قال: «وإذا لم نجده؟»
قالت: «نبحث عن زكريا.» وتذكرت مصائبها فانقبضت نفسها وتنهدت.
وكان جملاهما سائرين متحاذيين وراء القافلة لا يسمع لخفافهما وقع، وإذا التفت الراكب إلى يساره رأى رمالا وصخورا، وأما إلى اليمين فيقع البصر حينا بعد حين على المزارع عند ضفة النيل، وقد يرى النيل جارها والعمارة على ضفتيه أكثرها قرى صغيرة.
وكانا قد اقتربا من الجيزة، ومرا في طريقهما على الهرم المدرج، وأشرفا على أهرام الجيزة، ووقع نظرهما إلى اليمين وراء النيل على حلوان، وظهر لها المقطم وعليه قبة الهواء وتحتها قطائع ابن طولون، فأذكرها ذلك يوم الاحتفال الذي أخذ فيه سعيد، فهاجت أشجانها وبان الانقباض في وجهها، وتلألأ الدمع في عينيها، ولحظ سمعان ذلك فشاركها في إحساسها، وأخذ في التخفيف عنها، وكان قد عرف أنها بنت وجيه غني، وأعجبته أنفتها وعزة نفسها؛ فقال لها: «لا بأس عليك يا سيدتي اشكري السيد المسيح على نجاتك من الأسر والعار.»
فقالت: «أشكره كثيرا، ومن نعمه أنه سخرك لإنقاذي، ولكني تنقبض نفسي كلما أتذكر شقائي وأني أصبحت طريدة شريدة لا أخ لي ولا أخت ولا أم، وقد عاداني أبي، واضطهدني أقرب الناس إلي.»
وتنهدت وسكتت، وظهرت في ملامحها ملامح الخجل واليأس معا؛ لأنها تذكرت سعيدا وأرادت أن تذكره وترجو لقاءه فغلب عليها الحياء ولحظ سمعان ذلك فأحب أن يخفف عنها وقد تذكر مصائبه وكان قد تناساها مع الزمان فقال: «إن الإنسان يا سيدتي عرضة للمصائب، والمسيحي الحقيقي يتأسى بالسيد المسيح، فقد تألم وصلب من أجلنا، واحتمل كل ذلك بالصبر فينبغي لنا أن نصبر.»
فاقتنعت بحجته ولكنها بقيت مكبوتة العواطف، وتود أن تقول شيئا عن سعيد والحياء يمنعها، فقال سمعان: «ولا يخفى علي أنك تضمرين أمرا يمنعك الحياء من التصريح به، لعل سعيدا مرجع آمالك، فإذا لقيته نسيت كل شيء، أليس كذلك؟»
فأجابت وقد غلبت على أمرها: «نعم صدقت ولكني لا أدري أين هو: أفي السجن أم أطلق سراحه؟» وأطلقت لنفسها عنان البكاء، فخاف سمعان أن يسمع أحد من الركب صوتها، فأخذ يتباطأ في سيره وهي تجاريه حتى سبقتهما القافلة مسافة بعيدة، وصارت على مقربة من أهرام الجيزة، وكانا قد أشرفا عليها وعلى أبي الهول من بعيد، فاستبشرا بقرب الوصول.
أما دميانة فاستأنست بسمعان، واتخذته عونا لها - كما كانت تفعل مع زكريا - وزادها تعلقا به مشابهته له في ملامحه وأخلاقه، فقالت: «وهل تظنني أنسى هذه المتاعب يا سمعان؟» قال: «أرجو ذلك من الله، أما أنا فلا أتخلى عنك حتى أبلغك أمنك ويطمئن قلبي.» قال ذلك وتنهد وقد تغيرت سحنته وسكت فسألته عما طرأ عليه فقال: «إني لا أمر من هذا الطريق وأنظر إلى الفسطاط إلا وتنقبض نفسي وتهيج أشجاني ... لحادث أتذكره مع رغبتي في تناسيه ... فلا تهتمي بهذا الأمر ... عودي إلى حديثنا عن المهندس سعيد.»
فضحكت ومالت إلى معرفة كنه أمره، وحسبت إلحاحها عليه بذلك مما يخفف وقع ذكرياته فقالت: «لقد شغلت خاطري بما ظهر عليك من الانقباض فلعل لك قصة غريبة.»
Bilinmeyen sayfa