وأود أن يعرف القارئ أن الساسة يعتمدون دائما على استغلال العواطف، وإخماد عقول الجماهير، ومن هنا لم يجد دعاة الحروب الصليبية بدا من الكذب على الحقيقة والتاريخ، فزعموا أن المسلمين يضطهدون نصارى الشرق، ويسومونهم سوء العذاب، وقد نجحوا في استنفار أوروبا، عامتها وخاصتها، وساقوهم باسم الدين إلى ميدان القتال.
والدين أداة من أدوات الفتح والاستيلاء، في أيدي الشعوب القوية، وغل في أعناق الأمم الضعيفة، والويل كل الويل للمغلوب! فقد ملك المسلمون الأرض باسم الدين، كما ذلوا بعد ذلك باسم الدين، لأن القوي الرشيد يملك بدينه آخرته ودنياه، أما الضعيف المأفون فلا يزال يرتطم في ضعفه الذي يسميه دينا حتى يحيق به الهلاك!
وكذلك زحف شياطين الغرب على الشرق باسم الدين ففعلوا به الأفاعيل، في حين أن المسلمين كانوا يبكون في مساجدهم يوم الجمعة ليوقظوا الهمم الخوامد، والنفوس الرواكد، فما استمع لهم أحد، ولا استجاب لهم مجيب! ولم ذلك؟ ذلك بأن الدين لا يقوم بنفسه، وإنما يقوم به كما قلت: طلاب الملك، وعشاق الحياة! وإلا فحدثني لماذا تغاضى الفاطميون أبناء الرسول، ولم يغضبوا لزحف النصارى على أملاك المسلمين؟
الملك، العظمة، الحياة؛ تلك آمال الأمم، وأماني الشعوب، فإن أدى الدين إلى الملك والعظمة والحياة فهو نعمة من الله، لأن الله بالمؤمنين رءوف رحيم، أما إن نزل بهم إلى الحضيض فهو بدعة ابتدعها الأحبار والرهبان، وأمثال الأحبار والرهبان. ومن كان في ريب مما نقول فليسأل التاريخ.
ثم أخذ الصليبيون في فتح بلدان المسلمين، فاستولوا على كثير من مدن آسيا الصغرى والشام، وكونوا لهم فيها إمارات سميت بالإمارات اللاتينية، نسبة إلى الأجناس التي كان يتألف منها حملة الصليب.
وأول ما أسس من هذه الإمارات إمارة الرها بوادي الفرات سنة 490ه/1097م. ثم أنطاكية سنة 491ه/1098م. ثم فتحوا بيت المقدس. وقتلوا من أهله نحو 7000 مسلم، بعد أن سجل التاريخ من سوء رأي الفواطم ما يمنعنا من ذكره الحياء.
2
أتدري لماذا ذكرت لك هذه الكلمة عن الحروب الصليبية؟ لتعرف أنه بينما كان بطرس الناسك يقضي ليله ونهاره، في إعداد الخطب وتحبير الرسائل، لحث أهل أوروبا على امتلاك أقطار المسلمين، كان الغزالي (حجة الإسلام) غارقا في خلوته، منكبا على أوراقه. لا يعرف ما يجب عليه من الدعوة والجهاد! ويكفي أن نذكر أن الإفرنج قبضوا على أبي القاسم الرملي الحافظ يوم فتح بيت المقدس، ونادوا عليه ليفتدى، فلم يفتده أحد، ثم قتلوه، وقتلوا معه من العلماء عددا لا يحصيه إلا الله، كما ذكر السبكي في طبقاته.
وما ذكرنا هذه المأساة إلا لنعد القارئ لفهم حياة الغزالي، ولنقنعه بأنه ليس من الحتم أن يكون الرجل الممتاز بعلمه صورة لعصره، فإن كتب الغزالي لا تنبئنا بشيء على تلك الأزمة التي عاناها المسلمون حين ابتدأت الحروب الصليبية.
ومن الخطأ أن نقصر الأخلاق على سلوك المرء كفرد مستقل عن الحياة الاجتماعية، فلكل ظرف واجباته، ويتعسر وجود حالة لا تقضي فيها الأخلاق.
Bilinmeyen sayfa