Al-Isabah fi Dhib an al-Sahabah
الإصابة في الذب عن الصحابة ﵃ -
Türler
الإصابة في الذب عن الصحابة
﵃
[إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا]
تأليف الدكتور
مازن بن محمد بن عيسى
Bilinmeyen sayfa
المقدمة
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، إله الأولين والآخرين، الملك الحق المبين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، من بعثه الله رحمة للعالمين، وهداية للخلق أجمعين، عليه وعلى آله الطيبين، وصحابته الأكرمين، أنوار الهدى، ومصابيح الدجى، واحشرنا تحت لواء سيد المرسلين، وأدخلنا الجنة معهم أجمعين.
أما بعد:
فإن سنة الاصطفاء والاختيار، سنة جارية، ومنّة باقية، يقول جل شأنه:
[اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ]
الحج ٧٥.
[وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ] القصص ٦٨، والاختيار هنا: الاجتباء والاصطفاء (١).
_________
(١) ابن القيم: محمد: الإمام: زاد المعاد في هدي خير العباد: ط ١٣ ١٤٠٦هـ، مؤسسة الرسالة، بيروت. (١/ ٣٩)
1 / 7
[إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى
الْعَالَمِينَ] آل عمران٣٣.
[وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ]
ص ٤٥ - ٤٧.
يقول الإمام ابن القيم: وإذا تأملت أحوال هذا الخلق، رأيت هذا الاختيار والتخصيص فيه، دالا على ربوبيته تعالى ووحدانيته، وكمال حكمته وعلمه وقدرته، وأنه الذي لا إله إلا هو، فلا شريك له يخلق كخلقه، ويختار كاختياره، ويدبر كتدبيره، فهذا الاختيار والتدبير، والتخصيص المشهود أثره في هذا العالم، من أعظم آيات ربوبيته، وأكبر شواهد وحدانيته، وصفات كماله، وصدق رسله (١).
فاصطفى الله جل وعلا من البشر: الأنبياء والرسل، واختار منهم صفوتهم، وهم: أولوا العزم منهم (٢) قال ﷾ [فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ
_________
(١) ابن القيم: زاد المعاد: ١/ ٤٢
(٢) أولو العزم: أي أولو الجد من الرسل، وهم من حفظ له شدة مع قومه ومجاهدة. قال ابن الأثير: واختلف العلماء في تعيينهم على أقوال أشهرها:
أ- أنهم أصحاب الشرائع وهم: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام، وهو قول مجاهد، وعليه فإن (من) في الآية تكون للتبعيض، وهو قول عطاء الخراساني.
ب- أنهم جميع الرسل، ويكون الرسل كلهم أولو العزم، وهو قول ابن عباس، وعليه، فإن (من) في الآية تكون لبيان الجنس، وهو قول علي بن مهدي الطبري وابن زيد، والقول الأول أشهر.
ابن الأثير: المبارك: الإمام: النهاية في غريب الحديث والأثر، بيت الأفكار الدولية، دون ذكر رقم الطبعة وتاريخها (٦٠٠).
أبو حيان: محمد: الإمام، البحر المحيط في التفسير، دار الفكر، بيروت ١٤٢١هـ: ٩/ ٤٥١.
القرطبي: محمد: الإمام: الجامع لأحكام القرآن: دار الكتاب العربي بيروت ١٤٢٧هـ: ١٦/ ١٨٨
ابن كثير: إسماعيل: الإمام: تفسير القرآن العظيم: دار المعرفة، بيروت ط ٥، ١٤١٢: ٤/ ١٨٥
1 / 8
أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ] الأحقاف ٣٥ واصطفى منهم الرسول الأكرم، والنبي الأعظم، فعن واثلة بن الأسقع، قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: (إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم) (١).
_________
(١) أخرجه مسلم في صحيحه (باب فضل نسب النبي ﷺ، وتسليم الحجر عليه قبل النبوة (٢٢٧٦). وأخرجه الترمذي في جامعه (باب فضل النبي ﷺ (٣٦١٥).وأخرجه أحمد في مسنده، انظر: البنا، أحمد، الشيخ: الفتح الرباني، لترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني، دار إحياء التراث العربي، بيروت، دون ذكر رقم الطبعة وتاريخها ٢٠/ ١٧٥.
*قوله " اصطفى " أي اختار، " كنانة ": بكسر الكاف، وهي عدة قبائل أبوهم، كنانة بن خزيمة من ولد إسماعيل، و"قريش" وهم أولاد نضر بن كنانة كانوا تفرقوا في البلاد، فجمعهم قصي بن كلاب في مكة، فسموا: قريشا، لأنه قرشهم، أي جمعهم، " بني هاشم ": هاشم بن عبد مناف. " واصطفاني من بني هاشم ": أي النبي الكريم، وهو: محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان.
قال النووي: وإلى هنا إجماع الأمة، وأما ما بعده إلى آدم فيختلف الناس فيه أشد اختلاف، قال العلماء: ولا يصح فيه شيء يعتمد. البنا: الفتح الرباني ٢٠/ ١٧٦، المباركفوري، محمد: العلامة، تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي: دار إحياء التراث العربي، بيروت ط ٣/ ١٤٢٢هـ (١٠/ ٧٥).
النووي: يحيى: الإمام: تهذيب الأسماء واللغات: دار الكتب العلمية، بيروت، ط، ١/ ١٤١٨هـ (١/ ٢٩).
1 / 9
وعن أبي هريرة ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من ينشق عنه القبر، وأول شافع وأول مشفع) (١).
واصطفى الله جل وعلا من جملة الأمم، أمة المصطفى عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، فجعلها خاتمة الأمم وخيرها، قال سبحانه [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] آل عمران ١١٠.
وعن حكيم بن معاوية بن حيدة عن أبيه قال: قال رسول الله ﷺ: (أنتم
_________
(١) أخرجه مسلم في صحيحه (في باب تفضيل نبينا ﷺ على جميع الخلائق (٢٢٧٨)
1 / 10
توفون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله ﷿ (١).
قال الإمام ابن كثير: وإنما حازت هذه الأمة قصب السبق إلى الخيرات بنبيها محمد ﷺ فإنه أشرف خلق الله وأكرم الرسل على الله، وبعثه الله بشرع كامل عظيم، لم يعطه نبي قبله ولا رسول من الرسل، فالعمل على منهاجه وسبيله يقوم القليل منه ما لا يقوم العمل الكثير من أعمال غيرهم مقامه (٢).
ومن فضل الله تعالى على هذه الأمة، أن جعلها نصف أهل الجنة، أخرج البخاري في صحيحه عن عبد الله بن مسعود ﵁ قال: كنا مع النبي ﷺ في قبة، فقال: أترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة؟ قلنا: نعم، قال: أترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنة؟ قلنا: نعم، قال: أترضون أن تكونوا شطر أهل الجنة؟ قلنا: نعم، قال: والذي نفسي محمد بيده، إني لأرجو أن تكونوا شطر أهل الجنة، وذلك أن الجنة لا يدخلها إلا نفس مسلمة، وما في أنتم في أهل الشرك إلا كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود أو كالشعرة السوداء في جلد الثور الأحمر (٣).
_________
(١) أخرجه الترمذي في كتاب تفسير القرآن عن رسول الله ﷺ، باب: ومن سورة آل عمران (٣٠٠١)، وقال الإمام الترمذي: هذا حديث حسن
(٢) ابن كثير، تفسير القرآن العظيم ١/ ٣٩٩
(٣) البخاري: محمد: الإمام: صحيح البخاري، دار الفكر ط ١/ ١٤١١هـ، باب كيف الحشر ٦٥٢٨، (٧/ ٢٤٩).
1 / 11
قال الحافظ ابن حجر: ولمسلم من طريق أبي الأحوص عن أبي إسحاق " فكبرنا في الموضعين " ومثله في حديث أبي سعيد، وزاد " فحمدنا " وفي حديث ابن عباس " ففرحوا " وفي ذلك كله دلالة على أنهم استبشروا بما بشرهم به، فحمدوا الله على نعمته العظمى، وكبروه استعظاما لنعمته بعد استعظامهم لنقمته (١).
وقال العلامة ابن عماد الأقفهسي: وفي رواية، ثم قال: (إن الجنة عشرون ومائة صف منها ثمانون من هذه الأمة) وحينئذ فيكونون ثلثي أهل الجنة، وقد وقع التصريح به في الرواية الأخرى " إني لأرجو أن تكونوا ثلثي أهل الجنة".
ثم قال: قال بعض أهل المعاني: وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى [أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ] فإن الوارث له الثلثان، لأن المريض ممنوع من التصرف فيما زاد على الثلث إلا برضى الوارث (٢).
قلت: ولكن الحافظ ابن حجر، ضعف رواية الكلبي: " إني لأرجو أن
_________
(١) ابن حجر: أحمد: الحافظ: فتح الباري بشرح صحيح البخاري: دار الريان للتراث، القاهرة، ط ٢/ ١٤٠٩هـ (١١/ ٣٩٥)
(٢) الأقفهسي: محمد: العلامة: الإرشاد إلى ما وقع في الفقه وغيره من الأعداد، دار الكتب العلمية، بيروت، ط ١/ ١٤١٢هـ (١/ ٤٠)
1 / 12
تكونوا ثلثي أهل الجنة" وقال: لا تصح هذه الزيادة، لأن الكلبي واه (١).
ثم ذكر ﵀ حديث بريدة السابق، وقال: وأخرج أحمد والترمذي وصححه من حديث بريدة رفعه: أهل الجنة عشرون ومائة صف، أمتي منها ثمانون صفا، وله شاهد من حديث ابن مسعود بنحوه، وأتم منه أخر الطبراني، وهذا يوافق رواية الكلبي، فكأنه ﷺ لما رجا رحمة ربه أن تكون أمته نصف أهل الجنة، أعطاه ما ارتجاه وزاده (٢).
واصطفى ﷾ لنبيه ﵊: خير الصحب، وأفضل الركب، قال جل شأنه: [مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْأِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا] الفتح ٢٩.
_________
(١) ابن حجر: أحمد: الحافظ: فتح الباري بشرح صحيح البخاري، دار الريان للتراث، القاهرة ط٢/ ١٤٠٩هـ (١١/ ٣٩٥)
(٢) مرجع سابق، وانظر: العيني: محمود: العلامة: عمدة القاري شرح صحيح البخاري: دار الفكر ١٤٢٥هـ (١٥/ ٦٠٢)
1 / 13
وقال النبي ﷺ مثنيا عليهم ومبينا فضلهم ومكانتهم ومنزلتهم (خير أمتي قرني، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ...) (١).
وهذه الخيرية تقتضي رفعة مكانتهم، وجلالة قدرهم، وعظيم منزلتهم، وكذا تقتضي اتصافهم بأكمل الأخلاق، وأزكى الآداب، وأعلى المكارم.
إن بحثت عن أصدق الناس حديثا، وأوفاهم وعدًا وعهدًا، وأتقاهم لله تعالى، وأطوعهم لرسول ﷺ، فهم، ولن تجد خيرا منهم.
فهم أعرف الناس - بعد الأنبياء - بالله تعالى وأشدهم خشية منه، وأعظهم امتثالًا لأمره، واجتنابًا لنهيه.
ويصدق عليهم قوله ﷾ [إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ، وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ، أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ] المؤمنون ٥٧ - ٦٠
قال عبد الله بن مسعود ﵁: " إن الله نظر إلى قلوب العباد فوجد قلب محمد ﷺ خير القلوب فاصطفاه لنفسه، فابتعثه الله برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد ﷺ فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيه، يقاتلون على دينه، فما رأى المسلمون حسنًا فهو عند الله
_________
(١) أخرجه البخاري في صحيحه (باب فضائل أصحاب النبي ﷺ. (٣٦٥٠)
1 / 14
حسن، وما رأوا سيئًا فهو عند الله سيء.
وقال: من كان منكم متأسيا فليتأس بأصحاب رسول الله ﷺ، فإنهم أبر هذه الأمة قلوبا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا، وأقومها هديا، وأحسنها حالا. اختارهم الله تعالى لصحبة نبيه ﷺ وإقامة دينه. فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم في آثارهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم.
وقال غيره: عليكم بآثار من سلف، فإنهم جاؤوا بما يكفي ويشفي، ولم يحدث بعدهم خير كامن لم يعلموه (١).
ولذا قال حبر الأمة وترجمان القرآن في قوله تعالى:
[قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى] قال: هم أصحاب محمد ﷺ.
قال الإمام ابن كثير: الصحابة كانوا خير الخلق بعد الأنبياء وهم خير قرون هذه الأمة التي هي أشرف الأمم بنص القرآن وإجماع السلف والخلف في الدنيا والآخرة (٢).
واختار الله تعالى لنبيه خيرة النساء طهرة وعفافا، وكمالا وجمالا، يكن
_________
(١) أخرجه أحمد في المسند، انظر: الفتح الرباني: ٢٢/ ١٧٠، أبواب مناقب الصحابة، القرطبي: الجامع لأحكام القرآن، ١/ ٩٦، ابن تيمية: مجموع الفتاوى ٤/ ١٥٨.
(٢) ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: ٣/ ٣٨١، ابن كثير: البداية والنهاية: ٧/ ٢١٣
1 / 15
أنيسات نبيه، مقتبسات جميل وكريم خلقه، ملتمسات أنوار شرعته، شاهدات مكنون سره.
قال الإمام ابن القيم: وكذلك اختار أصحابه من جملة العالمين، واختار منهم السابقين الأولين واختار منهم أهل بدر وأهل بيعة الرضوان، واختار لهم من الدين أكمله، ومن الشرائع أفضلها، ومن الأخلاق أزكاها وأطهرها (١).
_________
(١) ابن القيم: زاد المعاد: ١/ ٤٤
1 / 16
أهمية الموضوع
تظهر أهمية الكتابة في موضوع الصحابة في نظري القاصر من جهتين:
الأولى: حاجة الناس الملحة - وهم أحفاد الصحابة ﵃ إلى بيان هدي قويم يسيرون عليه، ومنهج حكيم سليم يتجهون إليه، ولا هدي أقوم، ولا منهج أحكم وأسلم من هدي الصحابة ﵃ إذ هم خير من مشى على البسيطة بعد الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - فقد صاحبوا النبي صلي الله عليه وسلم ونهلوا من علمه، واقتبسوا من حكمته وحلمه، وتخلقوا بأخلاقه، وساروا على منهجه وطريقته.
فحاجة الناس ماسة - خاصة في مثل هذه الأزمان التي ضاعت فيها كثير من القيم والأخلاق - إلى الرجوع لعلم وأخلاق وجهاد السلف الصالح، لالتماس جليل علومهم واقتباس كريم أخلاقهم.
الثانية: يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: فكما أن بيان السنة وفضائل الصحابة، وتقديمهم الصديق والفاروق من أعظم أمور الدين عند ظهور بدع الرافضة ونحوهم، فكذلك بيان السنة ومذاهب أهل المدينة، وترجيح ذلك على غيرها من مذاهب أهل الأمصار أعظم أمور الدين عند ظهور بدع الجهال المتبعين للظن وما تهوى الأنفس (١). فإذا لم يكن هذا الزمن الذي نعيشه هو أولى الأزمان ببيان فضائل الصحابة، وبثها ونشرها، ودحض
_________
(١) ابن تيمية: أحمد: شيخ الإسلام: مجموع الفتاوى: مكتبة العبيكان ط ١/ ١٤١٩هـ (٢٠/ ٣٩٦)
1 / 17
كذب المفترين، فمتى يكون.
ومع انتشار وسائل التقنية، سهل الحصول على المعلومة، صدقا كانت أم كذبا، ولما انتشر القول في الصحابة في هذه الوسائل، تارة بالطعن فيهم وازدرائهم، وتارة بسبهم وانتقاصهم وتشويه صورتهم خاصة فيما وقع بينهم من الحروب والفتن، كان حريا على كل صاحب علم وفكر أن ينهض جادا ويأخذ بحبل من القضية ينافح عنها، ويجادل لأجلها، ليبين وجه الصواب فيها، ويذب عن أصحابها. ولست هنا محققا لما جرى من الفتن بين الصحابة ﵃ فهذه لها أهلها، ولكن أبادر مبادرة متواضعة، لصنع صفاء ذاك التاريخ، وتلك الحقبة، وبيان جمال أيامهم، وكمال أعوامهم، فأشدت بفضائلهم وميزت خصائصهم، وأفضت في ذكر مناقبهم، وأزحت بعض الشبه التي ألزقت بهم، خاصة أن القوم - الرافضة - معروفون بالكذب، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: أما أهل الكوفة، فلم يكن الكذب في أهل بلد أكثر منه فيهم، ففي زمن التابعين كان بها خلق كثيرون منهم معروفون بالكذب، لاسيما الشيعة، فإنهم أكثر الطوائف كذبًا باتفاق أهل العلم (١).
وبيّن ﵀ أن هذه الطائفة هي أكثر الطوائف قدحًا في سلف الأمة وأئمتها، فقال: فالمقصود هنا أن المشهورين من الطوائف - بين أهل السنة والجماعة - العامة بالبدعة ليسوا منتحلين للسلف، بل أشهر الطوائف بالبدعة: الرافضة، حتى إن العامة لا تعرف من شعار البدع إلا الرفض،
_________
(١) ابن تيمية: مجموع الفتاوى: ٢٠/ ٣١٦
1 / 18
والسني في اصطلاحهم: من لا يكون رافضيا، وذلك لأنهم أكثر مخالفة للأحاديث النبوية ولمعاني القرآن، وأكثر قدحًا في سلف الأمة وأئمتها، وطعنًا في جمهور الأمة من جميع الطوائف، فلما كانوا أبعد عن متابعة السلف كانوا أشهر بالبدعة (١).
وقال عنهم أيضا: وهؤلاء لا يرجعون إلى شيء بل إلى معدوم لا حقيقة له، ثم إنما يتمسكون بما ينقل لهم عن بعض الموتى فيتمسكون بنقل غير مصدق عن قائل غير معصوم، ولهذا كانوا أكذب الطوائف ... وحديث الشيعة من أكذب الحديث (٢).
ويضاف لما ذكر من أهمية الحديث في هذا الموضوع، أن النبي ﷺ ذكر الافتراق فقال: (تفرقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة أو اثنتين وسبعين فرقة، والنصارى مثل ذلك، وتفرقت أمتي على ثلاث وسبعين فرقة). قال الترمذي: حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح (٣).
وجاء في رواية (وتفرقت أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلهم في
_________
(١) مرجع سابق: ٤/ ١٥٥
(٢) مرجع سابق: ١٣/ ٢٠٩
(٣) أخرجه الترمذي في باب ما جاء في افتراق هذه الأمة (٢٦٤٠)
1 / 19
النار إلا واحدة، فقالوا: ومن هي يا رسول الله قال: ما أنا عليه وأصحابي). قال الترمذي: حديث حسن غريب مفسر لا نعرفه مثل هذا إلا من هذا الوجه (١).
فوصف النبي ﷺ هذه الفرقة الناجية بأنها على ما كان عليه هو ﵊ وأصحابه الكرام، فكان لزاما معرفة منهجهم وفقههم وسيرة حياتهم، لأنهم كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: وأصحاب رسول الله ﷺ خيار المؤمنين (٢).
وقال في موضع آخر: ومن المعلوم بالضرورة لمن تدبر الكتاب والسنة، وما اتفق عليه أهل السنة والجماعة من جميع الطوائف أن خير قرون
_________
(١) أخرجه الترمذي في باب ما جاء في افتراق هذه الأمة (٢٦٤١)، انظر: المباركفوري: تحفة الأحوذي، ٧/ ٤٣٤: العظيم آبادي: محمد: العلامة: عون المعبود شرح سنن أبي داود: دار الحديث ١٤٢٣هـ (٨/ ٥) وجاء في التحفة: قوله: هذا حديث حسن غريب في سنده عبد الرحمن بن زياد الإفريقي، وهو ضعيف، فتحسين الترمذي له لاعتضاده بأحاديث الباب. المباركفوري: تحفة الأحوذي: ٧/ ٤٣٦ وقد صححه الإمام ابن تيمية فقال: الحديث صحيح مشهور في السنن والمسانيد كسنن أبي داود والترمذي والنسائي وغيرهم. ابن تيمية: مجموع الفتاوى: ٣/ ٣٤٥ وقال ﵀: مع أن حديث الثنتين والسبعين فرقة ليس في الصحيحين، وقد ضعفه ابن حزم وغيره، لكن حسنه غيره أو صححه، كما صححه الحاكم وغيره، وقد رواه أهل السنن وروي من طرق. ابن تيمية: منهاج السنة: ٥/ ٤٨، انظر: عواجي: غالب: دكتور: فرق معاصرة: مكتبة لينة للنشر والتوزيع ط ١/ ١٤١٤هـ (١/ ٣٠).
(٢) ابن تيمية: مجموع الفتاوى: ٣٥/ ٥٩
1 / 20
هذه الأمة في الأعمال والأقوال والاعتقاد وغيرها من كل فضيلة، أن خيرها - القرن الأول - ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، وأنهم أفضل من الخلف في كل فضيلة، من علم، وعمل، وإيمان، وعقل، ودين، وبيان وعبادة، وأنّهم أولى بالبيان لكل مشكل، وهذا لا يدفعه إلا من كابر المعلوم بالضرورة من دين الإسلام وأضله الله على علم، ثم قال: وما أحسن ما قال الشافعي في رسالته: " هم فوقنا في كل علم وعقل ودين وفضل، وكل سبب ينال به علم أو يدرك به هدى، ورأيهم لنا خير من رأينا لأنفسنا " (١).
دوافع كتابة الموضوع:
ومما دفعني لكتابة مثل هذا الموضوع المهم عدة أمور:
١ - الغيرة على أصحاب النبي ﷺ، واللحاق بركب المنافحين والمدافعين عن جنابهم الطاهر.
فمجريات الأحداث الحاضرة، وسوالف الأخبار الماضية، تؤكد استهداف المنافقين، النيل من رموز هذه الأمة المباركة المرحومة، والحط من أقدارهم وغايتهم هدم معالم الدين الحنيف، وليس أمامهم إلا الثقات العدول النقلة، فإذا سقطت عدالتهم، واهتزت مكانتهم، فلا وثوق بما يحملونه وينقلونه، وحسبي في الرد عليهم وعلى أمثالهم، قول الحبيب المصطفى والنبي المجتبى عليه أفضل الصلاة والسلام: (نضر الله امرأً سمع
_________
(١) ابن تيمية: مجموع الفتاوى: ٤/ ١٥٧
1 / 21
مقالتي فوعاها ثم أداها كما سمعها، فرب حامل فقه وليس بفقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه) (١).
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: وفي هذا دعاء منه لمن بلغ حديثه وإن لم يكن فقيهًا، ودعاء لمن بلغه وإن كان المستمع أفقه من المبلغ، لما أعطي المبلغون من النضرة، ولهذا قال سفيان بن عيينة: لا تجد أحدا من أهل الحديث إلا وفي وجهه نضرة، لدعوة النبي ﷺ، يقال: نَضُر، ونَضَر، والفتح أفصح، ولم يزل أهل العلم في القديم والحديث يعظمون نقلة الحديث، حتى قال الشافعي ﵁: " إذا رأيت رجلًا من أهل الحديث فكأني رأيت رجلًا من أصحاب النبي ﷺ ".
وإنما قال الشافعي هذا، لأنه في مقام الصحابة من تبليغ حديث النبي ﷺ.
وقال الشافعي أيضًا: أهل الحديث حفظوا، فلهم الفضل علينا لأنهم حفظوا لنا (٢).
ويقول ﵀ في موضع آخر: وبكل حال، فهم أعلم الأمة بحديث الرسول ﷺ وسيرته ومقاصده وأحواله (٣).
_________
(١) أخرجه الترمذي في كتاب العلم باب ما جاء في الحث على تبليغ السماع (٢٦٥٦)، وأخرجه أبو داود في كتاب العلم باب فضل نشر العلم (٣٦٥٧)
(٢) ابن تيمية: مجموع الفتاوى ١/ ١١
(٣) ابن تيمية: مجموع الفتاوى ٤/ ٩٥
1 / 22
وفي هذا يقول المولى جل وعلا: ﴿يوم ندعو كل أناس بإمامهم﴾ الإسراء: (٧١)، قال بعض السلف: هذا أكبر شرف لأصحاب الحديث؛ لأن إمامهم النبي ﷺ. (١)
ويقول الإمام ابن القيم: التلقي نوعان: بوساطة وبغير وساطة، وكان التلقي بلا وساطة حظ أصحاب النبي ﷺ الذين حازوا قصبات السباق، واستولوا على الأمر، فلا طمع لأحد من الأمة بعدهم في اللحاق، ولكن المبرز، من اتبع صراطهم المستقيم، واقتفى منهاجهم القويم، والمتخاذل من عدل عن طريقهم ذات اليمين وذات الشمال، فذلك المنقطع التائه في بيداء المهالك والضلال، فأي خصلة خير من لم يسبقوا إليها، وأي خطة رشد لم يستولوا عليها، تالله لقد رووا رأس الماء من عين الحياة عذبًا صافيًا زلالًا وأيدوا قواعد الإسلام (٢).
٢ - إثبات عدالتهم المطلقة، وبيان أن ما جرى بينهم ﵃ وأرضاهم من أحداث وفتن لا تسقط عدالتهم ولا تنقص مكانتهم، بل كانوا أئمة مجتهدين متأولين، فهم بين الأجر والأجرين كما نص عليه علماء وفضلاء الأمة.
ونقل الإمام النووي في شرحه صحيح الإمام مسلم كلام بعض الأئمة، فيما جرى بين الصحابة وذكر عنهم قولهم: فكلهم معذورون ﵃،
_________
(١) ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: ٣/ ٥٦
(٢) ابن القيم: إعلام الموقعين: ١/ ٥
1 / 23
ولهذا اتفق أهل الحق ومن يعتد به في الإجماع على قبول شهادتهم ورواياتهم وكمال عدالتهم ﵃ أجمعين (١).
٣ - رد بعض الأكاذيب المختلقة من وجود انفصام بين آل البيت الطاهرين والصحابة المكرمين ﵃ أجمعين.
٤ - بيان المعتقد الصحيح، والمنهج القويم في الصحابة ﵃.
٥ - وضع الأمور في نصابها الصحيح، والتحاكم إلى نصوص الوحيين حين الاختلاف.
٦ - إشهار وإظهار مواقف أهل السنة والجماعة في غيرتهم على الصحابة ﵃، وبيان وجوه دفاعهم وذبهم عن أعراض الصحابة الأجلاء المكرمين ﵃.
٧ - بيان إجماع أهل السنة والجماعة القولي والفعلي على وجوب احترام الصحابة وتوقيرهم وإجلالهم وإنزالهم منازلهم التي أنزلهم الله إياها ﵃ أجمعين.
٨ - بيان خطورة وجريمة التعدي على جناب الصحابة الأطهار، وأن سبهم والطعن فيهم، جناية عظيمة، ومصيبة كبيرة، موجبة للكفر والقتل حينًا، والتعزير والحبس والجلد حينًا آخر.
٩ - محاولة دفع ورفع اللبس الذي ربما اشتبه على البعض من الآيات والأحاديث التي ظاهرها الطعن في الصحابة ﵃ وهي مبثوثة في ثنايا هذا
_________
(١) النووي: يحي: الإمام: شرح صحيح الإمام مسلم: دار القلم، بيروت ط ١ (١٥/ ١٥٩)
1 / 24
البحث.
١٠ - بيان منهجنا وعقيدتنا في الصحابة ﵃ والتي لا يمكن أن نتنازل عنها بحال من الأحوال، لا بدعوى تقارب ولا غيرها.
١١ - بيان أن بشرية الصحابة وعدم عصمتهم، ليست سببا للوقوع في أعراضهم، وتتبع زلاتهم، بل هم أشرف الخلق وأكرمهم، فالوحي يقر صوابهم - وهم أتباع للشرع - ويصحح خطأهم ﵃ وأرضاهم.
1 / 25