قالت: «لا أضمر شيئا سوى أني ...» ففهم مرادها، وقال: «ولا تبالي شيئا، فما هي إلا بضعة أيام حتى يخلو لنا الجو، فإني عندما انتهي من جر الماء أفوز برضاء الوالي، فلا يبقى لصاحبنا هذا جسارة للكلام معك، ويظهر أنه لم يعد يجسر على ذلك منذ الآن ألم تري جبنه وخوفه؟ اطمئني لا تخافي. أستودعك الله.» ومد يده وودعها وخرج.
أما دميانة فوقفت بعد خروج سعيد جامدة، وقد ندمت على مجيئها إلى الكنيسة؛ لعلمها بأخلاق إسطفانوس. وأدرك العم زكريا قلقها فأخذ يخفف عنها ويحقر أمر إسطفانوس في عينيها ويهون عليها غضبه وأنه لا يستطيع أمرا. ثم علت الضوضاء في الكنيسة وتصاعدت رائحة البخور وتعالت أصوات الترتيل وصلصلة المباخر، فتوجهت الأنظار نحو الأسقف داخلا بأثوابه الكهنوتية تتلألأ وبين يديه الشماسة بالشموع والمباخر، فاشتغلت بسماع القداس عن هواجسها إذ كانت تجد في سماعه لذة عظيمة.
قضت في الصلاة وسماع القداس برهة وهي تفهم كل ما يقال لأن الصلاة كانت لا تزال كلها بالقبطية وهي تفهمها جيدا. وكان الظلام قد أسدل نقابه، فازدادت أنوار الشموع ظهورا وكثر الزحام حتى تضايقت دميانة في موقفها. ولحظ العم زكريا ذلك فاستمهلها وذهب إلى شماس يعرفه، واستأذنه في كرسي ترتاح عليه بحيث تسمع الصلاة بعيدا عن الضوضاء. فأجاب الشماس طلبه ودعاها إلى كرسي بجانب الهيكل بعيد عن الناس. فجلست عليه ووقف العم زكريا بين الحضور وهو يراعيها وينتظر إشارتها.
فلما جلست هناك أشرفت على الجماهير وأكثرهم من أهل القرى والعمال بين مصغ للقداس ومشتغل بالحديث. وفيهم النساء والأطفال والضوضاء غالبة لشدة الزحام. ومع تلذذها بما تسمعه من التراتيل الروحية فإن صورة سعيد لا تزال تعترض تصوراتها فإذا تذكرت ما دار بينهما اختلج قلبها وإذا تذكرت إسطفانوس انقبضت نفسها، وفيما هي في ذلك رأت الجماهير يتفرقون وقد فتحوا في وسطهم طريقا دخله جماعة يحملون تابوتا عليه رسوم كنائسية. حتى إذا توسطوا الكنيسة وضعوه على منضدة قائمة هناك، وخشع الناس لرؤيته ودنا الأسقف منه بالمباخر، وأخذ يتلو الصلوات والأدعية ويتضرع إلى الله أن يقبل احتفالهم ويبارك النيل إذا ألقوا التابوت فيه والناس على دعائه. •••
فرغ الأسقف من الصلاة ، وأخذ الناس ينفضون ويخرجون فنظرت دميانة إلى العم زكريا في المكان الذي عهدته فيه، فلم تجده فارتبكت في أمرها، وأجالت نظرها في الجمع لعلها تجده بينهم، فلم يقع بصرها عليه، فازدادت قلقا إذ خافت أن يخرج الناس كلهم ولا تراه. لكنها ما عتمت أن رأته داخلا مسرعا، فسري عنها ولما دنا منها سألته عن سبب غيابه فقال: «فكرت فيما نعمله بعد انقضاء القداس، وأنا أعلم أنك لا تحبين الذهاب إلى فسطاط إسطفانوس، فذهبت إلى أبيك واستأذنته في أن نعود للمبيت في الدهبية.»
ففرحت لهذه الفكرة وقالت: «وهل أذن لك في ذلك؟»
قال: «نعم هيا بنا إذا شئت.»
فنهضت ومشت في أثره حتى خرجت من الكنيسة، فرأت ما أدهشها من الأنوار الكثيرة في الخيام على الضفتين وفي الجزر وفيها المصابيح والمشاعل وقد تزاحم الناس وعلت ضوضاؤهم بين غناء ونداء وعربدة وقهقهة. ولفت نظرها ما شاهدته هناك من الأنوار السابحة في النيل على الحراقات، فإنها كانت كثيرة وفي كل حراقة جماعة يشربون ويعربدون ويصيحون، وقد اختلط حابلهم بنابلهم رجالا ونساء.
فأضاء العم زكريا مصباحه ومشى بين يدي دميانة في طريق قليل الزحام بعيد عن الشاطئ حتى إذا قابل الدهبية تحول نحوها ودميانة تقتفي أثره وعيناها شائعتان في عرض النيل تتفرس السفن لعلها تميز سفينة ابن طولون فلم تجدها وما زال العم زكريا حتى صعد بها إلى دهبيتهم وما دخلت غرفتها وبدلت ثيابها وجلست للاستراحة حتى جاءها العم زكريا بطعام تناولت بعضه وهي لا تشعر بالنعاس فصعت إلى مجلسها في أعلى السفينة وأعادت نظرها إلى الحراقات والسفن وهي تبحث عن سفينة ابن طولون وتظهر أنها تتفرج على الحراقات، فتحققت غياب السفينة. وكانت قد ضاقت بما تسمعه من ألوان العربدة في السفن حولها فأوت إلى فراشها.
وأفاقت في فجر اليوم التالي على صراخ الناس عند خروج الأسقف والكهنة بالتابوت. وكانوا قد حملوه على قارب وعليه الأزهار والرياحين وقد أخذ الكهنة في الترتيل والأدعية، والقارب يخترق النيل حتى إذا وقف في مكان يعرفونه أنزلوا التابوت في الماء ثم أعادوه، وأخذت جماهير الناس تتفرق برا وبحرا.
Bilinmeyen sayfa