ثُمَّ قَامَ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ خَيْرَ الْقَوْلِ أَصْدَقُهُ، وَأَشَدَّ الْقَوْلِ أَمْلَقُهُ، وَإِنَّ الْحَقَّ الأَبْلَجَ أَقْوَمُ إِلَى طَرِيقِ النَّهْجِ، وَإِنَّكَ قَدْ أُتِيتَ أَمْرًا عَظِيمًا نَاهِيًا مُتَبَايِنًا، تَتَابَعْتَ فِيهِ، وَرَكِبْتَ فِي ذَلِكَ عَقَبَةً كَئُودًا، صَيْخَدًا صَيْخُودًا، فِي تَنَائِفَ لا يُهْتَدَى فِيهِا بِدَلِيلٍ، وَلا يُؤَمُّ فِيهَا قَصْدُ السَّبِيلِ، قَصَّرْتَ فِي ذَلِكَ بِرَأْيِكَ، وَأَزْرَيْتَ بِأَبِيكَ، فَإِنْ تَرْجِعْ قَبِلْنَا، وَإِنْ تَأْبَ غَضِبْنَا، فَارْجِعْ إِلَى اللَّهِ، تَبَارَكَت أسْمَاؤُهُ، وَانْظُرْ مَا الَّذِي أَقْدَمْتَ عَلَيْهِ مِنْ أَنَّكَ عَمَدْتَ إِلَى امْرِئٍ لا رَحِمَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ، وَلا هَوَادَةَ، وَإِنَّمَا عَهْدُكَ بِهِ بِالأمْسِ وَهُوَ عَامِلُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، يَلْعَنُكَ وَيَلْعَنُ أَبَاكَ، وَأَهْلَ بَيْتِكَ عَلى الْمِنْبَرِ، يَتَأَوَّلُ فِينَا الْقُرْآنَ، وَيَقُولُ الْبُهْتَانَ، وَقَدْ كُنْتَ تَخْتَزِي مِنْ ذَلِكَ، إِذَا عَظَّمْتَهُ أَنْ تَجْعَلَهُ وَزِيرًا وَخُلْصَانًا فَلا يُعَابُ ذَلِكَ عَلَيْكَ، وَلا يُنْسَبُ الْخَطَأُ إِلَيْكَ، فَلَمْ يَرْضَ حَتَّى نَسَبْتَهُ إِلَى أَبِي سُفْيانَ إِلَى نَسَبٍ.
إِنْ يُقْبَلْ مِنْكَ عُيِّرْتَ بِهِ آخِرَ دَهْرِكَ، وَإِنْ رُدَّ عَلَيْكَ أُزْرِيتَ بَهِ، وَصَدَّقْتَ فِي ذَلِكَ قُولَ الشَّاعِرِ، حَيْثُ يَقُولُ:
أَلا أَبْلِغْ مُعَاوِيَةَ بْنَ حَرْبٍ ... مُغَلْغَلَةً مِنَ الرَّجُلِ الْيَمَانِي
أَتَغْضَبُ أَنْ يُقَالَ أَبُوَكَ عَفٌّ ... وَتَرْضَى أَنْ يُقَالَ أَبُوكَ زَانِ
فَأَشْهَدُ أَنَّ رَحْمَكَ مِنْ زِيَادٍ ... كَرَحْمِ الْفِيلِ مِنْ وَلَدِ الأَتَانِ
وَايْمُ اللَّهِ لَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى وَلَدِهِ مِنْ بَعْدِهِ وَقَدْ تَفَخَّذُوا نَسَاءَ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ بَنَسَبِ أَبِي سُفْيَانَ، فَهَذَا مَا وَصَلْتَ بِهِ كَرَائِمَكَ مِنْ بِعْدِكَ، وَأَمَّا عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ فَإِنَّكَ آثَرْتَهُ عَلَيْنَا، وَأَدْنَيْتَهُ دُونَنَا، وَنَحْنُ فِي حَالٍ وَعَمْرٌو فِي أُخْرَى، أَمَّا نَحْنُ فَنُعَامِلُ النَّاسَ بِالْوَفَاءِ وَالْحَياءِ، وَعَمْرٌو يُعَامِلُ النَّاسَ بِالْمَكْرِ وَالْخِدَاعِ، وَمَنْ كَانَ ذَلِكَ فَلا وَفَاءَ لَهُ، وَقَدْ تَبَيَّنَ لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ غِشُّهُ إِيَّاهُ فِي بَعْضِ الْحَالاتِ، فَلَيْسَ يَنْبَغِي لِمَنْ غَشَّ أَوَّلا أَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ آخِرًا.
ثُمَّ دَخَلَ مَرْوَانُ عِنْدَ جِلُوسِ الْقَوْمِ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: هِيهِ يَا مَرْوَانُ، أَعَنْ رَأْيكَ صَدَرَ هَؤُلاءِ حَتَّى أَسْمَعُونِي مَا أَكْرَهُ؟ قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، هَلْ تَدْرِي مَا مَثَلُنَا وَمَثَلُكَ؟ قَالَ: هَاتِ تَخْطِيطًا كَتَخْطِيطِ أَصْحَابِكَ.
قَالَ: إِنَّ عَديَّ بْنَ زَيْدٍ الْعَبَّادِيَّ نَصَحَ النُّعْمَانَ بْنَ الْمُنْذِرِ، وَقَدَّمَهُ عَلَى إِخْوَتِهِ، وَأَشَارَ عَلَى كِسْرَى بِوِلايَتِهِ، فَكَانَ جَزَاؤُهُ مِنْهُ أَنْ حَبَسَهُ فِي السِّجْنِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ وَهُوَ مَحْبُوسٌ:
أَبَا مُنْذِرٍ جَازَيْتَ بِالْوِدِّ بُغْضَةً ... فَمَاذَا جَزَاءُ الْمُبْغَضِ الْمُتَبَغَّضِ
مُجَازَاتُهُ فِي ذَا الْمِثَالِ كَرَاهَةٌ ... وَلَسْتُ لِشيءٍ بَعَدُ بِالْمُتَعَرِّضِ
1 / 63