ولما غربت الشمس وساد الظلام أوقدوا نارا بين الخيام للاستضاءة، وأتى رجل يتكلم القبطية وتقدم إلى دميانة ورفيقتها وأخذ يطمئنهما، وحبب إليهما الصحراء. ثم أتاهما بالطعام، وهو اللحم واللبن فعافت نفس دميانة الطعام، ولكنها اضطرت من العطش إلى شرب اللبن. ولما سمعت كلام الرجل سكن روعها؛ لأنها آنست منه تشجيعا ورأت فيه أريحية، فقالت له: «إلى أين سائرون بنا؟»
قال: «إننا سائرون إلى مولانا الأمير أبي حرملة كبير أمراء البجة.»
قالت: «أين هو؟»
قال: «على مسافة بضعة أيام من هذا المكان، لا تخافي؛ فلا يستطيع أحد منا أن يمسك بسوء ومثلك يا جميلة لا ينالها إلا الأمير.»
لما سمعت قوله ذعرت واضطربت، ولكنها تجلدت والتفتت إلى علية فرأتها مطرقة ولم تكن في مثل ذعرها؛ لأنها تعودت عيشة البادية وعرفت بعض طبائع البدو. أما الرجل فلما رآها تلتفت إلى رفيقتها ضحك فبانت أسنانه بلا قواطع مع صغر سنه فكان له منظر غريب، ثم قال: «أما هذه العربية فربما اختار الأمير أن تكون عنده، أو لعله يهبها إلى أحد أمرائه، أو يستخير الآلهة في شأنها.» ثم تفرس في فم دميانة وقال: «ما أجمل فاك لولا القواطع فيه؛ فإن الأسنان الأمامية تشوه منظر الفم، فليست بلازمة إلا للبهائم.» وأشار إلى فمه وقال لها: «انظري إلى أسناني، فإني من قبيلة تقلع هذه القواطع؛ لئلا تتشبه بالحمير، وليس كل البجة يفعلون ذلك أما أميرنا فإنه يحب الأسنان البيضاء ولولا هذا لقلع أسنان نسائه.»
فاستغربت دميانة حديثه واستخفت روحه، ولكنها بقيت في اضطراب وقلق وأحس الرجل بخطوات خارج الخيمة فتوقف عن الكلام وتململ وتحفز للخروج وإذا برجل آخر دخل وظهر من لباسه أنه رئيس تلك العصابة وله عينان براقتان ووجه نحيف ودلائل الصحة والقوة بادية فيه. ولما رأى ذلك الرجل هناك نظر إليه مؤنبا وقال بلسانهم كلاما لم تفهمه دميانة ولا علية، ولكنهما أدركتا أنه يوبخه. ثم قال له قولا وأومأ إليه أن يقوله لهما، فقال: «إن مولانا القائد يلومني؛ لأني أحدثكما، وهذا محظور علينا، وهو يطلب أن تطمئنا ولا تخافا.»
فأومأت دميانة برأسها شاكرة وقد احمرت عيناها من أثر البكاء أثناء الطريق. فأوعز إليهما ان ترتاحا وتناما على جلد فرشوه لهما وخرج.
فنامت دميانة بعد أن صلت وتضرعت إلى السيد المسيح أن يرعاها ويحرسها.
وفي صباح اليوم التالي جاءهم الخادم باللحم واللبن فأكلت علية حتى شبعت أما دميانة فلم تأكل إلا قليلا، ونظرت إلى ما حولها فرأت أنها في صحراء رملية قاحلة وأن العصابة مؤلفة من بضعة وعشرون رجلا معهم الجمال والخيول. ولما أشرقت الشمس ركبوا يطوون البيداء. وبالغ البجة في إكرامهما والتخفيف عنهما؛ شأن أهل البادية في المحافظة على العرض إلا ما يحلونه لأنفسهم من الغنائم. •••
قضى رجال البجة يومين يضربون في الصحراء، وفي اليوم الثالث عند الظهيرة أشرفوا على مناجم الزمرد، فرأوا عمالا من البجة ومن بعض أهل النوبة يحفرون في الأرض وهم عراة إلا ما يستر العورة. فلم تكترث دميانة بالقوم وبحفرياتهم. ولم يقف الركب إلا ريثما ساقوا معهم بعض الماشية مما كانوا قد أعدوه هناك طعاما لما بقي من الطريق وما زالوا سائرين على هذه الحال حتى وصلوا إلى نجع كبير عرفت دميانة وعليه أنه نجع الأمير وهو مؤلف من خيام كثيرة من الجلد في وسطها خيمة واسعة مزخرفة، وبجانبها خيمة أخرى كالقبة - من الجلد أيضا. وبجانب النجع مسارح للماشية من الضأن والبقر ولحظت دميانة أن «أبقارهم» تمتاز بقرونها الطويلة مما لم تر له مثيلا في مصر. على أن كل اهتمامها كان منصرفا إلى ما عساه أن يكون شأنها مع الأمير الذي ذكروا أنها ستكون عنده.
Bilinmeyen sayfa