فَلَمَّا وَلَّى، قَالَ لَهُ عَنْبَسَةُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ: أَيُّهَا الأَمِيرُ، أَتَعْرِفُ هَذَا؟ قَالَ: لا وَاللَّهِ، قَالَ: هَذَا عُمَيْرُ بْنُ ضَابِئٍ، الَّذِي أَرَادَ أَبُوهُ أَنْ يَفْتِكَ بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ، وَلَمْ يَزَلْ مَحْبُوسًا فِي حَبْسِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ حَتَّى أَصَابَتْهُ الدُّبَيْلَةُ، ثُمَّ جَاءَ هَذَا فَوَطِئَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَهُوَ مَقْتُولٌ، وُكَسَرَ ضِلْعًا مِنْ أَضْلاعِهِ، وَأَبُوهُ الَّذِي يَقُولُ:
هَمَمْتُ وَلَمْ أَفْعَلْ وَكِدْتُ وَلَيْتَنِي ... فَعَلْتُ وَكَانَ الْمُعَوِّلاتُ حَلائِلَهُ
فَقَالَ الْحَجَّاجُ: رُدُّوا عَلَيَّ الشَّيْخَ.
فَلَمَّا أُدْخِلَ عَلَيْهِ، قَالَ: أَمَّا يَوْمُ الدَّارِ فَتَشْهَدُ بِنَفْسِكَ، وَأَمَّا فِي قِتَالِ الْخَوَارِجِ فَتَبْعَثُ بَدِيلا، أَمَا وَاللَّهِ أَيُّهَا الشَّيْخُ إِنَّ فِي قَتْلِكَ لَصَلاحٌ لأَهْلِ الْمِصْرَيْنِ بِأَحْسَنِ شَيْءٍ.
اضْرِبَا عُنُقَهُ.
وَسَمِعَ الْحَجَّاجُ صَوْتًا، فَقَالُوا: هَذِهِ الْبَرَاجِمُ، تَنْتَظُرُ عُمَيْرًا، قَالَ: ارْمُوا إِلَيْهِمْ بِرَأْسِهِ، فَرُمِيَ بِهِ إِلَيْهِمْ، فَوَلَّوْا هَارِبِينَ.
قَالَ: وَكَانَ ابْنُ عَمٍّ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ الأَسْدِيِّ قَدْ سَأَلَ أَنْ يَشْفَعَ لَهُ إِلَى الْحَجَّاجِ لِيَتَخَلَّفَ عَنِ الْجَيْشِ.
فَلَمَّا قُتِلَ عُمَيرًا بَادَرَ بِالْخُرُوجِ، وَلَمْ يَنْتَظِرِ الإِذْنَ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ:
أَقُولُ لإِبْرَاهِيمَ يَوْمَ لَقِيتُهُ ... أَرَى الأَمْرَ أَمْسَى مُفْضِعًا مُتَصَعِّبًا
تَجَهَّزْ فَإِمَّا أَنْ تَزُورَ ابْنَ ضَابِئٍ ... عُمَيرًا وَإِمَّا أَنْ تَزُورَ الْمُهَلَّبَا
هُمَا خِطَّتَا سَوْءٍ نَجَاؤُكَ مِنْهُمَا ... رُكُوبُكَ حَوْلِيًّا مِنَ الثَّلْجِ أَشْهَبَا
وَإِلا فَمَا الْحَجَّاجُ مُغْمِدُ سَيْفَهُ ... يَدَ الدَّهْرِ حَتَّى يَتْرُكَ الطِّفِلَ أَشْيَبَا
فَأَضْحَى وَلَوْ كَانَتْ خُرَاسَانُ دُونَهُ ... رَآهَا مَكَانَ السُّوقِ أَوْ هِيَ أَقْرَبَا
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: قَالَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ: " لَقَدْ سَمِعْتُ مِنَ الْحَجَّاجِ كَلِمَاتٍ وَقَذَتْنِي، فَقِيلَ: يَا أَبَا يَحْيَى، إِنَّ كَلامَ الْحَجَّاجِ لَيُقِذُكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، سَمِعُتُهُ عَلَى هَذِهِ الأَعْوَادِ، يَقُولُ: إِنَّ امْرَءًا ذَهَبَتْ سَاعَةٌ مِنْ عُمْرِهِ عَلَى غَيْرِ مَا خُلِقَ لَهُ لَحَرِيٌّ أَنْ تَطُولَ حَسْرَتُهُ.
وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: امْرُؤٌ زَوَّرَ نَفْسَهُ، امْرُؤٌ لَمْ يَأْتَمِنْ نَفْسَهُ عَلَى نَفْسِهِ، امْرُؤٌ حَاسَبَ نَفْسَهُ قَبْلَ أَنْ تَصِيرَ الْمُحَاسَبَةُ إِلَى غَيْرِهِ، امْرُؤٌ جَعَلَ لِنَفْسِهِ زِمَامًا وَلِجَامًا، فَقَادَهَا بِالزِّمَامِ إِلَى طَاعَةِ اللَّهِ، وَكَبَحَهَا بِاللِّجَامِ عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَلامٍ، قَالَ: قَالَ خَالِدُ بْنُ صَفْوَانَ: دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ وَإِذَا الْحَجَّاجُ عَلَى الْمِنْبَرِ يَخْطُبُ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ، وَيَا أَهْلَ الشِّقَاقِ وَالنِّفَاقِ وَمَسَاوِئِ الأَخْلاقِ، يَا عَبِيدَ الْعَصَا، وَأَلأَمَ الْبَشَرِ، كَالْفَقْعِ بِالْقَرْقَرِ.
أَلَسْتُمْ أَصْحَابَ دُمْشُقًا، يَا ذَوُو أَصْحَابِ الزَّاوِيَةِ، وَمَسْكَنٍ وَدِيرِ الْجَمَاجِمِ حِينَ حَاكَمْنَاكُمْ إِلَى اللَّهِ فَقَضَى لَنَا عَلَيْكُمْ.
تَزْعُمُونَ أَنِّي أَعْلَمُ الْغَيْبَ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ ﷿ ثَنَاؤُهُ: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا﴾ [الجن: ٢٦] .
1 / 29