Al-Futuhat Ar-Rabbaniyah bi Sharh Ad-Durra Al-Mudiyya fi Ilm Al-Qawaid Al-Fardhiyyah
الفتوحات الربانية بشرح الدرة المضية في علم القواعد الفرضية
Yayıncı
دار ركائز للنشر والتوزيع
Baskı Numarası
الأولى
Yayın Yılı
١٤٣٩ هـ - ٢٠١٨
Yayın Yeri
الكويت
Türler
الفتوحات الربانية
بشرح
الدرة المضية
في علم القواعد الفرضية
للعلامة
عبد الرحمن بن عبد الله البعلي
الحنبلي
(ت: ١١٩٢ هـ)
شرح
د. عبد العزيز بن عدنان العيدان
د. أنس بن عادل اليتامى
1 / 23
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، ونشهد ألا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فإن علم الفرائض من العلوم الشرعية التي اعتنى بها الأولون والآخرون من فقهاء هذه الأمة، فصنفوا فيه المصنفات، ونظموا فيه المنظومات، ودرسوه في المدارس والكتاتيب، وتلوا آياته في المساجد والمحاريب، وما ذاك إلا لشرف هذا العلم في الشريعة، ومكانته العالية الرفيعة.
وإن من تلكم المصنفات النافعة، والمنظومات السهلة الماتعة، ما نظمه العلامة عبد الرحمن بن عبد الله البعلي ﵀، والتي سماها: (الدُّرَّةَ المُضِيَّةَ فِي عِلْمِ القَوَاعِدِ الفَرَضِيَّةِ)، اختصر فيه المنظومة الرَّحَبِيَّة
1 / 29
بإعادة صياغتها، وحذف حشوها، وتقصير ما تطاول منها، فجاءت في (١١٩) بيتًا، وقام بحنبلة المواطن التي ما خالف المذهب عندنا مذهب الشافعية خلا بابي الغرقى والخنثى، فكانت منظومة جديرة بالعناية، وكفيلة بالاستغناء والكفاية (١).
ولما كانت المنظومة تمتاز بما تقدم زَبْرُه، وتحتوي على ما لا يسعف التقدمة ذكرُه، ولم يكن لها شرحٌ سوى شرحِ ناظمها الموسوم بـ: (الفَوَائِدِ المَرْضِيَّةِ لِشَرْحِ الدُّرَّةِ المُضِيَّةِ فِي عِلْمِ القَوَاعِدِ الفَرَضِيَّةِ) (٢)؛ استعنَّا الله تعالى بوضع شرحٍ على أبياتها يوضح معناها، ويسهل على دارسها محتواها، مستفيدين من كتب علماء الحنابلة؛ ككشاف القناع وشرح منتهى الإرادات، مع ما سطره علماؤنا الأكابر؛ مثل كتاب: (الفوائد الجلية في المباحث الفرضية)، لسماحة العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز ﵀، وكتاب (تسهيل الفرائض)، للعلامة محمد بن صالح العثيمين ﵀، وكتاب (التحقيقات المرضية في المباحث الفرضية)، لشيخنا العلامة صالح بن فوزان الفوزان حفظه الله، وكتاب (الفرائض)، لشيخنا العلامة عبد الكريم بن محمد اللاحم ﵀، وسميناه: (الفُتُوحَاتِ الرَّبَّانِيَّةَ لِشَرْحِ الدُّرَّةِ المُضِيَّةِ).
_________
(١) لمعرفة المزيد عن وصف هذه المنظومة، والمقارنة بينها وبين الرحبية يمكن الرجوع لمقدمة تحقيقنا لشرح المؤلف ﵀: (الفوائد المرضية لشرح الدرة المضية).
(٢) حققنا هذا الشرح في مجلد لطيف، عن دار ركائز، عام ١٤٣٩ هـ.
1 / 30
نسأل الله تعالى أن يكون هذا الشرح نوعًا من نشر العلم الذي يحب الله نشره، ومن البرِّ بأهل العلم الذين صنفوا تلك المصنفات، وأفنوا أعمارهم في تبيين شرع الله تعالى وحكمه، وأن يبارك في هذا النظم وشرحه فتُعمر به المجالس العلمية والدروس الشرعية.
وما كان من اجتهاد خاطئ فمنَّا ومن الشيطان، ونرجو من الله العفو والغفران، ومن القارئ النصح والبيان.
والحمد لله رب العالمين
المؤلفان
1 / 31
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
ابتدأ المصنف كتابه بالبسملة؛ تأسيًا بالكتاب العظيم، واقتداءً بالنبي الكريم ﷺ.
والجار والمجرور في قوله: (بِسْمِ) متعلق بفعل محذوف مؤخر مناسب للمقام، وتقديره هنا: بسم الله أؤلف، والمعنى: أؤلف مستعينًا بجميع أسماء الله الحسنى المتضمنة لصفاته العليا، متبركًا بذكرها حال تأليف هذا النظم.
و(الله): عَلَمٌ على الباري جل وعلا، أصله: (الإله)، حُذفت الهمزة، وأُدغمت اللام في اللام، فصارتا لامًا واحدة مشددة مفخمة، و(الإله) هو المألوه، أي: المعبود، من أَلِهَ يألَه: إذا تعبَّد، قال ابن عباس ﵄: «هُوَ الَّذِي يَأْلَهُهُ كُلُّ شَيْءٍ، وَيَعْبُدُهُ كُلُّ خَلْقٍ» [تفسير الطبري ١/ ١٢١].
و(الرَّحْمَن): اسم من أسماء الله المختصة به، لا يُطلق على غيره، ومعناه: المتصف بالرحمة الواسعة.
و(الرَّحِيم): من أسماء الله أيضًا، ومعناه: ذو الرحمة الواصلة.
1 / 33
الحَمْدُ للهِ القَدِيمِ البَاقِي ... سُبْحانَهُ مِنْ وارِثٍ خَلَّاق
ثُمَّ الصَّلاةُ للنَّبِيْ والآلِ ... وَصَحْبِهِ مَعَ السَّلَامِ التَّالِي
(الحَمْدُ): هو وصف المحمود بصفات الكمال على وجه المحبة والتعظيم، سواءٌ كان في مقابلة نِعمة أم لا، واللام في (الحَمْد) للاستغراق أو الجنس، فكل أنواع المحامد أو جنسها مستحَقَّة ومملوكة (للهِ) تعالى؛ لكماله في أسمائه وصفاته وأفعاله.
(القَدِيمِ) بمعنى الأوَّل، قال الله تعالى: ﴿هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [الحديد: ٣]، ولكن لم يرد إطلاق لفظ (القديم) في الكتاب ولا في السنة، فلا يطلق على الله تعالى على أنه اسم له؛ لأنه ليس من الأسماء الحسنى، ولكن يخبر به عنه، قال ابن القيم ﵀: (ما يطلق عليه في باب الأسماء والصفات توقيفي، وما يُطلق عليه من الأخبار لا يجب أن يكون توقيفيًّا؛ كالقديم، والشيء، والموجود، والقائم بنفسه) (١).
(البَاقِي) الذي لا يفنى، والبقاء من صفات الله تعالى، كما قال تعالى: (ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام)، وأما اسم
_________
(١) بدائع الفوائد (١/ ١٦٢).
1 / 34
(الباقي) فأثبته ابن منده وقوَّام السنة اسمًا لله تعالى؛ لحديث أبي هريرة ﵁ الطويل في ذكر أسماء الله تعالى، وفيه: «الْبَاقِي، الْوَارِثُ، الرَّشِيدُ، الصَّبُورُ» [الترمذي: ٣٥٠٧]، والحديث ضعفه شيخ الإسلام ابن تيمية ﵀ (١)، ولم يصح دليل آخر في إثبات هذا الاسم.
(سُبْحانَهُ) اسم مصدر، من سبَّح يُسبِّح تسبيحًا وسبحانًا، وهو تنزيه لله تعالى وتبعيده عن كل ما لا ينبغي أن يُوصَف به.
(مِنْ وارِثٍ) وهو الله، وعدَّه كثير من أهل العلم من أسماء الله الحسنى، لقوله تعالى: ﴿وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِ وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ﴾ [الحجر: ٢٣]، ولحديث أبي هريرة ﵁ السابق في ذكر أسماء الله تعالى، وفيه: «الْبَاقِي، الْوَارِثُ، الرَّشِيدُ، الصَّبُورُ».
قال ابن عثيمين: (الوارث: لم يرد بهذا اللفظ من أسماء الله تعالى، ولكنه ورد بلفظ الجمع الدال على التعظيم في قوله تعالى: ﴿وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ﴾ [القصص: ٥٨]) (٢).
وسبحانه من (خَلَّاقِ) أي: الموجد للشَّيء على غير مثال سَبَقَ، وهو من أسماء الله تعالى؛ لقوله: ﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ﴾.
_________
(١) ينظر: مجموع الفتاوى (٨/ ٩٧).
(٢) شرح المنظومة البرهانية لابن عثيمين ص ٢٩.
1 / 35
(ثُمَّ) بعد الثناء على الله، (الصَّلاةُ للنَّبِيِّ) ﷺ، وهي ثناؤه عليه في الملأ الأعلى، قال أبو العالية: «صلاة الله: ثناؤه عليه عند الملائكة» [البخاري معلقًا ٦/ ١٢٠].
(و) الصلاة على (الآلِ) وهم أتباعه على دينه؛ لأن الله تعالى أطلق الآل على الأتباع في الدَّين، فقال: (أدخلوا آل فرعون أشد العذاب).
وعنه واختاره شيخ الإسلام: أنهم أهل بيته.
وأدخل شيخ الإسلام فيهم: زوجاته ﵅.
(وَ) الصلاة على (صَحْبِهِ) جمع صاحب، وهو من اجتمع بالنَّبيِّ ﷺ مؤمنًا به، ومات على الإسلام.
والصلاة (مَعَ السَّلَامِ) أي: السلامة من النقائص والرذائل (التَّالِي) أي: التابع، والجمع بين الصَّلاة والسَّلام؛ لقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًَا﴾، وخروجًا من خلاف من كَرِهَ إفراد أحدهما عن الآخر.
1 / 36
وَبَعْدَ ذَا فَهَذِهِ قَوَاعِدُ ... فِي الإِرْثِ فِيهَا لِلوَرَى فَوَائِدُ
قَدِ اخْتَصَرْتُهَا لِأَهْلِ الطَّلَبِ ... مِنْ دُرِّ مَا نَظَمَهُ ابْنُ الرَّحَبِيْ ... لِكَيْ يَنَالَ المُرْتَجِيْ مِنْها الأَمَلْ ... مِنْ غَيْرِ تَطْوِيلٍ بِهِ يُبْطِي العَمَلْ
سَمَّيتُها بالدُّرَّةِ المُضِيَّهْ ... جَامِعَةِ القَوَاعِدِ الفَرْضِيَّهْ
وَأَسْأَلُ اللهَ الغَنِيْ بِفَضْلِهِ ... يَجْعَلُها خَالِصَةً لِوَجْهِه
(وَبَعْدَ ذَا) الذي تقدَّم من البسملة والحمدلة، والصَّلاةِ والسَّلامِ على سيِّد الأنام، (فَهَذِهِ) المسائل الَّتي تُذكر في هذا الكتاب (قَوَاعِدُ) جمع قاعدة، وهي: حكمٌ كلِّيٌّ ينطبق على جزئيَّاته؛ لتعرف أحكامها منه، (فِي الإِرْثِ) أي: متعلقة بالميراث، (فِيهَا) أي: في تلك المسائل (لِلوَرَى) أي: للخلق (فَوَائِدُ) جمع فائدة، وهي: ما استفدْتَه من علم أو مال.
(قَدِ اخْتَصَرْتُهَا) والاختصار: هو تجريد اللَّفظ اليسير من اللَّفظ الكثير، مع بقاء المعنى، (لِأَهْلِ الطَّلَبِ) أي: طلب العلم، (مِنْ دُرِّ) جمع
1 / 37
درَّة، وهي اللُّؤلؤة العظيمة، (مَا نَظَمَهُ) أي: ألَّفه، (ابْنُ الرَّحَبِيْ) وهو الشَّيخ محمَّد بن علي بن محمَّد بن الحسن، أبو عبد الله الرَّحَبيُّ، فقيه فاضل، صنَّف كتبًا صغيرة؛ منها منظومة الفرائض، سمَّاها: «بغية الباحث»، وهي أصل هذه المنظومة المباركة، مات ﵀ سنة تسع وسبعين وخمسِ مِائة من الهجرة.
اختصرها المؤلف (لِكَيْ يَنَالَ) أي: يُعطى (المُرْتَجِيْ) أي: المؤمِّل (مِنْها) من هذه المنظومة (الأَمَلْ) أي: الرَّجاء، (مِنْ غَيْرِ) أن يكون فيها (تَطْوِيلٌ) وإسهاب (بِهِ) أي: بهذا التطويل (يُبْطِي) أي: يتأخر (العَمَلْ) أي: عمل المسائل، (سَمَّيتُها) أي: هذه المنظومة (بالدُّرَّةِ المُضِيَّهْ جَامِعَةِ القَوَاعِدِ الفَرْضِيَّهْ)، فجاءت هذه الدرَّة براَّقة في ألفاظها، غنية في معانيها، جامعة لأبواب الفرائض، حاوية لأمات المسائل.
ولما كانت هذه الدرَّة بحاجة إلى ما يُجلي قيمتها، ويكشف الخدر عن ضيائها وبريقها؛ استعنا الله الكريم بوضع نقاطٍ على حروفها، وإبراز فوائدها وعلومها، شرحًا حنبليًّا موافقًا لما عليه علماء المذهب الكرام، مشيرين إلى قول آخر إن كان لأحد من المحققين العظام، مع العناية بالتمثيل، والحرص قدر الإمكان على التذليل والتسهيل، وإلحاق المسائل بما تحتاج إليه من التدليل والتعليل، فغدى الشرح للناظر فيه سلوةً وللمستفيد منه منوةً، وسميناه: (الفتوحات الربانية لشرح الدرة المضية).
1 / 38
(وَأَسْأَلُ اللهَ) ﷻ ولا مسؤول سواه، (الغَنِيَّ) والغني: هو الذي له الغنى التام المطلق، من جميع الوجوه والاعتبارات لكماله وكمال صفاته، فلا يتطرق إليها نقص بوجه من الوجوه، أتوسل إليه (بِفَضْلِهِ) وهذا من التوسل المشروع، إذ هو من التوسل إلى الله بأفعاله سبحانه، أن (يَجْعَلَها) أي: هذه المنظومة (خَالِصَةً لِوَجْهِهِ) أي: خالصة من الرِّياء والسُّمعة لأجل وجهه تعالى.
1 / 39
فصل في الحقوق المتعلقة بالتركة
التركة: هي ما يخلفه الميت من مال أو حق أو مختص.
ويتعلق بتركة الميت خمسة حقوق، وهي مرتبة إن ضاقت التركة على الترتيب التالي:
الحق الأول: مؤنة تجهيز الميت، وهي ما يحتاج إليه الميت من كفن، وحنوط، وأجرة تغسيل وحفر، وغير ذلك؛ لأنها من حوائج الميت، فهي بمنزلة الطعام والشراب واللباس للمفلس.
فيبدأ بها أولًا وجوبًا، وهي مقدمة على جميع الحقوق الأخرى؛ لحديث ابن عباس ﵄ في قصة المُحْرِم الذي وقصته ناقته، قال رسول الله ﷺ: «وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْهِ» [البخاري: ١٨٥١، ومسلم: ١٢٠٦]، ولم يستفصل هل عليه دين أم لا، ولأن مصعب بن عمير ﵁ لمَّا مات لم يوجد له إلا ثوب واحد، فكُفِّن فيه [البخاري: ١٢٧٥]، ولأن لباس المفلس يقدم على وفاء دينه، فكذا كفن الميت.
- فرع: تجهيز الميت يكون بما يليق به عُرفًا، بحسب يسار الميت وإعساره، ولا عبرة بما كان عليه في حياته من إسرافه وتقتيره.
1 / 40
- مسألة: لا يلزم الزوج مؤنة تجهيز زوجته، بل يكون ذلك من مالها، ولو كان الزوج موسرًا؛ لأن النفقة والكسوة في النكاح وجبت للتمكين من الاستمتاع، ولهذا تسقط بالنشوز والبينونة، وقد انقطع ذلك بالموت، فأشبهت الأجنبية.
وقيل، وحُكي رواية عن أحمد، واختاره ابن عثيمين: إن كان الزوج موسرًا فإن مؤنة تجهيز الزوجة على الزوج، وإن كانت الزوجة موسرة؛ لقوله تعالى: (وعاشروهن بالمعروف)، وتجهيزها من العشرة بالمعروف، ولأن عليه نفقتها في حال حياتها، فأشبهت القريب، ولأن علاقة الزوجية باقية، بدليل أنه يغسلها ويرثها.
الحق الثاني: الحقوق المتعلقة بعين التركة، فيبدأ بها بعد مؤنة الميت وقبل الديون المرسلة؛ لأنها تُقدَّم عليها حال الحياة، فكذلك حال الوفاة.
مثال ذلك:
١ - العبد الجاني، بأن قتل نفسًا، أو قطع طرفًا خطأً أو شبه عمد، أو عمدًا لا قصاص فيه، أو فيه قصاص لكن عفا مستحقه، أو أتلف مال إنسان بغير تسليط؛ فإن حق المجني علىه يكون مقدَّمًا على مؤن التجهيز وعلى الديون المرسلة وغيرها مما سيأتي؛ لتعلق أرش الجناية برقبة العبد الجاني.
ويقدم على حق المرتهن بغير خلاف، قاله في المبدع، لأنها مقدمة على حق المالك، والملك أقوى من الرهن، فأولى أن تقدم على الرهن.
1 / 41
٢ - الرهن الذي وُثِّق بالدَّين، بأن رهن عينًا؛ كبيت أو سيارة أو نحو ذلك بدينٍ عليه أو على غيره؛ فإن هذا الدَّين قد تَعلَّق بهذه العين المرهونة، فيكون مُقدَّمًا على غيره؛ لتعلق حق المرتهن بالعين المرهونة.
أما إن كان الدَّين غير موثق برهن، فهو الدَّين المرسل، وسيأتي في الحق الثالث.
٣ - الزكاة المستقرة في الذمة، كما لو ملك نصابًا من المال، وحال عليها الحول، واستقرت في ذمته ثم مات، ولم يبق من ماله إلا قدر الواجب من الزكاة؛ فإن أهل الزكاة يُقدَّمون على أصحاب الديون المرسلة؛ لأن حق الزكاة هنا يكون كالمرهون بالتركة.
الحق الثالث: الديون المرسلة، وهي الدَّيون المتعلقة بذمة الميت لا بعين تركته، سواء أذن الميت في ذلك أم لا، وسواء كان الدَّين لله تعالى؛ كالزكاة والكفارة، أم لآدمي؛ كالقرض وثمن المبيع والأجرة، فتُقَّدم الديون على الوصايا والإرث إجماعًا؛ لما روي عن علي ﵁: «أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَضَى بِالدَّيْنِ قَبْلَ الوَصِيَّةِ» [علقه البخاري بصيغة التمريض ٤/ ٥، ووصله أحمد: ١٠٩١، والترمذي: ٢٠٩٤، وابن ماجه: ٢٧١٥]، ولأنها حقوق واجبة عليه، فتُقدَّم على الوصية؛ لأنها تبرع.
1 / 42
- فرع: يُسوَّى بين الدِّيون بالحصص إن لم تف التركة بالجميع، سواء كان الدَّين لله تعالى أم للآدمي، وسواء كان سابقًا أم لاحقًا، واختاره ابن عثيمين؛ لأنها متساوية في وجوب القضاء، فتتساوى في الترتيب.
وطريقة القسمة: بأن تنسب الموجود من مال الميت إلى مجموع الدِّيون، ثم يُدفع لكل حقِّ بمقدار هذه النسبة من المال الموجود.
مثاله: هلك شخص وعليه زكاة بألفين دينار، ودين بثلاثة آلاف دينار، ودين آخر بخمسة آلاف، فمجموع الدِّيون = عشرة آلاف، وتركته: خمسة آلاف دينار، فنسبة الخمسة إلى العشرة = (النصف)، فيُدفع لكل واحد نصف حقِّه.
الحق الرابع: الوصية: فيُبدأ بعد ذلك بتنفيذها؛ لقوله تعالى: ﴿من بعد وصية يوصي بها أو دين﴾ [النساء: ١١]، فتُقدَّم على الإرث إجماعًا.
- مسألة: يشترط لصحة الوصية شرطان:
الشرط الأول: أن تكون الوصية من الثلث فأقل.
فتلزم الوصية في الثُلُث فما دون من غير إجازة، وأما ما زاد على الثُلُث فيقف على إجازة الورثة، فإن أجازوه جاز؛ لأن المنع لحقهم، فإذا رضوا بإسقاطه سقط، وإن ردوه بطل في قول جميع العلماء؛ لحديث سعد بن أبي وقاص ﵁ لما مرض بمكة، وفيه: قلت:
1 / 43
يا رسول الله، أوصي بمالي كله؟ قال: «لَا»، قلت: فالشطر، قال: «لَا»، قلت: الثُلُث، قال: «فَالثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ، إِنَّكَ أَنْ تَدَعَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ فِي أَيْدِيهِمْ» [البخاري: ٢٧٤٢، ومسلم: ١٦٢٨].
- فرع: إن أوصى بأكثر من الثُلُث وكان وارثه أحد الزوجين فقط، وردَّ الوصية ولم يُجِزها: أُعطي الموصى له الثُلُث؛ لأنه لا يتوقف على إجازة، ويأخذ أحد الزوجين فرضه من الثلثين، والباقي من الثلثين يكون للموصى له؛ لأن الزوجين لا يُرد عليهما الميراث، فلا يأخذان من المال أكثر من فرضيهما.
الشرط الثاني: أن تكون الوصية لأجنبي، وهو من ليس بوارث عند الموت، فإن كانت الوصية لوارثٍ؛ لم تصح إجماعًا إلا بإجازة الورثة كما تقدم، قليلًا كان المال أو كثيرًا؛ لحديث أبي أمامة ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: «إِنَّ الله قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» [أحمد: ٢٢٢٩٤، وأبو داود: ٢٨٧٠، والترمذي: ٢١٢٠، وابن ماجه: ٢٧١٣]، قال شيخ الإسلام: (هذا مما تلقته الأمة بالقبول والعمل بموجبه).
- فرع: تعتبر الإجازة بعد موت الموصي؛ لأن حق الورثة لا يثبت إلا بموته.
وعنه، واختاره شيخ الإسلام: تصح الإجازة في حياة الموصي إذا وقعت في حال مرضه؛ فليس له الرجوع؛ لأنه تعلق حقهم بماله
1 / 44
وانعقد لهم سبب الإرث؛ فيصح ولو قبل وجود الشرط.
- فرع: تحرم المضارة في الوصية عند شيخ الإسلام، لقوله تعالى: ﴿من بعد وصية يوصى بها أو دين غَيْرَ مُضَارٍّ﴾، وقال ابن عباس ﵄: «الإِضْرَارُ فِي الوَصِيَّةِ مِنَ الكَبَائِرِ» [النسائي في الكبرى: ١١٠٢٦].
قال شيخ الإسلام: (فمتى أوصى بزيادة على الثلث فهو مضارٌّ، قصد أو لم يقصد، فَتُرَدُّ هذه الوصية، وإن وصى بدونه ولم يُعلم أنه قصد الضرار فيمضيها، فإن عَلِم الموصى له إنما أوصى له ضرارًا؛ لم يحل له الأخذ).
الحق الخامس: الإرث، فما بقي من المال بعد الحقوق الأربعة المتقدمة فإنه يكون ميراثًا، وهو المقصود في هذا النظم.
1 / 45
بَابُ أَسْبَابِ الإِرْثِ
أسبابُ ميراثٍ نكاحٌ ونَسَب ثمَّ ولاءٌ ما سواهُنَّ سبب
الأسباب جمع سبب، وهو لغة: ما يتوصل به إلى غيره.
واصطلاحًا: ما يلزم من وجوده الوجود، ومن عدمه العدم لذاته.
- مسألة: (أَسْبَابُ مِيرَاثٍ) مجمعٍ عليها ثلاثة:
السبب الأول: (نِكَاحٌ) وهو: عقد الزوجية الصحيح، سواء دخل بالزوجة أو لا، فيرث به الزوج من زوجته، والزوجة من زوجها بمجرد العقد، وإن لم يحصل وطء ولا خلوة؛ لعموم قوله تعالى: ﴿وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُم﴾ [النساء: ١٢]، وقوله تعالى: ﴿وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ﴾ [النساء: ١٢]، ولما ورد عن عبد الله بن مسعود ﵁ أنه قال في رجل تزوج امرأةً فمات عنها، ولم يَدخل بها ولم يَفرض لها الصداق: «لَهَا الصَّدَاقُ كَامِلًا، وَعَلَيْهَا العِدَّةُ، وَلَهَا المِيرَاثُ»، فقال معقل بن سنان ﵁: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَضَى بِهِ فِي بَرْوَع بِنْتِ وَاشِقٍ ﵂» [أحمد: ٤٢٧٦، وأبو داود: ٢١١٤، والترمذي: ١١٤٥، والنسائي: ٣٣٥٥، وابن ماجه: ١٨٩١].
1 / 46
فلا ميراث في النكاح الفاسد؛ كالنكاح بلا ولي، ولا الباطل؛ كنكاح خامسة؛ لأن وجوده كعدمه.
- مسألة: ينقطع التوارث بين الزوجين بأحد أمرين:
الأمر الأول: البينونة بينهما، إما بفسخ أو بطلاق بائن، ولا يخلو ذلك من قسمين:
١ - أن تكون البينونة في حال الصحة: فينقطع التوارث بين الزوجين بمجرد الفرقة، سواء في العدة أم بعدها؛ لأن العلاقة الزوجية تنقطع به، واختاره ابن باز وابن عثيمين.
٢ - أن تكون البينونة في حال مرض الموت المخوف، ولا يخلو من حالتين:
الأولى: أن تقع الفرقة بغير قصد حرمانها من الميراث: فينقطع التوارث فيهما بين الزوجين بمجرد الفرقة، سواء في العدة أم بعدها؛ لما تقدم، ولأنه غير مُتَّهم.
الثانية: أن تقع الفرقة من أحدهما في حالٍ يُتَّهم فيها بقصد حرمان الآخر من الإرث؛ فإن المتهم يُورَث ولا يَرِث؛ معاقبة له بنقيض قصده السيِّئ.
مثال التهمة من قِبَل الزوج: أن يطلق الرجل زوجته في مرض موته المخوف متهمًا بقصد حرمانها.
1 / 47
فأما الرجل: فلا يرثها لو ماتت؛ لأن البينونة منه.
وأما المرأة: فإنها ترثه في العدة وبعدها؛ معاملة له بنقيض قصده؛ لأن الحيل لا تبطل الحقوق، ما لم تتزوج أو ترتد؛ لأنها إذا تزوجت فلا يمكن أن ترث زوجين، وإذا ارتدت - والعياذ بالله - فقد أتت بمانع من موانع الإرث، واختاره ابن باز.
ومثال التهمة من قِبل الزوجة: أن تفعل في مرض موتها المخوف ما يفسخ نكاحها من زوجها متهَمةً بقصد حرمانه، مثل: أن يُعقَد عليها لطفل صغير فترضعه رضاعًا تثبت به الأمومة، فإن النكاح ينفسخ، ويرث الطفل منها لو ماتت؛ لأنه أحد الزوجين، فلم يُسقِط فعلها ميراث الآخر؛ كالزوج، فيرثها ما دامت في عدتها لا بعد انقضاء العدة (١)، وأما هي فلا ترث.
الأمر الثاني: الطلاق الرجعي، ولا يخلو من حالين:
١ - أن يموت أحدهما بعد انتهاء العدة: فينقطع التوارث بينهما؛ لانقطاع العلاقة الزوجية بذلك.
٢ - أن يموت أحدهما قبل انتهاء العدة: فيتوارثان؛ لما ورد عن
_________
(١) كذا في المنتهى، وهو مقتضى كلامه في التنقيح والإنصاف.
أما في الإقناع: (يرث منها ولو بعد العدة؛ كما لو كان هو المطلق)، وقال البهوتي عما في التنقيح والمنتهى: (لكن يحتاج إلى الفرق بين المسألتين). ينظر: كشاف القناع ٤/ ٤٨٣، شرح المنتهى ٢/ ٥٥٦.
1 / 48