وفي الطبقة العليا من هذا القصر ثلاثة معابد، أحدها على اسم مار سواح والآخر لمار أنطونيوس والثالث باسم مار ميخائيل، وفي هذا المعبد الأخير نجد البطاركة الذين ماتوا هناك محنطين في توابيت والقصر حصين قد احتاطوا لمنع الأذى عنه بأن جعلوا بابه في الطبقة العليا لا يمكن الصعود إليه إلا على سلم أو جسر مدرج واصطنعوا له سلما مستقلا ضخم الشكل ثقيل الحمل ينصب عليه عند الحاجة فإذا أنزل عنه لا يمكن رفعه إلا بالآلات الرافعة، أو يتعاون في نصبه عدة رجال.
وأفاق زكريا في صباح اليوم التالي على صوت الناقوس للصلاة باكرا، فنهض وأسرع مع سائر الرهبان لحضور القداس في كنيسة أبي مقار، وهي أفخم تلك الكنائس وأجملها، وفيها ثلاثة هياكل: أكبرها الهيكل الأوسط ومساحته 25 قدما في 20، وعليه قبة مبنية من القرميد على طراز جميل وعلى جدرانها صور بعض القديسين وفي وسطها مذبح من الحجر وراءه مقاعد كالمنبر.
فاصطف الرهبان لسماع الصلاة وعددهم بضع عشرات بينهم عدة قسوس يتقدمهم البطريرك بلباس الصلاة ورئيس الدير. وكان زكريا يعرف البطريرك من قبل، وقد شاهده مرارا في كنائس مصر لكنه رآه الآن قد تغيرت ملامحه وبانت الشيخوخة في جبينه ولحظ عليه انقباضا لم يعهد فيه مثله، فقال في نفسه: «لأمر ما تغير في البطريرك؟» وازدادت رغبته في ملاقاته، فأقيمت الصلاة بالقبطية على جاري العادة وليس في الجمع غريب غير زكريا فلفت وجوده انتباههم، وأصبحوا ينتظرون الفراغ من القداس لسماع حديثه.
أما هو فحالما انقضت الصلاة وخرج البطريرك والرهبان ذهب إلى الراهب الذي استقبله بالأمس، وطلب إليه أن يقدمه إلى البطريرك، فاستمهله إلى ما بعد الفطور ودعاه إلى الطعام في غرفة مستطيلة في وسطها مائدة طويلة من الحجر، إلى جانبها مقاعد يجلس عليها الرهبان في صفين فأجلسوه معهم وجيء بالطعام، وهو غاية في البساطة لا لحم فيه ولا فاكهة، فأخذوا يأكلون بعد صلاة مختصرة إلا راهبا منهم تولى قراءة فصول من الكتاب المقدس في أثناء الطعام.
وكان زكريا يأكل وذهنه مشتغل بما سيدور بينه وبين البطريرك من الشئون التي جاء من أجلها أو اتفقت له في طريقه وتثبت من ضياع المئونة المحمولة إلى الدير مع الذين حملوها إذ لم ير واحدا رجع منهم حتى تلك الساعة. وكان الرعيان يتحادثون ويشركون زكريا في حديثهم وهم يحسبونه راهبا مثلهم.
فلما فرغوا من الطعام نهض الراهب الشيخ ومضى بزكريا إلى غرفة رئيس الدير، فقدمه إليه فأسرع زكريا إلى تقبيل يده، فرحب به وسأله عن حاله وغرضه فقال: «جئت لمقابلة أبينا البطريرك.»
قال: «لعلك من رهبان النوبة؟»
فوجم هنيهة ولم يجب فرارا من الكذب، ثم قال: «كلا يا سيدي وإنما لبست هذا الثوب لسبب سأعرضه على أبينا البطريرك.»
قال: «حسنا، ولكن صاحب الغبطة مشغول الآن، وقد لا يرضى بأن يرى أحدا.»
فأطرق زكريا وهو لا يستطيع صبرا، ثم قال: «أود مقابلته الساعة، وأرجو منك أن تستأذنه لعله يسمح بمقابلتي؛ فإني قادم لأمر ذي بال.»
Bilinmeyen sayfa