Keman Çalan Adamın Hüzünleri
أحزان عازف الكمان
Türler
الزلزال
يا بشر الحافي، لم خرجت؟
اللحظة الضائعة
الكراسي
الملقن
الزرقاء تحتضر
تائهة على الصراط (1)
تائهة على الصراط (2)
نقل دم
لا ...
Bilinmeyen sayfa
فراشات
أحزان عازف الكمان (1)
أحزان عازف الكمان (2)
أحزان الكهل الطيب
القبلة الأخيرة
إيكاروس
الزلزال
يا بشر الحافي، لم خرجت؟
اللحظة الضائعة
الكراسي
Bilinmeyen sayfa
الملقن
الزرقاء تحتضر
تائهة على الصراط (1)
تائهة على الصراط (2)
نقل دم
لا ...
فراشات
أحزان عازف الكمان (1)
أحزان عازف الكمان (2)
أحزان الكهل الطيب
Bilinmeyen sayfa
القبلة الأخيرة
إيكاروس
أحزان عازف الكمان
أحزان عازف الكمان
تأليف
عبد الغفار مكاوي
إلى صديقي الحبيب
عبد الرحمن فهمي،
لم يمهلك الأجل حتى أهديك
هذا الكتاب يدا بيد.
Bilinmeyen sayfa
ليتك تقبله الآن من روح إلى روح.
(كتبت هذه القصص بين عامي 1986 و2005م.)
الزلزال
كان من الضروري، بل من الحتمي، أن يكتب غريب محمد غريب هذا الخطاب إلى صديقه العزيز شفيق السيد الذي لم يره منذ وقت طويل. الغريب في أمر غريب أنه لم يكتف بأن يوقع عليه باسمه، بل أضاف إليه أسماء أخرى كان صديقه أو بعض أصحابه ومعارفه يطلقونها عليه في ليالي السمر الطويلة، بينما تطل من عيني صديقه ومن عيون الأصحاب نظرات تلمع وتخبو وتمتزج فيها السخرية بالحب بالإشفاق: الحكيم والمسيح والظل الباهت والصوت الخافت، والبومة والعنكبوت والفقمة، وأسماء وصفات أخرى لم يجد داعيا لذكرها، ووجه الضرورة التي دفعته لكتابة الخطاب أنه رأى صديقه الحبيب في الحلم وأخذ يعاتبه ويجادله جدالا أشد مما فعل في لقائهما الأخير الذي لا يذكر إن كان قد تم قبل أسابيع أو شهور أو سنين، وسنصرف النظر الآن عن هذا اللقاء الأخير وموعده البعيد أو القريب، ونقتصر على الإشارة الموجزة للجدل الذي اشتبكا فيه بالأفكار والكلمات بأعنف مما يشتبك اليوم أبطال أفلام العنف والكاراتيه وغيره من فنون الصراع. أكد غريب لصديقه أن الزلزال قادم لا شك عنده في ذلك، وشرح الأسباب والمبررات شرحا مستفيضا سنجده يكرره في خطابه؛ لذلك ينبغي علينا أن نبدأ بقراءة الخطاب نفسه قبل أن نعرف شيئا عن مصيره:
لا أملك إلا أن أكتب إليك يا شفيق بعد أن تعذر علي لقاؤك والاتصال بك. أصبح هذا أمرا حتميا بعد أن صور لي الوهم - الذي ظللت أجتره حتى كاد أن يبلغ مبلغ اليقين - أنك غاضب علي أو في نفسك شيء مني. أجل أجل. منذ تلك الليلة التي تحدثنا فيها عن الزلزال والكوارث والبراكين. قلت إن الموت قادم لا مفر منه، وكل الدلائل تؤكد أننا سنلقى مصير الفيران التي تهرب من السفينة الغارقة لتغرق في قاع البحر، أو سنموت ميتة النائمين الذين يدخل عليهم اللصوص في الليل ويذبحونهم بالسكاكين. صرخت بأن الزلزال قادم، وأنني أحس بعلاماته ونذره وإشاراته، وإذا كان الموت هو المصير المحتوم فلنمت مفتوحي الأعين بشرف وكبرياء. ضحكت طويلا واتهمتني بالرومانسية المريضة والتمسح بالمتنبي وعداوة البشر وكأن الزلزال الذي روع مدينتنا الكبرى وبعض المدن الصغيرة والقرى البائسة لم يكفني فراح خيالي السقيم يتوهم أفظع ألوان الدمار. أكدت لك، وأنت تنظر إلي مذهولا لأنني رفعت صوتي عاليا وضربت مائدة العشاء الذي دعوتني إليه بكفي ضربة مدوية: كيف أصدق أن صديقي لا يفهمني؟ أنا أقصد الزلزال الآخر؛ الزلزال الذي يرج العقول لا الأجسام، يهز الوعي النائم لا البيوت الآيلة للسقوط، يخرج المخلصين والصادقين من تحت رماد الجحود والإهمال والتجاهل، حتى الكذابين والأدعياء والأبطال الجوف وسائر المعذبين في الأرض - كما تعودت أن تسميهم - لا أتمنى أن تسقط على رءوسهم ذرة تراب ولا غبار واحدة. إنه زلزال آخر يا صديقي. قلت وأنت تلوي فمك بامتعاض وتنفث دخان سيجارتك في وجهي: نريد النور والأمل ونريد البناء والعمل بينما تتكلم أنت وغيرك عن الزلزال؟ وضعت وجهي بين كفي لأكتم صوتي الذي ارتفع فجأة: ومن منا لا يريد النور والأمل والإنسان الجديد؟ من منا لا يعمل له؟ هل عشنا وشقينا إلا من أجله؟ وكيف تنتظر أن يأتي بغير زلزال؟ لنختلف حول طبيعته، لكن كيف نختلف حول ضرورته؟ سكت وأدرت وجهك للحائط ورحت تحدق في لوحة راهب بوذي مستغرق في التأمل والصمت.
رحت أؤكد لك أن الزلزال قادم لا محالة، وأخذت أتلو عليك الحجج والبراهين كأي محام يرفع صوته أمام قضاة مصابين بالصمم والخرس والعمى:
عندما تتربع الذئاب على عروش الغابة وتصبح الأسود طعاما للنمل والذباب والضباع والكلاب؛ فلا بد أن يحدث الزلزال.
وعندما يعظ اللص بالأمانة، ويمتدح الفاجر الفضيلة، ويدعو الخائن إلى الوفاء، ويمجد القاتل البراءة والشرف، ويثرثر الكذاب عن الصدق، والمزور عن النزاهة، ويصبح الكل عدوا للكل والجميع مسلطين على الجميع والكلاب تتصارع على الغنيمة التعسة العاجزة؛ فكيف لا يأتي الزلزال؟
وحين يبشر الجراد بالخضرة والربيع، ويرتدي المسخ زي البطل والقديس، ويخطب الأبكم ويغني الأخرس وتسيل أنهار العلم والحكمة من أفواه الجهلاء والحمقى والبلهاء؛ فحتم أن يحدث الزلزال.
وكلما عم الضجيج واستشرت الضوضاء حتى صمت الآذان وعطلت العقول وجعلت الأعلى صوتا هو السيد المسموع ومن لا يظهر في الإعلان والإعلام فهو غير موجود؛ هل تتوقع نبوءة أصدق على اقتراب الزلزال؟
Bilinmeyen sayfa
وعندما تنعق الغربان وتنق الضفادع وتنهق الحمير ويهلل السفهاء ويصفقون ويهتفون متشنجين للفن الجديد والنغم الجديد.
وبعد أن أخذ المارد الأعمى يحطم مصابيح العقل ويطفئ منارات الوعي ويدمر ويكفر ويفجر وهو يسوق الملايين إلى كهف الماضي الذي لن يعود، ويضع أقنعة الظلام على وجه المستقبل الموعود، ويهدد إرادة التغيير بالذبح والخنق والحرق والتصفية، فهل تنتظر ألا يسقط البيت وتنتفض الأرض والسماء بالزلزال؟
وعندما تنكفئ البديهيات على وجوهها في الوحل، ويسحلها الشطار الأوغاد في الشوارع والحواري والأسواق، بينما تطل عيون الآخرين من النوافذ وتضحك في شماتة وهي تجهز المقبرة الجماعية لأصحاب الكهف والرقيم، فهل يمكن أن يتأخر الزلزال؟
وأخيرا حين يغيب العصفور عن زيارة السجين الوحيد فيفتقد وقفته على حافة الكوة الضيقة في زنزانته ويأكله الجوع لحبات الأمل التي كان يلقيها إليه منقاره الذهبي؛ ألا ينبئ كل هذا بزحف الزلزال الذي يروع السجن بكل من فيه؟
ألا يدفعك للتأهب والاستعداد بدلا من الضحك والسخرية والتشكك؟
آه يا صديقي! اكتشفت أنني أكلم نفسي كالعادة ووجهي إلى الجدار، كأني محكوم عليه بنوع جديد من أحكام الإعدام، هو عدم التوقف عن الكلام والكلام والكلام. كنت قد غادرت الحجرة التي جلسنا فيها للسمر والعشاء، وكان الراهب البوذي لا يزال جالسا القرفصاء، مسترخي الذراعين واليدين على ركبتيه، رافضا النظر إلي لانشغاله بالتأمل في العدم الذي احتواه معه، ثم رجعت بعد لحظات طالت كأنها الدهور، وحاصرني فيها الحرج والغضب والندم والاختناق. نهضت واقفا للانصراف بينما كنت تضع صينية الشاي على المائدة فقلت رافع حاجبيك من الدهشة: معذرة يا غريب. ألا تجلس لنشرب الشاي ونكمل الحديث؟ قاطعتك وأنا أتكلف الضحك: لا أريد أن يزيد شعوري بالذنب ورغبتي التي تعرفها في تعذيب الذات. رنت ضحكتك المجلجلة ووضعت يدك على كتفي: صدقني يا غريب، أنت أحوج الناس إلى هذا الزلزال. سألتك في هدوء وأنا أتجه في تصميم نحو باب الخروج: ماذا تعني يا شفيق؟ قلت وأنت تشير إلى الراهب وتتوقف عنده: ألم أقل لك إنك اسم على مسمى. ولما سكت دليلا على عدم الفهم عدت تقول: غريب عن العالم والعالم غريب عنك. تمتمت وأنا أخطو نحو الباب دون أن أنظر إليك أو إلى الراهب الأصلع النحيل: ربما، ربما.
وذهبت يا صديقي دون أن تقول وداعا أو تحدد موعد اللقاء الجديد، وانصرفت لكتاباتك ومقالات الصحفية ورعاية أرضك ومصالحك في الصعيد، وسافرت أنا إلى بلاد الصحاري والخيام والنفط لأواصل الصياح والنباح في حجرات وقاعات التعليم العقيم، وحين رجع غريب الذي تضاعفت غربته لزم بيته القديم الكئيب الذي تعرفه وانزوى في غرفة صغيرة بالبدروم تشبه جحور الأرانب والفيران، تاركا بقية البيت للزوجة والأولاد ليتحركوا فيه معظم النهار والليل فلا تؤذيهم أشواك الصبارة العجوز. كان يمضي سحابة نهاره وساعات ليله في مغارته الصغيرة كالحي الميت، محاطا بالكتب التي ألفها أحبابه الأموات-الأحياء. يظل يحاورهم ويجادلهم ويوافقهم ويخالفهم ويزين له الوهم أنه صار عضوا في المجتمع الوحيد الذي ينتمي إليه. الأهل تخلوا عنه، والصديق طعنه طعنة الإهانة، والتلاميذ رجموه بالحجارة، والأقزام المتعملقون أهالوا على رأسه أكوام التراب، وكلما خرج من مغارته الصغيرة ليتمشى قليلا أو دفعه الضعف وحب الاستطلاع إلى أحد المجالس اتسعت حدقات الأعين وهي ترى الشبح الخارج من مقبرته أو الخلد الذي غادر جحره، ولم تلبث البومة أن رجعت لصمتها واكتفت بحديثها الخافت النبرات مع أولئك الخالدين الذين توهم أنهم قبلوه صاحبا لهم أو خادما لمحرابهم أو صبيا يتعلم الألف باء من جديد على أيديهم، وأصبح الجحر الصغير ملاذه من ضجيج العالم ومكبرات أصواته التي ارتفعت ضوضاؤها ودوت طبولها أكثر بكثير مما وصف لك في لقائكما الأخير. صار كهفه الذي يغلقه على نفسه ليحتمي من الذئاب والكلاب والغربان والضفادع والمسوخ والأقزام والعمالقة والأدعياء والمتآمرين والمتكالبين وصناع الجحيم اليومي في الأرض البور، وكان على صديقك يا شفيق أن يراجع كل شيء فيه وحوله وأمامه ووراءه. أن يجتر أشواك ذكرياته كالجمل العجوز، أن ينظر في المرآة ويسأل نفسه: كيف صرت إلى ما صرت إليه؟ أن يستعيد اللغة والهوية ويحاكم الماضي والحاضر ويسأل نفسه إن كان قد بقي له مستقبل آخر غير الإلقاء في مزبلة الإهمال؟ آلاف الصفحات التي كتبها بدم القلب وكد العقل وسهر العين وعرق العمر صارت مدادا أخرس، أكوام كلام لم ينفع أحدا ولم يغير شيئا ولم يحرك حجرا ولم يقدم خطوة ولم يؤخر. ليت الشجاعة تواتيه فيحرقها كما فعل الكثيرون قبله. أليس هذا الحريق المجنون هو الشط الأخير للملاح الفاشل والرحالة الخائب؟ وعانى صديقك يا شفيق من قلة النوم، وثورات الأحشاء المتشنجة، وانطفاءات الوعي والذاكرة والفهم والإدراك. صرخ كل شيء ينتفض ويرتج في داخله بقرب أوان الزلزال، وكم اشتقت يا شفيق في تلك الأيام القلقة والليالي الأرقة إلى يد حنانك التي طالما ربت بها على كتفي الذي انحنى ورأسي الذي كساه الثلج. كم تطلعت إلى عينيك الواسعتين المضيئتين، وإلى سلاسل ضحكتك الفضية التي كان رنينها أعذب وأحلى ما تسمعه أذناي وسط أمواج النشاز والخلط والتخليط والفوضى التي تلطمنا ليل نهار.
كانت زوجتي قد ذهبت مع الأولاد إلى المصيف فرارا من الحر والرطوبة في المدينة والحي والبيت الغربي الذي ازورت عنه كل الأنسام، ورحت أعالج الصداع والقلق والأرق بالأدوية المهدئة والأقراص المنومة التي وصفها الطبيب . كنت أنام كأهل الكهف لا أميز الليل من النهار، ولا أخرج من حلم إلا لأدخل في كابوس، ومع التخبط في متاهة بعد متاهة، والغرق في بئر بعد بئر، والانحدار إلى هاوية تبتلعها هاوية، سلمت بأنني أصبت بنوع جديد من الشلل أو التحجر، أو ربما بنوع غير مسبوق من عدم الوجود. لم ينج من ذلك قلمي وأوراقي وكتبي التي تصورت أنها حجارة ستسقط حتما على رأسي عندما يرتج الزلزال القادم ويرج كل شيء. لعلي قد ارتجفت كثيرا في نومي أو صحوي المختلطين، ولعلي انتفضت ونفضت من الظاهر والباطن أكثر من مرة، ولكن لطمة مروعة من قبضة مخيفة فاجأتني ذات لحظة فتخيلت أن روحي وجسمي وبيتي ومدينتي والعالم القبيح القديم كله قد تحول إلى أنقاض، وما أدري إلا والباب يدق دقات تدوي كالرعد، وأصوات حناجر وأيد وأقدام تتداخل وتتدافع وتضطرب. قلت لعلها الشرطة أو المطافئ أو النجدة جاءت تفتش عن الأحياء الباقين تحت التراب، وفتحت الباب فإذا هم أمامي يشيرون إلي ضاحكين؛ أطفال كأنهم ملائكة بغير أجنحة، يتوسطهم شيخ وقور مضيء الوجه طويل اللحية يرتدي ثوبا فضفاضا لم أتبين لونه يغطيه كمسوح الرهبان. اندفعوا داخلين وهم يتصايحون ويغنون كأنهم زفة عرس أو جوقة تمثيل وغناء وتهليل، ودخل الشيخ المضيء وراءهم وربت على كتفي كصديق قديم. شلني الذهول في مكاني وأنا أراهم يتحسسون الجدران والكراسي والأرائك والستائر المسدلة ويتجهون برغم الظلام السائد إلى غرفتي المنزوية كالجحر في ركن بعيد من البدروم. وقبل أن أتمكن من السؤال شعرت بيد طرية تأخذ بيدي وصوت متهدج يقول: ألم تكن تنتظر الزلزال؟ سألت في غيظ وغضب: ومن أنتم؟ ما أدراكم؟ من أذن لكم بدخول بيتي بغير استئذان. قال الصوت وصاحبه يشدد قبضته على يدي: جئنا لنهنئ أنفسنا بنجاتك. صحت وقد ازداد غضبي: تهنئني والمدينة تحت الأنقاض؟ رنت ضحكته مثل كرة نحاسية سقطت وتدحرجت على البلاط: المدينة بخير. الناس أيضا بخير، والعالم على حاله كما كان وسوف يكون. قلت وقد بلغ بي الاستياء من عبث الأطفال مداه: لم تجب على سؤالي؟ من أنت ومن أنتم؟ كيف ... قاطعني وهو ينقل يده من يدي إلى كتفي: وماذا تهم الأسماء؟ المهم أن زلزالك وقع وما زلت بخير. أصررت على تكرار السؤال بعد أن رأيت الصغار يتزاحمون على حجرتي الصغيرة ويوشكون أن ينتهكوا حرمة أسرارها وأسراري. سبقني الشيخ خطوات ونفذ من صفوف الصغار وجلس على الكنبة التي شهدت أحلامي وكوابيسي، وتابعت عينيه وهما تطوفان بالرفوف الخشبية والصور والأقلام والكتب والتماثيل الصغيرة وتتفرسان في اللوحات الصغيرة المثبتة فوق مكتبي وعلى الجدار المواجه له. قال كأنه يألف المكان وما فيه: القديم جديد في نفس الوقت، والنهاية تحتضن البداية على الدوام. أما زلت تلح على السؤال؟ قلت بنبرة لم يزايلها الغضب والاندهاش وأنا أقلب عيني بين وجهه ووجوه الأطفال المبتسمين الذين وقفوا في نصف دائرة كباقة من الزهور: أليس هذا أبسط حقوقي؟
قال الشيخ وهو يبادل الأطفال الذين تشابكت أيديهم ابتساما بابتسام: جئنا نسجل البداية الجديدة، نضيف ريشة جديدة إلى كفة الميزان.
تلاحقت ضربات قلبي عندما رأيت الأطفال يرفع كل منهم في يسراه سجلا أسود مزخرف الحوافي بالذهب، وفي يمناه ميزانا من النحاس البراق الذي استقرت ريشة زاهية الألوان على سطح كفته.
Bilinmeyen sayfa
قلت وقد استثار المشهد عجبي وضاعف من سخطي وغضبي: سجلات وموازين وأطفال وشيخ غريب؟
بيتي ولا أعرف ...
قاطعني بصوته الهادئ الذي تبلله الدعابة الهادئة: هل نحن نقتحم كهفك أيها الراعي الوحيد؟
قلت وأنا أطرق برأسي إلى الأرض يأسا وغيظا: حتى الكلب الوفي حرمت منه.
ضحك الشيخ على الفور وأشار إلى الأطفال: أرأيتم؟
مع أن زميليه انطلقا في زحام المدينة وتمسكا بالحياة، ظل أحدهما يبحث عن زوجته وأولاده، والآخر يتشبث بالحب المستحيل.
قلت محتدا لأنهي هذا الاستطراد السخيف: حتى أكلهما الزمن فأسرعا إلى الكهف يائسين.
ضحك الشيخ وردد الأطفال المبتسمون أصداء ضحكته: نحن كذلك ...
قاطعته وأنا أشير للأطفال إشارة قاطعة بالسكوت: أنتم أنتم، من أنتم؟
قال الشيخ بهدوء كأنما يشعر بالذنب عن الكتمان الطويل: قلت لك ما قيمة الأسماء؟ سمنا روح الأرض، قلب البشرية ، ذاكرة التاريخ، وعي الحاضر منذ الأزل إلى أبد الدهر، قلت لك ما قيمة الأسماء؟
Bilinmeyen sayfa
سألت وأنا أحاول أن أجد منفذا يخرجني من كفن يلتف حولي أو تابوت يغلق علي: وهذه السجلات السوداء. هذه الموازين. هل مت في الزلزال وجئتم تقيمون الحساب؟
قلب عينيه قليلا بين الصور واللوحات الصغيرة: يا للجاحد المتسرع. بل بعثت للبدء من جديد. ثم منطلقا في ضحك صاخب وهو يتأمل الصور المعلقة على الحائط كأنه يكلم نفسه: على الرغم من الطفل الذي وقف أبوه وأمه بجانب فراش موته في ثياب الحداد؛ ومن العذراء الجميلة الناصعة الوجه التي أسندت رأسها على كفها اليسرى وراحت تتأمل جمجمة بشرية موضوعة أمامها، وبالرغم أيضا من وجوه الشعراء الأموات الذين أحطت نفسك بهم.
قلت محتجا: هم أكثر حياة مني ومنك ومن كل من تظن أنهم أحياء.
قال وهو يمد يده ويربت على رأسي وكتفي كأنما ينفض الغبار المتراكم من سنين: صدقت. كل هذا في السجل. كله في كفة الميزان.
رفعت وجهي إليه مستفهما وأنا أردد بصري بينه وبين الأطفال: قال في تؤدة كأنه يناجي نفسه: كل كلمة صدق في هذا السجل، كل كلمة حق.
سألت متهكما: والميزان؟ أتراكم تزنون القلوب والأرواح؟
استمر في مناجاته: هل تصورتم أننا لا نسجل ولا نزن شيئا؟ النيات والأحلام والأعمال كلها هنا أو هناك. ما من شيء يضيع يا صديقي، ما من كلمة صادقة تنسى أو تذهب هباء.
قلت وأنا أهز رأسي مستنكرا: حتى المتواضعين المذكورين تذكرونهم؟ حتى الذين افترستهم ذئاب العصر وداستهم أقدامه؟
قال مؤكدا على كل حرف كأنه يتلو نصا مقدسا أو يرتل نشيدا موروثا: هؤلاء قبل غيرهم ... ثم وهو ينهض على قدميه ويقلب طرفه في الوجوه الحزينة والسعيدة، والعيون المتحدية والعيون الكسيرة، وتماثيل الحكماء والمهرجين والقرود التي وضعت أكفها على الأفواه والآذان والأعين، والزهريات والشمعدانات الصغيرة التي طالما سهرت على شموعها: كل شيء يقول إن اللحظة بين يديك، وكل لحظة تدعوك للبدء من جديد.
كنت قد تابعت عينيه وشردت ببصري لأتأكد من وجود البيوت من حولي وأعاين المآذن والقباب والنوافذ والشرفات والهوائيات المشرعة للسماء، ورحت أردد البصر بينه وبين الأطفال وأسأل نفسي إن كنت قد رأيت هذا الوجه الطيب قبل ذلك، وبينما كنت على شرودي وحيرتي وتساؤلي المستمر سحبت طرفي من النافذة وتلفت لأجيب عليه فلم أجد أحدا حولي. كانت أصداء صوته ما تزال تتردد في فضاء الحجرة الضيقة الخافتة الضوء وأنا أحاول أن أتذكر أين رأيت هذا الوجه الضاحك السمح وسمعت هذا الصوت الخشن الوقور: كل شيء يدعوك للبدء من جديد.
Bilinmeyen sayfa
أتراك يا صديقي شفيق قد زرتني في المنام أو الكابوس؟ أم تراك تصوفت ووصلت وأصبحت من أصحاب الكرامات؟
لتكن الإجابة ما تكون، ولتعلم أخيرا أنني اشتقت إليك وإلى وجهك وعينيك وصوتك وضحكتك وشفقتك أيها الطفل الشفوق العجوز على صديقك المغترب الغريب. صديقك الذي رأى ما رأى وكتب إليك ليقول إنه يحاول أن يبدأ من جديد ...
هكذا ختم غريب خطابه الذي لا يقل عنه غرابة، والأغرب من ذلك أيضا أنه فوجئ بعد أيام - أو على الأصح فوجئت زوجته التي رجعت من المصيف مع الأولاد - بأن الخطاب المسجل قد رجع به ساعي البريد وعليه هذه التأشيرة بخط مضطرب لا يفك أسراره إلا خبير في الخطوط:
ثبت بالبحث أن صاحب العنوان توفي منذ سنوات وانتقل أهله إلى عنوان آخر.
1
يا بشر الحافي، لم خرجت؟
كان يجري كالشبح الهائم وأنا أجري وراءه، وبدا في أطماره وهلاهيله كأنه جرادة كبيرة نحيلة الجسد نحيلة الساقين. أدركته بعد أن كاد قلبي يتوقف. شددته من كم ردائه وسألت: لم تجري يا شيخ؟
رفع إلي عينين ضارعتين واسترد أنفاسه اللاهثة وقال: دعني يا ولدي. دعني.
حاولت أن أضع يدي على كتفه فمنعتني النظرة الباكية والوجه الضامر الحزين: لن أدعك حتى أعرف سرك.
رفع بصره إلى السماء وهمس: سري يعلمه ربي. دعني يسترها الله عليك!
Bilinmeyen sayfa
تشجعت ولمست صدره كمن يتحسس بابا موصدا: قبل أن تقول لي من أين؟ قبل أن أعرف إلى أين؟
ابتعد قليلا وتحفز كالقط الغاضب المقوس الظهر: ألا تجري أنت أيضا؟ ألا يفزعك ما أفزعني؟
عدت أسأله: أجري؟! وماذا يفزعني يا شيخ؟
أشار إلى الأفق البعيد، خلف القباب والمآذن والأسوار والأبراج وأسطح البيوت الهاجعة في الغروب: الجحيم يا ولدي، الغابة التي هناك ... نظرت إلى حيث أشار: الجحيم؟! الغابة؟! إن المدينة تستريح من تعب النهار. بعد قليل يغطيها ظل المساء وصمت الليل.
هز رأسه الأشيب الصغير كأنه يتخلص من ذكرى موجعة وهتف: تستريح قليلا لتواصل الصراع والنهش والنهب والقتل في الصباح. ليتك عشت بها يا ولدي، ليتك كنت معي في الشارع والجامع والساحة والسوق. قلت: وماذا أفعل يا شيخ؟
صاح كمن لدغته أفعى: لو فعلت ما أوقفتني. لو جربت ما سألتني إلى أين ومن أين ... اغتصبت ابتسامة وقلت: وها أنا أرجع لسؤالي ...
انطلق كبركان ثائر: تركت الغاب لوحش الغاب. احترقت شجرة أيامي بصواعقها، وتمزق لحمي من أنياب ذئابها وكلابها، لكنني صبرت، علمت وحدثت وناديت ودونت وخطبت ووعظت، حتى شاب الشعر، وتساقطت الأسنان وماتت أيام العمر وأنا أجوس كشبح في ظلمات دروبها، وأقفز كغراب وحيد فوق خرائبها، وأشد على أيدي المحرومين اليائسين من أبنائها. حتى جاءتني الرؤيا.
اشتقت لأن أعرف فسألت: وماذا رأيت؟
أغمض عينيه ليحتضن حمامات الصور المفزوعة، ثم فتح فمه ليخرج منه الصوت المشروخ: آه يا ولدي! آه لو كنت معي! فتحت العين صباح اليوم. فتحتها على العالم وعلى الناس، بعد أن بكت في طاعة الله ما بكت. بعدما نهلت من أنوار السدرة والملأ الأعلى ما نهلت. فلما أفاقت، قلت: رأت الليل المظلم والظالم. أليس هذا ما تعنيه؟ هذا في كل مكان يا شيخ. هذا في كل زمان ...
قاطعني في غضب وهو يصيح: بل رأت المسخ العاري تحت قناع الزيف، والوحش الأسود يتمطى تحت الشمس ويدعو خدمه وحشمه وعبيده، وسعار الشهوة والقوة يجتاح الأنفس والأجساد، ينبت فيها المخلب والناب ويشعل نيران الحقد الأسود، وحين فتحت العين ذعرت صرخت: يا عيني التي بكت من خشية الله! كيف عميت عن هذا الظلام؟
Bilinmeyen sayfa
كيف سكرت بنور النور ولم تحسي بنار الجحيم؟ وكيف لم تري دخانها وهي تشوي جلود الناس وعقولهم، وكيف غفلت عن زبانيتها وهي تبدل جلودها بجلود وعقولها بعقول؟ ولماذا سبحت مع الملائكة ولم تشعري بالوحوش التي تزأر حولك وتدمدم وتتربص وتنقض؟ وانتفض الطفل التائه في صدري خوفا: يا ربي! من يحميني من سيل النار؟ من ينقذني من فك الغاب؟ هل هذا هو ابن آدم الذي خلقته على صورتك واستخلفته في أرضك وعلمته الأسماء كلها؟ من هذا الذي يدق أرض السوق بقدميه؟ لا لا لا! هذا الإنسان الأفعى يجهد أن يلتف على الإنسان الثعلب. نزل السوق الإنسان الكلب ليفقأ عين الإنسان الفهد. قد جاء ليبقر بطن الإنسان الكلب، ويمص نخاع الإنسان الثعلب، وهتفت هتفت: يا ربي أين الإنسان؟ وخلعت النعل البالي ووضعته تحت إبطي وجريت.
قلت وأنا ألمح نعله الأصفر المتآكل المتسخ بتراب الأرض وعرق الجسد والسنين: حتى أدركتك فتوقفت.
أعطاني ظهره وأوشك أن يحرك قدميه وساقيه فأمسكت ذراعه وقلت: لا يمكن أن أتركك الآن.
حاول أن يتملص من قبضتي: لا بد أن أذهب يا ولدي، لا بد ...
رفعت صوتي النحيل كغصن يابس وأنا أقول: أبسبب حلم تترك أهلك ومدينتك؟
أجاب متوسلا: هو كابوس رأيته طول العمر ولم أفق منه إلا اليوم.
ضحكت وأنا أضرب صدره: ما دمت قد أفقت منه ...
قاطعني أسرع من الريح: الناس نيام يا ولدي فإذا ماتوا انتبهوا، وأنا انتبهت اليوم.
قلت: ولكنك لم تمت.
تحدرت كلماته دموعا تتقاطر في سمعي وعلى وجهي: بل مت كثيرا يا ولدي. مت كثيرا قبل اليوم، لكنني كنت أغمض عيني على حلم آخر؛ حلم أشهد فيه ملكوت الله وأحيا في مدن أخرى، وكنت أرجع إليه كل يوم كما يرجع العصفور إلى عشه الدافئ بعد أن دوخته الريح وأحرقته الشمس وطاردته الصقور والنسور والغربان والحيات.
Bilinmeyen sayfa
سألت متعجبا: أأنت العنقاء يا شيخ؟ تموت كل مرة وتنهض من رمادك؟
قال في أسى: بل أموت كل مرة ولا أنتبه، ويظل الحلم-الكابوس يلف خيوطه حولي ولا أفيق، وأعود لداري مقهورا لأطهر روحي بدموع الخشية والطاعة . كم من مرة كان علي أن أمزق الخيوط وأخرج. كم حتمت الأيام والتجارب أن أنفض ثوب العلماء وأمضي ...
قاطعته: إلى أين يا شيخ؟
ارتفع صوته كالرعد: إلى الصحراء يا ولدي، إلى الرمضاء كما فعل إبراهيم!
سألت: إبراهيم؟!
تردد قصف الرعد ومعه ومض البرق: سيدي وأميري؛ إبراهيم بن أدهم، ترك القصر والجاه والمال والكأس والنساء والخدم والحشم ولجأ إلى غار في الصحراء.
سألت: لجأ إلى الجحيم من الجحيم؟
قال: وماذا يفعل يا ولدي؟ ذهب ليتطهر.
ابتسمت قائلا: أولم يكن الأفضل أن يتطهر في لهب النار وبالنار؟ أن يثبت في وجه الوحش المسعور الضاري؟
ارتفع زئير الأسد المجروح: من أدراك أننا لم نواجهه؟ إنك لا تعرف عنه ولا عني شيئا. هل كنت معي حين وضعوني في الزنزانة وسط آلات التعذيب وأصوات التعذيب؟ حين سلطوا علي شهود الزور من الفقهاء والوعاظ؟ من تجار الكلمة والدين وأشباه العلماء؟ هل صحبتني على شاطئ دجلة وأنا أستغفر للغرقى كل صباح؟ أغمض أعينهم وأجففهم وأقرأ عليهم وأكفنهم بيدي؟ من عذبهم في السجن ومن أغرقهم بالليل؟ وأتاني الهاتف. أخذ الصوت الآمر يدعوني أن أبتعد وأخرج، أن أبتعد وأخرج.
Bilinmeyen sayfa
سألت: أنت؟ أطهر رجل في بغداد؟ أنقى الناس وأتقاهم؟
دارت في السماء نظرة كالبرق الساطع. ارتجفت شفتاه وأخذ يتمتم: حاشا لله. حاشا لله.
وفجأة تحول البرق الساطع إلى ظلام. تلبدت السحب وتساقط المطر. ثم تدفق الصوت الهادر: هل يحيا فرخ حمام في جحر أفاعي؟ أيعيش ولي الله العابد وسط ذئاب؟
كنت أعلم يا ولدي وأحاول أن أعلم الناس. أدركت أن العلم مطية الشهرة، والعلماء مطية السلطان، وخفت حين رأيت الناس يشيرون إلي قائلين: هذا أعلم أهل زمانه. أتقى رجل في بغداد ... وبخت النفس وقلت: الشهرة إثم وجريمة، والعلم بكاء وعبادة. وهتفت بمن طرقوا بابي: يا معشر العلماء، يا أهل البلد، من يصلح الملح إذا الملح فسد؟ صار العلم لقوم يأكلون به، صار العلم لقوم يتقربون به للأمراء والوزراء. فسد العلم وفسد الملح. اذهبوا! وتركت مكاني في المسجد وطويت الكتب فما حدثت ولا علمت. آه يا ولدي! أسلمني علماء البلد إلى السلطان، والسلطان إلى الشرطي إلى السجان، وهناك بجوف الليل كيونس في بطن الحوت بكيت. صمت وصليت وصحت: يا ربي! طهر قلب الحاكم والمحكوم! لكن لم يتطهر قلب، لم يتعفف عن دنس القول لسان. حتى النهر تلوث يا ولدي؛ حتى النهر، وفتحت العين على العالم ورأيت الغابة رأي العين.
قلت محاولا أن أهدئه: وخلعت النعلين كذلك وجريت.
مد يده كأنه يريد أن يسد فمي: لما أحرقت النار ثيابي واحترق الجسم مع النفس ...
قلت: أسرعت تلجأ من الجحيم ...
قال في أسى وهو يطرق برأسه ثم يرفعها وينظر بعيدا: نعم يا ولدي، من الجحيم إلى الجحيم. قلت متعجبا: وحين أطبقت الغابة عليك ...
قال وهو يدير ظهره: تركت الغاب لسكان الغاب.
لاحظت أنه بدأ يحرك قدميه، قلت قبل أن يخطو خطوة واحدة: كثيرون قبلك روضوا الأسود والدببة والفيلة والنمور، والكلاب والقطط كانت متوحشة فاستأنسها الإنسان، والثعابين والحيات علمها الفقراء والحكماء المساكين أن ترقص على صوت الناي ...
Bilinmeyen sayfa
قال وهو يلتفت يائسا: والعقارب أيضا؟
قلت ضاحكا: العقارب تموت بسمها. لماذا تشغل نفسك بها؟
رفع يده إلى عينيه كأنه يخفي رؤية مباغتة ثم ناجى نفسه: قل ما شئت، واجه وحش الغاب وروضه إذا شئت. أما أنا فعجزت، أما أنا فعجزت.
بدأ صدره يهتز بشدة. اقتربت منه وربت على ظهره وهمست: من سيواجههم غيرك أنت وصحبك؟ من يردعهم؟ من يصلحهم أو يهديهم للحق؟ قال وهو يضع يده على عينيه: يهديهم جيل آت في زمن آت. أما أنا فعجزت.
مد ذراعه ولمس صدري. مسح بكفه على رأسي وتمتم: قد تنجح أنت وجيلك حيث فشلت. دعني يرحمك الله.
قلت وأنا أمد يدي بحثا عن يده: وإلى أين؟
احتضنني فجأة فسقط النعل المصفر المتآكل على الأرض. شعرت بارتجاج صدره على صدري وهو يقول: من الجحيم إلى الجحيم. عد يا ولدي. عد.
همست وأنا أشدد قبضتي على ذراعيه: وأنت يا شيخي الطيب؟ قال وهو ينحني ليأخذ نعليه: ربما أعود يوما.
قلت: متى يا شيخ؟
قال مبتسما: عندما ترجع روحي إليكم.
Bilinmeyen sayfa
ألححت في السؤال: ومتى ترجع يا بشر؟
قال وهو يوسع خطاه: عندما يتغير الزمان. عندما يرجع الإنسان تتابعت خطاه أسرع من الريح، وبدأ جسده النحيل يتلاشى شيئا فشيئا كالجرادة النحيلة في الضباب، لكن صوته كان لا يزال يرن في أذني: عندما يرجع الإنسان، عندما يرجع الإنسان
1 ...
اللحظة الضائعة
لحظة واحدة نبهته إلى العمر الذي ضاع منه. ذكرته بالكنز الثمين المنسي تحت رمال الأيام والسنين وفي شعاب الرحلة المضنية في متاهات البلاد والعباد ... وجاءت اللحظة المفاجئة كاليد الرحيمة فانتشلته هو والكنز القديم المفقود ونفضت عنهما أكوام التراب والأوراق المصفرة الذابلة. الحقيقة أنها لم تكن يدا بل صوتا خيل إليه - أثناء عبوره من رصيف إلى رصيف في ميدان التحرير ظهر يوم صيفي قائظ الهجير - أنه يعرفه أو كان يعرفه من زمن طويل: صابر حسنين الأيوبي؟
تلفت وراءه فرأى الوجه الداكن السمرة والرأس الصغير المستدير كأنه تينة شوكية مسودة نبتت عليها عقد من الشعر المجعد في دوائر وكرات كحبات فلفل كبيرة. هتف صائحا من الدهشة وهو يضع الشمسية على الأرض ويكشف عن المنديل الأبيض الذي لف به رأسه وجبينه العريض: صبرية فرحات؟ ما هذه الصدف السعيدة؟ - نعم صبرية يا ناكر العيش والملح.
ضحك من أعماق قلبه ومد يده يصافح يدها ويهزها بشدة: والقهوة والشاي على حسابك في كافتيريا الكلية وفي حديقة الأورمان.
وسكت قليلا ليتأمل وجهها والنظارة السميكة التي تضعها على عينيها وملامح وجهها النوبي الطيب الذي جعله يلقبها دائما بالقديسة السمراء، على الرغم من ثورتها على هذا اللقب واستهجانها الشديد له. وتداعت على وجه السرعة ذكريات ومشاهد وصور من زمالتها التي امتدت أربع سنوات، وشعر وهو لا يزال يبتسم ويضحك ثم يضحك ويبتسم؛ بالذنب الذي لم يكفر عنه أبدا. ألم يكن يقول لها وهي في صحبة صديقتها الروح بالروح أن وجهيهما مركب من عدد واحد من الذرات مع فارق بسيط في ترتيبها؟ ألم يكن ريفيا فظا عندما صارحها ذات يوم بأن الفارق الوحيد بين قطعة فحم وقطعة الماس هو فارق في تنظيم الذرات؟ وكيف يداوي الآن هذا الجرح القديم وهو يقف وجها لوجه أمام القديسة المتفحمة الرأس والوجه بعد كل هذه السنين؟
أخرجته من سرداب ذكرياته وسألت ملهوفة: أأنت عائش على الأرض ولا حس ولا خبر؟
ضحك وهو يسحبها من ذراعها ليقف تحت مظلة تتدلى من باب محل صغير للتحف والعاديات: عمر الشقي بقي. سافرت ورجعت ثم استقلت من هنا ورجعت للإقامة هناك.
Bilinmeyen sayfa
وماذا تفعل في مصر؟ هل تنوي ...
قال مؤكدا كلامه وهو ينظر طويلا إلى وجهها الطيب الذي لم تفارقه براءة طفل لا يكف عن الشقاوة والضحك: لا لا. رجعت نهائيا وفتحت دار حضانة في البلد.
صاحت متعجبة وهي لا تستطيع أن تكتم نفسها من الضحك: حضانة؟ بعد العمر الطويل هناك؟ حسبتك ستفتح كلية أو جامعة أو حتى مدرسة خاصة للغات. - صبرك بالله، أنا كنت اليوم في الوزارة لإتمام إجراءات التصريح بفتح مدرسة ابتدائية في البلد. مدرسة مخصصة للأيتام والفقراء، وماذا تفعلين أنت؟ - أيتام وفقراء؟ لم تتغير أبدا يا صابر. أنا ناظرة مدرسة لغات خاصة، آه لا بد أن أذهب الآن. انتظر، هذه ورقة. أكتب عليها العنوان ورقم التليفون ... وإياك أن ترجع إلى مصر مرة أخرى ولا تتصل بي.
قال ضاحكا وهو يضع الورقة في جيبه ويفرد شمسيته: على الأقل لأشرب فنجان القهوة على حسابك.
وقبل أن تمد يدها لتصافحه تأملته طويلا وقالت: على فكرة ... هل تذكر نعمة؟
خفق قلبه وكتم صيحته: نعمة المرواني؟ هل يمكن أن أنسى صديقتك؟
وتراءت له الألماسة التي كانت الفحمة الطيبة تلازمها كظلها، وأيقظه الصوت ذو الرنين الحنون من شطحات في غير أوانها: زوجها مات من شهرين. مات بالسكتة وترك لها مروان الصغير. مسكينة. نحن على اتصال باستمرار. لا يصح أن يفوتك القيام بالواجب. خذ. أكتب العنوان. يمكنك أن تذهب إليها الآن. الوقت مناسب والعنوان سهل. مع السلامة ولا تنس أن تسلم لي عليها، مع السلامة.
طوى شمسيته البيضاء وأشار إلى أول سيارة أجرة وقعت عليها عيناه. •••
عندما خرج من باب المدرج الصغير الذي استمع فيه مع زملائه وزميلاته إلى محاضرة الشعر وجدهما واقفتين على الباب. منعه خجله الريفي وربما ارتباكه الدائم وتسارع نبضه المجنون كلما رآها، أن ينظر ناحيتهما، ولكنه فوجئ بصوت صبرية تنادي عليه في غضب واضح: يا صابر، أنت يا شاعر الغبرا.
توقف والتفت إليها ورأى الألماسة الناصعة تبتسم كعادتها ابتسامة الجوكندا الغامضة. أسرعت الفحمة الطيبة قائلة: نحن لم نفهم شيئا من المحاضرة. هل الدكتور أستاذ أم شاعر؟
Bilinmeyen sayfa
قالت ابتسامته الذاهلة وهو يحاذر النظر إلى وجه الألماسة ويوجه كلامه للفحمة وهي وحدها الموجودة في الخلاء: وما المانع أن يكون شاعرا وأستاذا في وقت واحد؟
ردت صبرية محتدة: يكون كما يشاء، المهم أننا لا نعرف شيئا عن هذا الوعاء الملعون. تشجع ورفع عينيه إلى الوجه المتألق المشع الذي حرم من شعاع واحد منه، وخفض بصره بسرعة وهو يسأل نفسه كيف احتفظ في هذا العالم المزعج بوجه رضيع هادئ، كيف استطاع وسط المستنقع أن يكون نبع براءة صافية؟ ثم تشجع أكثر وفك لجام خجله الريفي المزمن وقال وهو يشير بإصبعه للوجه المتفحم كمن يهدد بخطر عظيم: يمكنني أن أدعوكما إلى فنجان شاي أو قهوة على حسابي ... في الكافتيريا أو في الحديقة.
ردت الفحمة مع الألماسة: الكافتيريا الآن رائقة، المهم على حسابنا نحن.
قال مسرعا: قلتها كلمة وكلمة الرجل لا تنزل الأرض، والأفضل أن نجلس في الحديقة لنعيش في جو القصيدة.
مشيا في دفء شمس العصر الشتوية إلى الحديقة التي لم يكن يفصلها عن مبنى الكلية والقسم سوى الشارع العريض الذي تفرش أرضه ظلال الأشجار الضخمة العريضة الأوراق التي برزت أطراف جذورها المتلوية البيضاء من شقوق الأسفلت، وسرعان ما جلسوا إلى مائدة نظيفة ورحب بهما النادل الشاب الذي بان على وجهه الملل والهم من قلة الزبائن. غاب عنهم لحظات ليضع الصينية وعليها الأكواب والفناجين فوق المائدة التي غير مفرشها أيضا بمفرش أبيض منقوش بزهور بنية وصفراء، وها هو يرى الآن تفاصيل المشهد كما عاشه في ذلك الزمن البعيد وكأنه لا يزال جالسا على الكرسي الطري المصنوع من القش والجريد، وأمامه الفحمة والألماسة تشعان عليه نورا يتداخل فيه الليل مع الفجر، وشلال الكلام يندفع من فمه رائقا متموجا ومتدفقا بالشروح الطويلة لقصيدة كيتس المشهورة التي كان قد قرأها قبل ذلك ودرسها وجربها أيضا كأي رومانسي عتيق. لنقرأ السطور الأولى التي يخاطب بها الشاعر ذلك الوعاء الإغريقي الرائع البسيط قبل أن نتجه للنحت البارز المنقوش عليه:
أنت يا عروس السكون التي لم يمسسها أحد
يا من تبناها الصمت والزمان الوئيد،
يا راوية الغابة، يا من تستطيعين أن تحكي
قصة مزهرة وأكثر عذوبة من أشعارنا.
ربما تسألان أية قصة مزهرة تفوق عذوبة أشعار الشاعر، مع أنها قصة تتكون من صور لا من حروف وكلمات، ومن نقوش ثبتها الفنان على جانبي الوعاء المزهري لا من أصوات وأنغام وإيقاعات تتآلف منها معان ورؤى وأفكار. تخيلوا معي هذا الوعاء العجيب:
Bilinmeyen sayfa
فالقصة هي أسطورة منقوشة على الوعاء وهناك آلهة وبشر، رعاة وعذارى وصيد مجنون، وأغصان وغابات وعشب وطئته أقدام، ومزامير ودفوف نكاد نسمع نغماتها العذبة فتملؤنا نشوة عارمة؛ نغمات نراها - إذا سمحتما لي بهذا التعبير - بأذن الروح ونسمعها بعينها الباطنة. انظرا إلى الفتى الجميل الذي يجلس في ظل الشجرة وينشد أغنيته. هذا المحب الجسور السعيد لأنه يغني أغاني متجددة إلى الأبد.
لقد فشل في أن يقبل حبيبته التي هربت منه في الغابة، أو انضمت إلى الموكب الذي سأكلمكما عنه، ولكنه ما يزال يحب، وما تزال هي جميلة صافية كالنبع ووردية كالفجر. سيبقى حبه دافئا قويا، وسيظل جمالها ربيعا متجددا على الدوام. ثم انظرا معي إلى هذا الكاهن العجوز الغامض الذي يقود الموكب المتجه في طريقه إلى المذبح لتقديم الأضحية، وفي وسط الموكب تتدحرج البقرة السمينة المكللة بأكاليل الزهر، ومن خلفهم تبدو المدينة الصغيرة التي انحدروا منها والقلعة الآمنة المطلة على شاطئ البحر، والشاب هناك يتابع منظر الموكب وهو يشدو بأغنية حبه، والحبيبة السعيدة لا تزال مختبئة وبعيدة وراء الأشجار وربما تسمع أغنيته وتتمنع ولا تستجيب ، والوعاء كالعروس الساكنة التي تضج رغم سكونها بالحركة والغناء الشجي الغامض من الشاعر العاشق ومن الموكب الجليل الغامض. هل لاحظتما أن الفنان قد ثبت الصور في لوحته التي نقشها على جدران الوعاء ليعطيها خلود الأبدية؟ هل لاحظتما أن الفنان والعاشق كليهما قد ماتا منذ قرون وأن الحب الذي صوره لا يزال يفيض من رسمه ونقشه بالحركة والجمال والحياة، مؤكدا أن الحب أبدي خالد يتحدى الموت والفناء الذي لا يفلت منه شيء؟ وهل رأيتما كيف تحدت لحظته السحرية أنياب الموت وأظافره وفمه الفاغر على الدوام ... تأملا أيضا ختام القصيدة أو الأنشودة التي يوجهها الشاعر للوعاء ولنفسه:
عندما تضني الشيخوخة هذا الجيل،
ستبقى أنت وسط حزن آخر غير أحزاننا،
ستبقى صديقا للإنسان،
تقول له الجمال هو الحق، والحق هو الجمال،
هذا هو كل ما نتعلمه على الأرض
وكل ما نحتاج أن نعلم ...
أخرجه صوت السائق من حلمه الطويل كأنما مزق بيت العنكبوت الذي نسجه وعاش فيه طوال الوقت. قال له: هذا هو الشارع يا حضرة. يمكنك أن تسأل بنفسك عن العنوان. هو إن شاء الله على هذا الرصيف أو الرصيف المقابل.
نقده أجرته وهز رأسه ليكمل تمزيق النسيج الذي تشابك حوله وينفض خيوطه بعيدا عنه، وفرد الشمسية وراح يسأل عن الرقم المكتوب على الورقة والشلال ما يزال يتدافع ويجيش ويتدفق من داخله. •••
Bilinmeyen sayfa
لم يجد صعوبة في الاهتداء إلى رقم العمارة، ودله البواب النوبي العجوز على الدور والشقة التي تشغلها شركة التوكيلات الإليكترونية التي يبحث عنها وهو يقول: نعمة هانم أمامك وأنت داخل من الباب. ست طيبة خالص. الله يسترها ويكون في عونها. وعندما خرج من المصعد وواجه الباب المفتوح وجدها جالسة على مكتب فخم عريض، تكدست فوقه أجهزة الهاتف والفاكس والحاسوب وما لا يدري من لوازم العمل والأبهة. خطر له في ومضة خاطفة أن كل شيء فيها قد تغير، لكنه شغل عن التفكير في ذلك بمد ذراعه وتقديم العزاء بكل ما يملكه من إخلاص وتأثر.
هتفت قائلة وهي تنظر إلى اليد الممدودة والوجه الضامر الذي انحنى عند مصافحتها: صابر؟ صابر الأيوبي؟ غير معقول.
قال وهو غارق في خجله الريفي الذي ساعدها على تذكر الزميل القديم: البقية في حياتك يا نعمة هانم، لم أعرف إلا اليوم من صبرية.
رجته أن يتفضل بالجلوس وخلعت النظارة السميكة من فوق عينيها وهي تقول: فيها الخير، هي الوحيدة التي تتصل بي باستمرار وأول من عزاني في المرحوم.
رفع رأسه قليلا لينظر إليها وهو لا يصدق أن هذا الوجه الممتلئ العريض الذي تهدل لحم خديه وانتشر الشيب في شعره هو وجه نعمة عبد المنعم، ولم يستطع أن يفهم كيف يمكن أن يكون الجسد الضخم المترهل الذي يملأ المكتب هو جسدها، وكان من الضروري أن يقول شيئا فتمتم: البقية في حياتك وشدي حيلك. ترك لك طول العمر.
قربت وجهها من وجهه كأنها تحاول إحياء الألفة القديمة وهمست في صوت حميم تحرص على ألا يصل إلى أذن أخرى: والمشاكل التي لا آخر لها أيضا، تصور يا صابر ...
وقطعت كلامها فجأة لتوجه حديثها إلى صبي أسمر شديد السمنة يجلس على كرسي صغير بجوار المكتب ويشغل نفسه بلعبة آلية معقدة يبدو أنه لا يريد أن يتركها قبل تفكيكها وتخريبها: تعال يا وليد، سلم على عمك صابر.
قام صابر إلى الصبي يريد أن يقبله بحنان ويربت على ظهره، لم يكترث الولد برفع عينه عن اللعبة التي دخل معها في صراع عنيف، واكتفى بإزاحة اليد التي حاولت الاقتراب منه.
قالت نعمة معتذرة ومؤنبة ابنها: جيل العنف والتلفزيون. طبعا لا يمكنه أن يفهم شاعرا مثلك، على فكرة ...
قطع كلامها مرور الساعي أمامها متجها إلى باب الشقة. نادت عليه وسط دقات وليد وخبطاته المريعة وهي تصيح: تعال يا محمد - قلت لك اترك السوبرمان الزفت من يدك يا وليد - قهوة مثل زمان أم تفضل ...
Bilinmeyen sayfa
قال صابر وهو يبتسم في حرج كأنما شجعته على الخروج من الجو الجنائزي الذي هيأ نفسه له: نعم نعم، مثل زمان.
استأذنته بضع دقائق حتى تأتي القهوة في تشطيب الأوراق التي أمامها ...
وضعت نظارتها السميكة على عينيها واستغرقت في القراءة والمراجعة.
واستغرق صابر بدوره في تأمل الوجه الذي طالما احتضنه بعينيه ثم احتضن صورته في قلبه طول العمر. يا إلهي! أيمكن أن يفعل بنا الزمن كل هذا؟ أين وجه الرضيع الذي كان لا يشبع من نضارته وبراءته؟ والملامح الرائقة المنسكبة كأشعة الفجر الوردية، كيف خددها الزمن وغطتها سحب الحزن والتعب والشيخوخة قبل الأوان؟ الألماسة التي كانت تبرق وتتألق كلما رآها بجوار صبرية وكلما لاحظ العرق على جبينها يتحول إلى قطرات الندى أو حبات الماس، كيف انطفأ بريقها وخبا الفجر في عيونها؟ وها هو الموت يفاجئها أيضا ليجفف نبع البراءة الذي عرفه ونهل منه خياله؟ والضحكة الخالية البال هل ذهبت هي أيضا وداستها خيول الزمن والألم والملل والضجر؟ •••
رن صوت الفنجان على المكتب فرفع بصره إلى الساعي وشكره. وتمثلت له تلك الجلسة البعيدة في الحديقة عندما لبت دعوته مع صبرية لشرب القهوة، وأوشك أن يبعث اللحظة المسحورة حية من أكفانها القديمة، حين فاجأه صوتها: وما أخبار الشعر معك يا صابر؟
نظر إليها نظرة طويلة تمنى أن تخلو من أي اتهام وقال وهو يضحك ضحكة خافتة: لا شعر ولا نثر ... من أيام الكلية توقفت تماما عن الشعر. ثم جربت حظي مع القصة والمسرحية فلم أجد أي صدى.
قالت وفي صوتها نغمة تحسر خففت منها روح المجاملة: خسارة، كان يمكن أن تصبح شاعرا كبيرا.
قال باقتضاب وهو يشيح بيده ليغلق هذا الباب: تعرفين متاعب التعليم وهمومه ... ترجمت بعض القصائد أثناء وجودي في البلاد العربية. نشرت كذلك بعض الدراسات، لكن لم يبق لي من الشعر إلا القراءة والحسرة.
رنت ضحكتها الخالية التي طالما انتشى بصفائها وإن خالجتها الآن بحة وتهدج لاهث مضطرب: الحسرة؟ لا لا لا.
أضاء زر على جهاز صغير أمامها بالنور الأحمر مصحوبا بصوت آمر متحشرج.
Bilinmeyen sayfa