت، انظر البحر المحيط للزركشي ٤/ ٢٣١، الأحكام للآمدي ١/ ١٤.
(^١) انظر البحر المحيط للزركشي ٤/ ٢٥٧، البرهان ١/ ٥٩٩، نهاية السول ٣/ ٩٧، والأحكام للآمدي ٢/ ٣٠.
(^٢) أخرجه البخاري ٤/ ٣٨٢، ومسلم ٣/ ١١٦٣.
(^٣) أخرجه مسلم ١/ ٢٣٤، وأبو داود ١/ ١٩، والترمذي ١/ ١٥١.
1 / 26
كنا لا نقطع على صدقه، فإن قيل: إن في سياق الآية ما يوجب التوقُّف عن خبره، وهو قوله ﷿: ﴿أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ﴾ [الحجرات: الآية ٦].
والجَهَالَة قد تدخل في خبر العدل من حيث كان خبره، ولا نقطع على غيبه، ومن حيث كان السَّهْو والغلط والكذب جائزًا عليه.
قيل: الجهالة في هذا الموضع هي السَّفَاهة وفعل ما لا يجوز فعله مما يقع التوبيخ والذم عليه، وقد جاز التوبيخُ على الجهل في بعض المواضع، ولو كانت الجهالة لا تكون إلا بمعنى الغَلط لقبح الذم والتوبيخ على فعلها، والدليل على صحّة التأويل قوله ﷿: ﴿فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾ [الحجرات: الآية ٦] والندم إنما يكون على ارتكاب المنهي.
والدليل أيضًا على ذلك أنه لو كانت العلّة في وجوب التوقف عنه في الجهل بخبره، لم يجز قَبُول خبر الشاهدين لهذه العلّة، فلما أجاز اللَّه -سبحانه- ذلك وأمر بِقَبُولِهِ دلَّ على فساد قول من ردّ خبر الواحد بذلك، واللَّه أعلم.
بَابُ الْقَوْلِ فِي الخَبَرِ الْمُرْسَلِ (^١)
ومذهب مالك ﵀ قبول الخبر المرسل إذا كان مرسله عدلًا عارفًا بما أرسل، كما يقبل المسند، وقد احتجّ به في مواضع كثيرة حيث أرسل الخبر في اليمين مع الشاهد، وعمل به، وكذلك أرسل الحديث في الشفعة وللشريك وعمل به، وكذلك أرسل الخبر في ناقة البراءِ، وسائر جنايات المواشي، فعمل بذلك، والحجة له أن المُرْسل إذا كان عدلًا متيقظًا، فقد أسقط عنا بعدالته ويقظته تعديل من لم يذكره لنا ممن روي عنه وناب منابنا، وكفانا التماس عدالة من نقل عنه، فوجب لمن وجب تقليده في عدالته أن يقلده في أنه لا يروي عن غير عدل ثقة، وقد علم أنه إذا صرح بذكر مَن روى عنه، فقد وَكَّل الاجتهاد إلينا لنعتبر حاله بأنفسنا، وأنه إذا أَضَنَّ بمن ذكره، فقد استبذ بعلم ما خقي علينا من عَدَالته، وأن يعمل على ذلك من كان مرضيًّا عندنا ضابطًا متيقظًا إلا وقد بالغ في الثقة مقن روي عنه، وأن يقول: قال رسول اللَّه ﷺ الأمر، حيث يصح عنده أن النبي ﷺ قاله: ولم يزل أصحاب رسول اللَّه ﷺ يرسلون، ويخبر بعضهم بعضًا فيذكرون من أخبرهم تارة، ويستغنون عن ذكره أخرى، وكذلك
_________
(^١) هو في اللغة من الإرسال وهو يقابل الإمساك وفي الاصطلاح انظر البرهان ١/ ٦٣٢، الأحكام للآمدي ٢/ ١١٢، نهاية السول ٣/ ١٩٧، المستصفى ١/ ١٦٩.
1 / 27
التابعون بعدهم وتابعوهم، فدل على صحة ما قلناه، وأنه إجماع من الفقهاء، والمحدثون يستعملونه في كل عصر وزمان، فوجب أنه جهل معمول به واللَّه أعلم.
بَابُ الْكَلام فِي إِجْمَاعِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَعِلْمِهِمْ (^١)
قَدْ تقدّم أن مذهب مالك ﵀ وسائر العلماء -القول بإجماع الأمة، ومِن مذهب مالك العمل على إجماع أهل المدينة، فيما طريقه التوقيف منه ﵇ كإسقاط زكاة الخضراوات؛ لأنه معلوم أنها قَدْ كانت في وقت النبي ﷺ، ولم ينقل أنه أخذ منها الزكاة، وإجماع أهل المدينة على ذلك، فعمل عليه، وإن خالفهم غيرهم، وقد احتجّ مَلِك ﵀ بذلك في مَسَائِل يكثر تَعْدَادها، حيث يقول الأمر الذي لا اختلاف عندنا، وهو من خبر التواتر الَّذِي قد بَيَّنَا أَنَّه مذهبه وحجته في أنهم أَوْلَى من غيرهم فيما طريقه النقل عن النبي ﷺ؛ لأن الرسول ﵇ كانت هجرته إلى المدينة ومقامه بها، ونزول الوحي عليه فيها، واستقراء الأحكام والشَّرائع بها، وأهلها مُشَاهِدون لذلك كله، عالمون به لا يخفى عنهم شيء منه، وكانت حياته ﷺ معهم إلى أن قبض- على أوجه إما أن يأمرهم بالأَمر فيفعلونه، أو يفعل الأمر، فيتبعونه، أو يشاهدهم على أمر فيقرهم عليه، فلما كانت لهم هذه المنزلة منه ﵇ حتى انقطع التنزيل، وقبض بينهم ﷺ فحال أن يذهب وَهُمْ مع هذه الصفة ما سيدركه غيرهم؛ لأن غيرهم ممَّن ظعن منهم إلى المواضع هم الأقل، والأخبار عنهم أخبار الآحاد؛ لأن أعدادهم مضبوطة، وأخبار أهل المدينة أخبار تواتر، فكانت أولى من أخبار الآحاد.
فإن قيل: فقد نقل إلى أهل المدينة أشياء كانت من النبي ﷺ في مغازيه لم يكونوا علموها قبل ذلك من النبي ﷺ.
قيل: الذين نقلوا إليهم ذلك عن النبي ﷺ من أهل المدينة، فلم يخرج النقل عنهم.
فإن قيل: فقد كانت منه ﷺ أشياء بمكة لما حجّ لم تكن بالمدينة.
قيل: قد كان معه أهل المدينة في حجته فهم شَاهدوه أيضًا بـ "مكة"، ونقلوا عنه ما كان منه في حجه وغيره.
_________
(^١) انظر البرهان ١/ ٧٢٠، والأحكام للآمدي ١/ ٧٢٠، ونهاية السول ٣/ ٢٦٣، والمستصفى ١/ ١٨٧.
1 / 28
فإن قيل: فإن اتفق لأهل مكّة مثل خبر أهل المدينة في إجماعهم؛ لأنهم قد شاهدوا النبي ﷺ كما شاهد أهل المدينة، فهذا اتَّفَقُوا على شيء من توقيف، أو ما الغالب منه أن يكون عن توقيف، فهل يجب أن يقبل ذلك منهم؟
قيل: إن اتفق لهم ذلك كانوا هم وأهل "المدينة"، سواء فيما نقلوه عنه ﷺ.
ولكن لا يكاد أن يتفق هذا لغير أَهْل المدينة في أن يكون خبرهم كواسطة لا يتخلله أخبار الآحاد؛ لأن أخبر غيرهم، وإن نقلها جماعة يتخللها أخبار الآحاد في طريقها، أو في وسطها، فخرجت بذلك عن أن تكون تواترًا، وأهل المدينة يحصل لهم في فعلهم صفة التواتر، فبهذا كان خبرهم مقدمًا على خبر غيرهم. واللَّه أعلم.
بَابُ الْقَوْلِ فِي دَلِيلِ الْخِطَابِ (^١)
ومن مذهب مالك ﵀ أن دليل الخطاب معمول به، وقد احتجّ بذلك في مواضع منها حيث قال: من نحو هديه بالليل لم يجزه، لقول اللَّه ﷿: ﴿وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ﴾ [الحج: الآية ٢٨].
دليله: أنه لا يجزيه إذا نحر بالليل وكقوله: من دخل الدار فَأعْطه دِرْهمَا.
دليله: من لم يدخل الدار، فلا تعطه شيئًا، وهذا نص منه في القول بدليل الخطاب.
والوجه فيه أن ينظر عند ورود الخطاب بالشَّرط أو الصِّفَة إلى سياق الكلام وما تقدمه، وما يخرج عليه الخطاب، فإن وجد دليل يدلس على الجَمْع بين المسكوت عنه، وبين المذكور صير إليه، وإن لم يوجد دليل مضى الحكم على ذكره، ثم نظر في حكم المسكوت عنه للمذكور، كمن أقرَّ لرجل بألف درهم فقيل له: إن كان له عليك ألف درهم، فأخرج له منها، وكالعاصي إذا سئل عن رجل قتل ابنه، فيقول العالم: من قتل ابنه فلا قَوَد عليه، فلا يكون ذلك شرطًا في الأب وحده؛ لأنه لا ينبغي القَوَدُ في غيره، وهذا كما نقول: إنَّ سائلًا سأل النبي ﷺ عن المَسْح على الخُفَّين هل يمسح المسافر ثلاثة أيام؟ فقال ﵇: "يَمْسَحُ المُسَافِرُ ثَلاثَةَ أَيَّامِ" (^٢).
_________
(^١) انظر البرهان ١/ ٤٤٩، والبحر المحيط ٤/ ١٣.
(^٢) أخرجه مسلم في صحيحه ١/ ٢٣٢.
1 / 29
ولا يكون مقصورًا على السؤال، وكذلك يخرج ما روي أن النبي ﷺ، قال: "فِي سَائِمَةٍ الغَنَمِ الزَّكَاة" (^١) أَنَّهُ سَأَلَ سَائِلٍ عن هَذَا، وما أشبهه فلا يكون مقصورًا على السؤال لقيام الدَّليل على العَامِلَةِ وَالسَّائِمَةِ في وجوب الزكاة فيهما، وقد يرد الحكم في شيء مذكور ببعض أوصافه، فيكون ممَّا سكت عنه، وقد يساوي المذكور في حكمه، ويكون منه مَا يخالفه.
ألا ترى إلى قوله ﷿: ﴿وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ﴾ [النساء: الآية ٢٣].
كيف اشترط في التحريم حلائل أبناء الأصْلاب، فلم يكن في ذكر ذلك نفي حلائل أبناء البنين، ولم يكن فيه نفي لتحريم حلائل أبناء الرضَاع، واستوى حكم حلائل أبناء الأصْلاب، وحلائل أبناء الرّضَاع في التحريم، ولم يكن أَيْضًا في ذكر الحلائلِ مَنْ يخالف فيمن وطئ الأبناء من الإماء بِمِلْكِ اليمين، بل التحريم واحد.
وقد يرد الخطاب على وجوه، الظاهر منه إذا تجرَّد دلَّ على ما عداه بخلافه إلا أن يقوم دليل، والحُجَّة بقوله بدليل الخطاب إذا تجرد، هو أن ذلك لغة العرب؛ لأن الخطاب إنما يقع باللسان العربي، وبه يحصل البيان، ووجدنا أَهْل اللسان يفرقون بين المطلق والمقيد، وبين المُبْهَمِ، وما يعلّق بالشرط، فإذا قال القائل: من دخل الدار مِنْ بني تميم فأعطه درهمًا عُقِلَ منه، خلاف ما يُعْقَل من قوله: مَنْ دخل الدار فأَعْطِهِ دِرهمًا، وعُقِلَ منه، خلاف ما يُعْقَل من قوله: مَن لم يدخل الدار فأَعْطِهِ دِرْهمًا.
ولذلك تساءل أصحاب رسول اللَّه ﷺ عن القَصْر للصلاة إذَا آمنُوا، لَمَّا سمعوا قوله ﷿: ﴿فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [النساء: الآية ١٠١].
وإذا كان عندهم أن ما عدا الخوف من الأمْن بخلافه، فقال لهم رسول اللَّه ﷺ: "صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ بِهَا اللَّهُ ﷿ عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ" (^٢).
ولم يرد عليهم ما ظنوه ولا خَطَّأهُمْ فيما قدّروه، فدلّ على أن ذلك لغته ﷺ ولغتهم ﵃ فدلّ على صحة القول بدليل الخطاب، واللَّه أعلم.
_________
(^١) أخرجه البخاري ٣/ ٣٦٥ - ٣٦٦، وأبو داود ٢/ ٩٦ - ٩٨، والنسائي ٥/ ١٨ - ٢٣.
(^٢) أخرجه مسلم ١/ ٤٧٨، والترمذي ٥/ ٢٢٧، وابن ماجه ١/ ٣٣٩.
1 / 30
بَابُ الْقَوْلِ فِي الأَسْبَابِ الوَارِدِ عَلَيْهَا الخِطَابُ
ومذهب مالك ﵀ قصر الحكم على السَّبَبِ الذي خرج اللفظ عليه، مَتَى خلا ممَّا يدل على اشتراك ما تناوله اللفظ معه.
وحُكِيَ عن ابْنِ القَاضِي إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَق أن الحكم للفظ دون السبب، قال: وذلك نحو ما روي عن النَّبِيِّ ﷺ وقد سُئِلَ عن بِئْر بضَاعَةَ وما يلقى فيها من الكلاب، فقال: "خلَقَ اللَّهُ ﷿ الماءَ طَهُورًا لا يُنجِّسُهُ شَيْءُ إِلَّا مَا غَيَّرَهُ" (^١).
فحكم على الماء بأنه طهور جنسه، دون الماء الذي سئل عنه، فدلّ على أن كل ما وصفه ما ذكره؛ لأن اللفظ يقتضي ذلك، والحجة له أنه لما كان الموجب للحكم هو اللَّفظ دون السبب، وجب أن يكون هو المراعي دونه، والحجة للوجه الآخر، وهو قول مَالِكٍ، هو: أن السؤال يَفتقِرُ إلى الجواب والجواب سبب السؤال، فقد صار كل واحد منهما سببًا لصاحبه لا بد له منه، فلما كان السؤال مقصورًا كان الجواب كذلك، واللَّه أعلم.
بَابُ الْقَوْلِ فِي الزَّائِد مِنَ الأخْبَارِ (^٢)
من مذهب مَالِك ﵀ قَبُول الزائد من الأخبار، وصورته أن يروي أحد الراويين خبرًا يفيد معنى من المعاني، ويَرْوي آخرُ ذلك الخبر بزيادة لفظة فيه؛ لأن تلك اللفظة تدل على زيادة معاني أخرى في الحَدِيث، وتكون اللفظة الزائدة لو انفردت لاستفيد منها معنى، فيصير الخبر مع زيادته كالخبرين، فمن قَبِلَ خبر الواحد لزمه قَبُول ذلك؛ لأن الزيادة كخبر آخر، فقبولها واجب، واللَّه أعلم.
بَابُ الْقَوْلِ فِيمَا يَخُصُّ بِهِ العُمُومُ
مذهب مَالِكٍ أن الآية العامة إذا كان في العقل (^٣) تخصيصها خُصَّت به وإن لم يكن في العقل تخصيصها؛ فإنه يجوز أن تخصّ بالآية الخَاصّة وكذلك بالسنة المتواترة، وبالإجماع، وخبر الواحد، وبالقياس.
_________
(^١) أخرجه النسائي ١/ ١٧٤، وابن ماجه ١/ ١٧٣، والدارقطني ١/ ٣١، وأخرجه أحمد في المسند ٣/ ٣١ - ٨٦.
(^٢) انظر البرهان ١/ ٦٦٢، والاحكام للآمدي ٢/ ١٥٤، والمحصول ٢/ ١/ ٦٧٧.
(^٣) انظر البحر المحيط ٣/ ٣٥٥، الأحكام للآمدي ٢/ ٢٩٣، ونهاية السول ٢/ ٤٥١.
1 / 31
فصل
فما خص بالكتاب قوله ﷿: ﴿إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٦)﴾ [المؤمنون: الآية ٦].
فكان عامًّا في الجمع بين الأختين بِمِلْكِ اليمين، ثم خصه قوله تعالى: ﴿وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾ [النساء: الآية ٢٣].
وكذلك خصّ قوله ﷿: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ﴾ [البقرة: الآية ٢٢٨] بقوله تعالى: ﴿وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾ [الطلاق: الآية ٤].
فدلّ ذلك على أن قوله: ﴿أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ [النساء: الآية ٣].
إلا أن تكون أختين، فلا تجمعوا بينهما في الوطء، فذلك عدتهن الأقراء إِذا كن من أهل المحيض، وأشباه ذلك كثير في الكتاب.
فصل
وما خصّ من الكتاب بالسنة قوله ﷿: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا﴾ [المائدة: الآية ٣٨].
وهذا عموم، فبَيَّنَ النبي ﷺ أن المراد من ذلك مَنْ سَرق ربع دينار فصاعدًا، وبين الرسول ﵇ -أن السرقة من غير حِرْزٍ لا قطع فيها، وكذلك قوله ﷿: ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ﴾ [التوبة: الآية ٥] عامّ وَبَيَّن الرسول ﵇ مَنْ يَجوز قتله من أهل العَهْدِ والذِّمَّةِ، وغير ذلك مِمَّا بَيَّنه النبي ﷺ بسُنَّتِهِ من عموم الكتاب مما يطول ذكره، وقال اللَّه -سبحانه في نَبِيِّه: ﴿لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ [النحل: الآية ٤٤].
وقال تعالى: ﴿فَاتَّبِعُوهُ﴾ [الأنعام: الآية ١٥٣].
وقال تعالى: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ﴾ [النور: ٦٣].
فصل
وما خص من الكتاب بالإجماع قوله ﷿: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ [النساء: الآية ١١].
1 / 32