بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلواته على خير خلقه محمد وآله الطيبين.
أمتعك الله بنعمته عليك، وتولاّك بحسن معونته لك؛ وألهمك حمده، وأوزعك شكره، ومنحك صنعه وتوفيقه؛ وألبسك عفوه وعافيته، وأوصل إليك رأفته، وصرف رغبتك إلى ما خلص عندك نفعه عاجلًا، وحلَّت لك ثمرته آجلًا؛ وعرفك ما في الغيبة والفرة من الهُجنة والشناعة؛ وما في إظهار العيب والتنديد من العار والتباعة، وما في الإعراض عن أعراض الناس من السلامة والفائدة، وما في مباقاتهم ومقاربتهم والتوقير لهم من الراحة والعائدة، حتى لا تأتي ما تأتي إلاّ وأنت واثق بعاقبته ومرجوعه، ولا تدع ما تدع إلا وأنت محسوم الطمع من خيره ومردوده، وحتى لا تتكلف إلا ما في وُسعك وطاقتك، ولا تُكلّف
1 / 1
أحدًا إلا ما له طريق إلى طاعتك وإجابتك، وعنده الحجة القوية في تقديم أمرك، والتلوِّي فيما يتحمّله لك ويتوخّى فيه مسرّتك، ويقصد به جَذَلك وغبطتك، ويصير بالصبر عليه من أوليائك وشيعتك، ولا يخرج معه إلى محادّتك ومخالفتك، لآمر يُعوز، وحادث يعرض، وعطنٍ يضيق، وبالٍ ينخزل، وطباعٍ تخور، وحاسد يطعن، وعدوّ يعترض، وجاهلٍ يتعجرف، وسفيه يتهانف، وصدرٍ يحرج، ولسانٍ يتلجلج؛ بل يتلقى أمرك بالقبول، وينشط لخدمتك بالتأميل ويرى أن ما يناله من رضاك فوق ما يبذل فيه جهده لك، وما يحرزه من ثوابك أضعاف ما يبرزه من كدحه عندك، وما ينجو به من عتبكواستزادتكيوفي على ما يتعلق بسعيه في مرادك، وما يعزّ به الثاني من إحمادك أردّ عليه مما يذل به في الأول من اقتراحك، وما يقوى به من اليقين والطمأنينة في كرامته عندك أكثر مما يضعف به من الترنّح والشك في بواره عليك.
1 / 2
وهذا باب يرجع إلى معرفة الأحوال إذا وردت مشتبهة مستبهمة، وعواقب الأمور إذا صدرت مستنيرة متوضّحة؛ وثمرة هذه المعرفة السّلامة في الدنيا والكرامة في الآخرة، وبهذه المعرفة يصحّ الصرف والموازنة، وتمييز ما اختُلف فيه مما اتُّفق عليه، وما ترجّح بين الاختلاف والاتفاق، ولم يقم عند الامتحان والنظر على ساق.
وهذه حال لا تستفاد إلا بقلة الرضا عن النفس، وترك الهُويني في التشاور والتخاير، ومُجانبة الوِكال كيف دار الأمر وأين بلغت الغاية.
وأنت - حفظك الله - إذا نظرت إلى الدنيا وجدتها قائمة على هذه الأركان، جاريةً على هذه الأصول، ثابتة على هذه العادة؛ فكلّ من كان نصيبه من الكيس والحزامة أكثر، كان قسطه من النفع والعائدة أوفر، وكل من كان حظّه من العقل والتأييد أنزر، كانت تجارته فيها أخسر، وعاقبته منها أعسر.
وهذا الباب جماع المنافع والمضار، وبه يقع التفاوت بين الأخيار والأشرار، وبين السّفلة وذوي الأقدار؛ وهو باب ينتظم الصّدق
1 / 3
والكذب في القول، والخير والشرّ في الفعل، والحق والباطل في الاعتقاد، والعدل والجور فيما عمّ، والإخلاص واليقين فيما خصّ، والراحة والسلوان فيما بان ووضح، والقناعة والصبر فيما نأى ونزح؛ ومتى تمّت هذه المعرفة، واستحكمت هذه البصيرة، كان الإقدام على ثقةٍ بالظفر، والنكُّول عن اطلاع على الغيب.
وهذه معانٍ من أبصرها نقدها، ومن نقدها أخذ بها وأعطى، وكان فيها أنفذ من غيره وأمضى؛ وهناك يُحكم لبُعده بالغَوْر، ولصدره بالسعة، ولصيته بالطّيرورة، ولطباعه بالكرم، ولخلقه بالسهولة ولعوده بالصلابة، ولنفسه بالمُداراة، ولوجهه بالطّلاقة، ولبشاشته بالخلابة. ومتى عاشرت من هذا نعتُه وحديثُه نعِمْتَ معه، وسلِمْتَ عليه، وسعِدت به، وكرُمت لديه، وكان حظُّك من خلالته ومجاورته الغبطة به، والغنيمة بمكانه؛ وأنّى لك بمن هذا وصْفُه وخبره، ومَن لك بالمرء الذي لا بَعدَه، مع اضطراب دعائم الدُّنيا، وتساقط أركان الدين؟ والأول يقول:
وكيفَ التماسُ الدَّر والضَّرعُ يابسُ
وما لامرئٍ ممّا قضَى اللهُ مَزْحَلُ
وليسَ لرحلٍ حطَّهُ اللهُ حاملُ
إنّ البريءَ من الهَناتِ سعيدُ
وما خَيرُ سيَفٍ لم يُؤَبّد بقائمِ
تسلُّ ولكنْ أَينَ بالسَّيفِ ضاربُ
Bilinmeyen sayfa
الله يَرزُقُ لا كَيْسٌ ولا حَمَقُ
والبَرُّ خيْرُ حقِيبَقةِ الرَّجُلِ
ولقد أجاد المخزوميّ أبو سعد في قوله:
اصطلحَ السائلُ والمسؤولُ ... ليسَ إلى مَكْرُمةٍ سبيلُ
غالَ بإِخوانِ الوَفاءِ غُولُ ... كلُّ امرئٍ بشأْنِهِ مشغُولُ
وما أبعد الآخر حين يقول:
أَرى الناسَ شَتّى في النِّجارِ وإِن غَدَت ... خلائقُهم في اللُّؤْمِ واحدةَ النَّجْرِ
1 / 6
وقد زادَني عَتبًا عَلَى الدّهر أنّني ... عَدِمتُ الذي يُعدِي عَلَى حادِث الدَّهر
وهذا كثير، والدّاءُ فيه متفاقم، والقول عليه مُعادٌ مَمْلول.
فإن قلت: هؤلاء شعراء، والشعراء سفهاء، ليسوا علماء ولا حكماء، وإنما يقولون ما يقولون، والجشع بادٍ منهم، والطمع غالب عليهم، وعلى قدر الرّغبة والرّهبة يكون صوابهم وخطأهم؛ ومن أمكن أن يُزحزَح عن الحقّ بأدنى طمع، ويُحمَل على الباطل بأيسرِ رغبة، فليس ممَّن يكون لقوله إِتاء، أو لحكمته مَضَاء، أو لقدَرِه رِفْعة، أو في خُلُقه طهارة؛ ولهذا قال القائل:
لا تَصحبنَّ شاعرًا فإِنّه ... يَهجوك مَجّانًا ويُطْرِي بثمَنْ
وهذا لأنه مع الريح، إن مالت به مال، يتطوّح مع أقلّ عارض، ويُجيب أوّل ناعق، ويَشيم أيَّ برقٍ لاح، ولا يُبالي في أي وادٍ طاح؛ فقد جمعَ دينه ومروئته في قَرَنٍ تهاونًا بهما، وعجزًا عن تدبيرهما؛ فهو لا يكترث كيف أجابَ سائلًا، وكيف أبطلَ مُجيبًا، وكيف ذمّ كاذبًا ومتحاملًا، وكيف مدحَ مُوارِبًا ومُخاتلا. فلا تفعل، فداك
1 / 7
عمُّك، وشبّ ابنك، فإنّ رسول الله ﷺ قد قال: " إنّ من الشِّعرِ لَحُكما "، كما قال: " وإنَّ من البيانِ لَسِحْرا "، وكيف لا يكون كذلك وفيه مثل قول لبيد:
إن تَقوى ربِّنا خيرُ نَفَل ... وبإِذنِ الله رَيْثِي وعَجَلْ
والشعر كلام وإن كان من قبيل النظم، كما أن الخطبة كلام وإن كان من قبيل النثر، والانتثار والانتظام صورتان للكلام في السَّمع، كما أن الحقّ والباطل صورتان للمعنى، وكذلك المثل في السمع، وليس الصواب مقصورًا على النّثر دون النظم، ولا الحقّ مقبولًا بالنّظم دون النّثر؛ وما رأينا أحدًا أغضى على باطل النّظم واعترض على حق النّثر؛ لأنّ النّثر لا ينتقص من الحقّ شيئًا؛ وما أحسنَ ما قال القائل:
وإنّما الشعرُ لبُّ المرء يَعرِضُه ... عَلَى المجالس إن كَيْسًا وإن حَمَقَا
وإنّ أَشعَرَ بيتٍ أنت قائلُه ... بيتٌ يُقال، إذا أَنشدتَه، صَدَقا
وهذا باب لا يفيد الإغراق فيه إلاّ ما يُفيد التّوسط والقصد، فلا وجه مع هذا للإطالة، ولَما يكون سببًا للملامة.
وهذه الجملة - أكرمك الله - أنت أحوجتني إليها، وجشَّمتني صعبها حتى نَشبتُ بها قائمًا وقاعدًا، وتقلّبتُ في حافاتها مختارًا ومضطرًا، وتصرّفتُ في فنونها مُحسنًا ومُسيئًا، لما تابعت إليّ من كتابٍ بعد كتاب، تُطالبني في جميعه بنسخ أشياء من حديث ابن عبّاد وابن العميد وغيرهما ممّن أدركتُ في عصري من هؤلاء، منذ سنة خمسين وثلاثمائة إلى هذه الغاية، وزعمتَ أني قد خَبَرتُ هذين الرجلين من غمار الباقين، ووقفتُ على شأنهما، واستبنتُ دخائلهما، وعرفتُ خوافي أحوالهما، وغرائب مذاهبهما وأخلاقهما. ولَعمري قد كان أكثر ذاك، إما بالمشاهدة والصُّحبة، وإما بالسماع والرواية من البطانة والحاشية والنُّدماء وذوي المُلابسة.
وقلت: ينبغي أن تُضيف إلى ذلك ما يتعلّق به، ويدخل في طرازه ولا يخرج عن الإفادة بذكره، والاستفادة من نشره؛ فإن
Bilinmeyen sayfa
ذلك يأتي على كل ما تتوق إليه النفس من كرم ولؤم، وزيادةٍ ونقص، وورع وانسلاخ، ورزانة وسُخف، وكَيْس وبَلَه، وشجاعة وجُبن، ووفاء وغدر، وسياسة وإهمال، واستعفاف ونطْف، ودهاء وغَفْلة، وبيانٍ ووعيّ، ورشادٍ وغيّ، وخطإٍ وصواب، وحِلْم وسفَه، وخلاعة وتمالُك، ونَزاهة ودَنَس، وفظاظة ورقّة، وحياء وقِحَة، ورحمة وقسوة.
وقلتَ: ولا يحلو موقع ذلك كله ولا يعذُب ورده، ولا يغزر عدُّه، ولا ينقاد السمع له، ولا يَراح القلبَ به إلا بعد أن تَدع المحاشاة وأنت مُقتدر، وتفارق المخاشاة وأنت مُنتصر، وإلا بعد أن تترك العدوَ والحاسد ينقدّان بغيظهما انقدادا، ويرتدّان على أعقابهما ارتدادا؛ فإنّ التَّقية في هذا الفنّ مَجْزعة مضْرعة، وركوب الرّدع فيه مأْثرة ومَفخَرة.
1 / 10
وقلتَ والعامة تقول: من جعل نفسه شاةً دقَّ عنقه الذئب، ومن صيّر نفسه نُخالةً أكله الدجاج، ومن نام على قارعة الطريق دقّته الحوافر دقّا، والكِبرُ في استيفاء الحق من غير ظلم، كالتواضع في أداء الحق من غير ذُلّ، وكما أن المنع في موضع الإعطاء حِرمان، كذلك الإعطاء في موضع المنع خذلان؛ وكما أن الكلام في موضع الصمت فضلٌ وهدر، كذلك السكوت في موضع الكلام لكنةٌ وحَصر، وكما أن القلوب جُبِلت على حُبّ من أحسن إليها، كذلك النفوس طُبعت على بُغضِ من أساء إليها؛ والجَبْلُ والطّبع وإن افترقا في اللفظ فإنهما يجتمعان في المعنى، وكما أن الحب نتيجة الإحسان، كذلك البغض نتيجة الإساءة، وكما أن المُنعم عليه لا يتهنّأ بنعمته الواصلة إليه إلا بالشُّكر لواهبها، كذلك المُساء إليه لا يجد بَرْدَ غُلَّته ولذّة حياته إلا بأن يشكو صاحب الإساءة، وإلا بأن يهجو المانع، ويذمّ المقصّر، ويثلُب الحارم ويُنادي على الخسيس الساقط، والنّذل الهابط، في كلّ سوق، وفي كل مجلس، وعند كل هزلٍ وجدّ، ومع كل شكل وضدّ؛ ميزانٌ عدْل، ووزنٌ بقسطٍ، ونصفة مقبولة، وعادةٌ جارية على وجه الدَّهر.
1 / 11
وقلتَ: ومَن وجع قلبه وجَعك، وألم علّته ألمك؛ وحُرم حرمانك، وخُيّب خيبتك، وجُرّع ما جُرّعته، وقُصد بما قصدت به، وعومِل بما شاع لك، قال وأطال، وكرّر وسيّر، وأعادَ وأبدى، وعرَّض وصرَّح، ومرَّض وصحّح، وقام وقعد، وقرّب وبعّد؛ وإنّ عينًا ترقد على الضّيم للعمى أحسن بها، وإن نفسًا تقِرُّ على الخَسْف للموت أولى بها من حياتها.
وقلت: أما سمعت قول العاتب على ابن العميد في رسالته حين قال الحقّ له؟ قال: وليعلم المرءُ - وإن عزّ سلطانه، وعلا مكانه، وكثُرت حاشيته وغاشيته، وملَك الأعِنّة، وقاد الأزمَّة - أنه يُنْعَم له في الحمد على الحسن، والذم على القبيح، وأن المخوف يرتاب من ورائه
1 / 12
كما يقرَّع المأمون في وجهه، فأعلاهما حالًا أكثرهما عند التقصير وبالا.
وهذا بابٌ يعرفه من الناس مَن ساسَ الناس؛ وهذا الكاتب يُعرف بالأشَلّ.
وقلتَ أيضًا: ولست أسألك أن لا تذكر من حديثهما إلا ما كان جالبًا لمقتهما، وداعيًا إلى الزِّراية عليهما، وباعثًا على سوء القول والاعتقاد فيهما، بل تُضيف إلى ذلك ما قد شاع لهما وشُهر عنهما، من فضائل لم يَثْلُثهما فيها أحد في زمانهما، ولا كثير ممن تقدّمهما؛ فإنّ الفائدة المطلوبة في أمرهما وشرْح حديثهما، تأديب النفس واجتلاب الأنس، وإصلاح الخلق، وتخليص ما حُسن مما قبُح، وتسليط النظر الصحيح، مع العدل المحمود فيما أشكل واشتبه بين الحسن المطلق والقبيح المطلق، وقلتَ: ومما ينبغي أن لا تُغفله ولا تَذهب عنه، وتطالب نفسك بالتيقُّظ فيه، والتَّجمع له: باب اللفظ والمعنى في الصدق والكذب،
1 / 13
فإنّك إن حرّفت في هذا بعض التحريف، أو جزَّفت في ذاك بعض التجزيف، خرج معناك من أن يكون فخمًا نبيلًا، ولفظُك من أن يكون حُلوًا مقبولًا، لأنّ الأحوال كلها - في اصلاحها وفسادها - موضوعة دون اللفظ المُونق، والتأليف المُعجِب، وقُبل فاسد معناه لصالح لفظه! وقلتَ: وإنما نبّهتك على هذا شفقة عليك، وحرصًا على أن لا يكون لمُعْنتٍ وعائبٍ طريق إليك، وأنت - بحمد الله - مُستوصٍ لا تُحوج إلى تنبيه بعنف، وإن أحوجت إلى إذكار بلُطف؛ وقد كان البيان عزيزًا في وقت البيان، والنُّصح غريبًا في وقت النُّصح، والدّين مُسترَفًا في وقت الدين، إذ الحكمة مُعانقةٌ بالصّدر والنحر، مُقبَّلة بكل شفةٍ وثغر، مخطوبة من جميع الآفاق، يُقرع من أجلها كلُّ باب، ويَحرق على فائتها كلُّ ناب، والأدب متنافس فيه، محروص على الاستكثار منه، مع شُعَبه الكثيرة وطرائقه المختلفة؛ والدين في عرض ذلك مَذبوب عنه بالقول والعمل، مرجوع إليه بالرِّضا والتسليم، مقنوع به في
1 / 14
الغصب والحِلم؛ فكيف اليوم وقد استحالت الحال عجماء، ومَلك الغنى والثّراء الرؤساء والعلماء، وقلّ الخائض فيما كسبَ زيادةً أو نفى نقيصة، وأورث عزًّا أو أعقب فوزًا.
وقلت:
وليكُن ذلك كله - إذا نشِطت له - مقصورًا غير مبسوط، أو بين المقصور والمبسوط، فإنه إن زاد على هذا التحديد طال، وإذا طال مُلّ، وإذا مُلَّ نُظر إلى صحيحه بعين السّقيم، وحُكم على حقّه بلسان الباطل، وتُخيّل القصدُ فيه إسرافًا، والعدلُ فيه جورا، وعند ذلك يحول عن بهجته ومائه، ورونقه وصفائه.
وجميع ما قلته - حاطك الله - وأتيت به، وسحبت ذيلك عليه، ورفلْت أعطافك فيه، قد سمعته وفهمته، وطويته في نفسي وبَسَطته، وجمعته بذهني وفرّقته، ونظمتُه عندي ونثرته؛ ولست جاهلًا به ولا ذاهلًا عنه، ولكن من لي بعتاد ذلك كله، وبالتأتّي له، وبالقدرة عليه، وبالسّلامة فيه إن فاتتني الغنيمة فيه؟ مع صدري الضيّق، وبالي المشغول ومع رُزوح الحال، وفقد النّصر، وسوء الجزع، وضَعف التوكّل؛ نعم!، ومع الأدب المدخول، واللسان المُلجلَج، والعلم
1 / 15
القليل، والبيان النّزر، والخوف المانع؛ وإنّي لأظنّ أن الطائع لك في هذه الخطة، والمجيب عن هذه المسألة، قليل التقّية، سيّء البقية، ضعيف البديهة والرويّة؛ لأنه يتصدّى لما لا يفي به، ولا يتسّع له، ولا يتمكّن منه؛ فإن وفى واتسّع وتمكّن لم يسلم على كثير ممن يقرأ كلامه، ويتصفّح أمره، ويقصّ أثره، ويطلب عثرته؛ لأنّ الناس في نشر المدح والذمّ، وفي بسط العذر واللّوم؛ على آراء مختلفة، ومذاهب متباينة، وأهواء مشتعلة، وعادات مُتعانِدة.
على أنّهم، بعد شدّة جدالهم وطول مِرائهم، رجلان: متعصّب لمن تذُمّه وتَعيبه وتَنثُّ القبيح عنه، فهو يغتفر له جميع ما يسمع منك، صادقًا كنت أو كاذبًا، مُعرّضًا كنت أو مفصحًا.
أو مُتعصّب على من تمدحه وتُزكّيه وتُفضله وتُثني عليه، فهو يرُدّ عليك كلّ ما تدّعيه، مُحققًا كنت أو مُجزِّفًا، موضِّحًا كنتَ أو مُزخرفًا؛ ولذلك قال بعض علماء السلف الصالح: هما أمران مَثواك بينهما، راضٍ عنك فهو يمنحك أكثر مما هو لك، وساخطٌ عليك يتنقّصك من حقّك؛ فرُمَّ ما ثلَم الباغي بفضلة الراضي يعتدل بك الأمر؛
1 / 16
والشاعر قد فرغ من هذا المعنى وسيّره في قريضه المشهور المتداول حيث يقول:
وعينُ الرّضَا عن كل عيب كليلةٌ ... ولكنّ عينَ السُخط تُبدِي المساويا
على أن هذا الشاعر قد أثبت العيب وإن كان قد وصفه بكلول العين عنه، ودلّ على المَساوي وإن كان السُّخط مُبديها، وهذا لأنّ الهَوى مُقيم لابثٌ والرأي مجتاز عارض، ولا بدّ للهوى من أن يعمل عمله، ويبلغ مبلغه، وله قرار لا يطمئن دونه، وحدّ هو أبدًا يتعدّاه ويتجاوزه، وله غُول تُضِلّ، وتمساحُ يبتلع، وثعبان - إذا نفخ - لا يُبقي ولا يذر، والرأي عنده غريب خامل، وناصحٌ مجهول.
وقال بعض الحكماء: فضل ما بين الرأي والهوى أن الهوَى يخُصُّ والرأي يعمّ، والهَوى في حيّز العاجل، والرأي في حيِّز الآجل، والرأي يبقى على الدّهر، والهَوى سريع البيُود كالزّهر، والرأي
1 / 17
من وراء حِجاب، والهَوى مُفتّح الأبواب ممدَّد الأطناب؛ ولذلك قال أيضًا بعض العرب، ويُقال هو عامر بن الظَّرِب: الرأيُ نائمٌ والهَوى يَقظان، فأرقِدوا الهوى بفظاظة، وأيقظوا الرأي بلطافة.
وقال الشاعر:
كم من أسير في يَدَي شَهواتِهِ ... طفِر الهَوى منهُ بحَزْم ضائِع
وقال أعرابي: لم أرَ كالعقل صديقًا معقُوقًا، ولا كالهوى عدوًّا معشوقًا؛ ومن وفَّقه الله للخير جعل هواه مقْموعًا، ورأيه مرفوعًا.
وإذا كان الهوى - أبقاك الله - على ما وَصَفنا، وعلى وراء ما وصفنا مما لا نُحيط به وإن أطلنا، فمتى يخلو المادح - إذا مدح - من بعض الإفراط تقرُّبًا إلى مأموله، وخِلابةً لعقله، واستدرارًا لكرمه، وبَعْثًا على تنويله وتخويله؛ وهذه حال مصحوبة في الممدوح إذا كان أيضًا غائبًا أو ميتًا؟ أو متى يسلَم الذامُّ - إذا ذمّ - من بعض
1 / 18
الإسراف تعنُّتًا لصاحبه وحملًا عليه بالإنحاء الشديد، والقول الشنيع، والنّداء الفاضح، والحديث المُخزي، وجريًا مع شفاء الغيظ وبرد الغليل؟ لأن جرعة الحرمان أمرّ من جرعة الثكل، وضياع التأميل أمضّ من الموت، وخدمة مَن لم يجعله الله لها أهلًا أشدُّ من الفقر، وإنما يُخدم من انتصب خليفة لله بين عباده بالكرم والرحمة، والتجاوز والصّفح، والجُود والنائل، وصلة العيش وبذل مادة الحياة وما يُصاب به روح الكفاية؛ وحرمان المؤمّل من الرئيس ككُفران النعمة من التّابع ورحَى الحَرْب في هذا الموضع راكدة، والقراعُ عليه قائم، والخطابة في دفعه وإثباته واسعة، والتَّمويه مع ذلك مُعترض، والإعتذار مردود، والتأويل كثير، والتَّنزيل قليل.
ولقد رأيت الجَرجائيّ - وكان في عِداد الوزراء وجلّة الرؤساء،
1 / 19
وإنما قتله ابن بقية لأنه نُعم له بالوزارة - يقول للحاتميّ أبي عليٍ، وهو من أدهياء الناس:
إنما تُحرَمُ لأَنك تَشْتُمُ
فقال الحاتميُّ: وإنما أشتم لأني أُحرم.
فأعاد الجَرْجائي قوله.
فأعاد الحاتمي جوابه.
1 / 20
فقال ثم ماذا؟ قال الحاتمي: دع الدّست قائمة، وإن شئت عملناها على الواضحة.
قال: قُل! قال الحاتمي: يقطع هذا أن لا يسمعوا مدائحهم، ولا يكترثوا بمراتبهم؛ وأن يعترفوا لنا بمزية الأدب وفضل العلم وشرف الحِكمة، كما خَذِينا لهم بعظمة الولاية، وفضل العمل، وبَسْط اليد، وعرض الجاه، والاستبداد بالتنَعُّم والطّاق والرِّواق، والأمر والنهي، والحجاب والبوّاب؛ وأن يكتبوا على أبواب دُورهم وقُصورهم: يا بني الرجاء! ابعدوا عنّا، ويا أصحاب الأمل! اقطعوا أطماعكم عن خيرنا ومَيْرِنا، وأحْمرنا وأصفرنا، ووفِّروا علينا أموالنا، فلسنا
1 / 21
نرتاح انثركم في رسالة تُحبِّرونها، ولا لنظمكم في قصيدة تتخيَّرونها، ولا نَعتدُّ بملازمتكم لمجالسنا، وتردُّدكم إلى أبوابنا، وصبْركم على ذُلّ حجابنا، ولا نَهَشُّ لمدحكم وقريضكم، ولا لثنائكم وتقريظكم؛ ومن فَعَل ما زَجرناه عنه ثم نَدِم فلا يلومنَّ إلا نفسه، ولا يقلعنّ إلا ضرسه، ولا يخمشنّ إلا وجهه، ولا يشُقّنّ إلا ثوبه، وإنّ من طمع في موائدنا يجب أن يصبر على أوابدنا، ومن رغب في فوائدنا نَشِبَ في مكايدنا. فأما إذا استخدمونا في مجالسهم بوصْف محاسنهم، وستر مساويهم، والاحتِجاج عنهم، والكذب لهم؛ وأن نكون ألسِنةً نفّاحةً عنهم فليُثيبوا على العمل، فإنَّ في توفيَّة العُمّال أُجورهم قوام الدنيا، وحياة الأحياء والموتى؛ فإن قصَّرنا بعد ذلك في إعادة الشكر وإبدائه، وتنميق الثّناء وإفشائه، فإنّهم من مَنْعنا في حلّ، ومن الإساءة إلينا في سعة.
فرأيت الجرجائي - حين سمع هذا الكلام النَّقي، وهذه الحجة البالغة - وَجَم ساعةً ثم قال: لَعَمري إذا جئنا إلى الحقّ، ونظرنا فيه بعين لا قَذَى بها، ونفسٍ لا لؤم فيها، فإن العطاء أولى من المنْع، والتنويل أولى من الحرمان، والخطأ في الجُود أسلم من
1 / 22