على أنه لم يكد يعود إلى طبيعته المألوفة التي رده إليها إقدامه على الطعام والشراب والحديث حتى نسي الليل وسهوده وهجوده ووطن نفسه مسرورا محبورا، على أن ساعة مع شهرزاد خير من كل أيامه تلك التي كان يحياها منفردا أو كالمنفرد، لا يلقى زوجه إلا بمقدار وعلى ميعاد، حسب ما تقتضيه ظروف الحياة للملوك الذين أثقلت قصورهم التقاليد التي تراكم بعضها فوق بعض على ممر الدهور واختلاف الأجيال ، وما يمنعه وقد فتحت له شهرزاد هذا الباب الذي لم يكن ينتظر أن يفتح له، ما يمنعه أن يتمارض ويتكلف العلة ويلقي إلى وزيره مقاليد الدولة يدبرها كما يشاء أو كما يستطيع، حتى يبل هو من مرضه أو من تمارضه! ما يمنعه أن يتكلف العلة ليخلص لشهرزاد ما دامت هي تريد أن تخلص له! ولكن ما الذي حملها على أن تلقاه بهذا العطف الذي لم يتعوده، وبهذا الحنان الذي لم يألفه! أتراها صادقة فيما تظهر من ذلك أم تراها متكلفة؟! وما الذي يدعوها إلى هذا التكلف، وهي تعلم حق العلم أنها مستأثرة بقلب الملك وعقله تأمرهما بما تشاء دون أن تخشى منهما امتناعا عليها، وتنهاهما عما تشاء دون أن تخشى منهما خلافا، وهي أكرم على نفسها وأرفع في نفسها من أن تتملق رجلا أو تتلطف له مهما يكن؟! هي إذا لا تتكلف هذه العواطف، ولكنها مع ذلك لم تألف هذه العواطف ولم يألفها منها شهريار! وإنما هي غامضة دائما، مدلة دائما، لا تدنيه إلا لتقصيه، ولا تلطف به إلا لتعنف عليه، أفتراها قد وصلت إلى دخيلة نفسه، ووقفت على جلية أمره، وعرفت أنه مريض حقا، وأشفقت عليه من هذا المرض؛ فهي تريد صادقة أن تبره وترفق به وتطب علته حتى يبرأ.
كل ذلك ممكن وغير ذلك ممكن، سواء منه ما عرفه شهريار وما لم يعرفه، فقد استقر في نفسه أن صاحبته بحر لا يسبر غوره، وليل لا تنجلي ظلمه، ولغز لا تحل مشكلاته، وهو على ذلك ناعم بعشرتها سعيد بما تحمله عليه من الرضا والسخط، ومن اللذة والألم، ومن النعيم والبؤس، ومن الظفر والحرمان. فلينتهز إذا هذه الفرصة التي هيئت له، ولينعم بهذه السعادة التي تعرض عليه، وليعش في ظل شهرزاد ناعما بائسا وسعيدا شقيا كما تعيش رعيته في ظله هو ناعمة بائسة وسعيدة شقية. وقد كان يظن أنه الملك، وأن كلمته هي العليا، وأن أمره هو المطاع الذي لا معقب له، فقد ظهر له الآن أن هناك ملكا أقوى منه وأعظم سلطانا، وأنه هو الرعية لهذا الملك، وهل شهرزاد آخر الأمر إلا قوة متسلطة عليه تصرفه كما تريد وتدبر أمره كما تهوى دون أن يستطيع امتناعا عليها أو إباء؟!
وكذلك أنفق شهريار نهاره الأول كالطفل خاضعا لسلطان أمه الحنون، تأمره فيأتمر وتنهاه فينتهي، واجدا في ذلك اللذة كل اللذة والنعيم كل النعيم، وكانت شهرزاد رفيقة به إلى أقصى غايات الرفق، محبة له إلى أبعد آماد الحب، تصرفه في فنون الهزل والجد، وتنقله في أطوار المرح والهدوء، حتى إذا ضرب الليل سرادقه المظلم الكثيف على الكون أوت به إلى غرفة من غرفاتها، فتحدثت إليه فنونا من الحديث، وأسمعته ألوانا من الغناء وضروبا من الموسيقى، ثم أقبلت إليه آخر الأمر باسمة هادئة وقالت له في صوت متكسر بعض التكسر فاتر بعض الفتور: «قد آن للطفل أن يستريح إلى النوم فيما أظن، هلم إلى مضجعك يا مولاي.» ثم أخذت بيده ومضت وهو يتبعها مستسلما محبا لهذا الاستسلام منكرا له في قرارة نفسه، سائلا عن إرادته أين ندت، وعن قوته أين شردت، راجيا ألا تعود إليه هذه الإرادة وألا ترد إليه هذه القوة، فمن الخير أن ينعم الإنسان «بإجازة» يستريح فيها من إرادته وقوته ومن ملكات نفسه كلها، وقد أذن لشهرزاد بهذه الإجازة، فهو ينعم بها غارقا في لذاتها إلى أذنيه، وها هو ذا قد أوى إلى سريره، وها هي هذه شهرزاد تسوي له الوسائد حتى تطمئن إلى أنه قد استراح في مضجعه، ثم تنصرف عنه لنفسها شيئا، ثم تعود إلى الغرفة فتمضي فيها ذاهبة آئبة مختلسة نظرة بين حين وحين إلى طفلها هذا الكبير. حتى إذا رأته قد اطمأن إلى النوم ومضى معه في طرقه المجهولة، أوت هي إلى سريرها فغاصت فيه غوصا ودعت النوم، فما أسرع ما استجاب لها وشمل الغرفة هدوء متصل.
أطال هذا الهدوء أم قصر؟ لا سبيل إلى معرفة ذلك؛ فقد كان الليل قد قطع في طريقه شوطا بعيدا قبل أن ينام العاشقان، ولكن شهريار يتنبه من نومه هادئا مطمئنا لا يقول شيئا ولا يأتي حركة، وإنما يمد سمعه نحو سرير شهرزاد فقد ألم به طائفه ذاك فمس كتفه مسا رفيقا وألقى في روعه هذه الجملة: «أفق ولا تحدث حسا، فقد آن أن تستمع لحديث شهرزاد.»
4
ولا يطول انتظار الملك، لكنه يسمع قائلا يقول: «فلما كانت الليلة الحادية عشرة بعد الألف قالت شهرزاد ...» ثم ينقطع هذا الصوت، ويبلغ أذن الملك صوت شهرزاد رقيقا رشيقا وهي تقول: «بلغني أيها الملك السعيد أن وزير الملك طهمان بن زهمان اضطر إلى إخفاء ما في نفسه من الخوف على المدينة وأهلها مما أزمعت فاتنة، وخرج وهو يقول للملك: «إنه مبلغ تحدي الأميرة لملوك الجن جميعا.»
فلما خلا الملك إلى ابنته قال لها في صوت باسم يملؤه الحنان: «فستأذنين لي في أن أحدثك بما أبيت أن تسمعيه من الوزراء ورجال القصر؛ فإنهم يا ابنتي قد أشفقوا على أنفسهم ومدينتهم وأهل المملكة جميعا من هول هذه الحرب التي تتعجلينها، وهم يعلمون أن أهوال الحرب لن تبلغك ولن تبلغني، فإن لك ولي من ملكنا عصمة ووزرا، ولكنها ستبلغهم هم، ستعرض شبابهم للموت، وستعرض أطفالهم لليتم، وستعرض شيوخهم للبؤس والثكل، وستعرض نساءهم للتأيم والشقاء، وستعرض أموالهم للفناء، ستصب عليهم البؤس صبا في ألوانه المختلفة التي لم نذقها ولا ينتظر أن نذوقها، ولكننا نعلم ما نعلم من أمرها بما نقرأ في الكتب وما نسمع في الأحاديث، وقلما نراها رأي العين أو نحسها إحساسا مباشرا، فنحن لا نتنزل إلى مخالطة الرعية لنشهدها حين تبتهج وحين تبتئس وحين يمسها جناح من لين أو يصيبها عارض من شدة، فلهم العذر يا ابنتي إن ارتاعوا أو التاعوا أو أشفقوا من هذا المكروه الذي يوشك أن يلم بهم فلا يبقي عليهم، وفي قلوبنا نحن الرجال قسوة، وفي أكبادنا غلظ، وفي طبائعنا شدة وعنف، ولكن قلوب النساء رحيمة، وأكبادهن رقيقة، وطباعهن لينة صافية، فإذا دبر ملوك الجن ما دبروا وقدروا أن ينصبوا لنا الحرب، فقد كنت أنا خليقا أن ألقاهم بهذه الشدة، وأن أنصب لهم حربا كالتي يريدون أن ينصبوها لي، وأن أكيد لهم كما يكيدون لي، وكنت أنت خليقة يا ابنتي أن تشفقي من هذا الهول، وأن ترفقي بالرعية، وأن تقترحي علي وعلى الوزراء من وسائل السلم ما يرد عن الناس هذا المكروه، ولكنهم يا ابنتي قد رأوني صامتا لا آمر ولا أنهى، ورأوك مقدمة على هذا الأمر العظيم لا تحسبين حسابا لنعيمهم الضائع وبؤسهم الواقع، فأنكروا في نفوسهم وهموا أن يجهروا بما أضمرت قلوبهم، ولكنهم خافوك وخافوني، فأذعنوا للأمر على كره منهم ولم يقولوا شيئا، أو هم خافوك أنت ولم يخافوني أنا! فقد أصبحت شيئا لا يخاف، وإنما أنا هامة اليوم أو غد كما يقول حمقى الناس من حولنا، وجذوة اليوم أو غد كما ينبغي أن نقول نحن في لغتنا، ومهما يكن من شيء فإنهم خافوك يا ابنتي؛ لأن أمرهم إليك غدا أو بعد غد، ولم يخافوني أنا لأني متصل بالماضي الذي ليس إلى رجوعه من سبيل.»
وهمت فاتنة أن ترد على أبيها، ولكنه مضى في حديثه مترفقا فقال: «ويظهر يا ابنتي أن الشيخوخة تدنينا من العقل أو تدنينا من الجنون أو تدنينا منهما جميعا، ولست أدري أحزم ما يضطرب في نفسي من الخواطر أم حمق؟ ولكني ملقيه إليك على علاته، فخذيه مني كما هو، وافعلي به بعد ذلك ما تريدين؛ فقد وصلت إلى السن التي لا أستطيع أو لا أريد أن أبرم فيها أمرا، فيم يدبر ملوك الجن لنا هذا الكيد؟ وفيم ينصبون لنا هذه الحرب؟ وفيم تلقين كيدهم بمثله وتهيئين لحربهم حربا مثلها؟ في شيء لا يعني رعاياهم ولا رعيتنا من قريب أو بعيد. هم يحبونك ويتنافسون فيك، وأنت تزدرينهم وتترفعين عنهم وتمتنعين عليهم، وماذا يعني رعايانا البائسين مما نجد من الحب والبغض، وما نحس من العشق والهيام! إنهم لا ينعمون حين ننعم، ولا يبتئسون حين نبتئس؛ وإنما تجري حظوظهم من النعيم والبؤس على قوانين لا صلة بينها وبين ما نستمتع به من سعادة، أو نرزح تحته من شقاء ، ومن القسوة يا ابنتي أن ننعم وهم بائسون، وأن نقوى وهم ضعفاء، ونثري وهم فقراء، نستمد من بؤسهم نعيما، ومن ضعفهم قوة، ومن فقرهم ثراء، فكيف نضحي بهم في سبيل أهوائنا وشهواتنا وعواطف قلوبنا، ونزعات نفوسنا! لو رفقت بهم يا ابنتي لجنبتهم هذه الحرب التي يدبرها عشاقك، وهذه الحرب التي تدبرينها أنت لهؤلاء العشاق، ولاخترت لنفسك من بين هؤلاء الملوك زوجا تنعمين بعشرته وينعم بعشرتك، ومن يدري لعل رعيتكما أن تصيب أطرافا من هذا النعيم، ولكنك يا ابنتي لا تجنبينهم حربا، وإنما تدفعينهم إليها دفعا كما تدفع الوقود إلى النار المضطرمة التي لا تشبع مهما يقدم لها من الحطب، وأمرك في ذلك كأمر عشاقك جميعا، كلكم يتبع هواه الجامح، ويركب شهوته المندفعة، ويضحي في سبيل نفسه بكل شيء وبكل حي. ليس هذا حقا، وليس هذا عدلا، وقد كنت أعجب آنفا بما أوتيت من العلم وما بلغت من الحكمة يا ابنتي، ولكني أجد الآن حزنا لاذعا يؤذي شيخوختي المتهالكة؛ لأن ما أوتيت من العلم وما بلغت من الحكمة لم يهيئ لك وسيلة تسعدين بها غيرك كما هيأ لك هذه الوسائل التي ترضين بها هواك، وتحققين بها مآربك، وتظهرين بها على عدوك، وقد يكون كلامي هذا ثقيلا عليك يا ابنتي؛ فإني جربت الملك من قبلك، وعرفت أن الحق لا يبلغ من المرارة في نفس أحد ما يبلغه في نفوس الملوك، وعرفت أن النصح لا يثقل على أحد كما يثقل عليهم، فلكل امرئ من نفسه ما تعود، كما سيقول شاعر من الناس فيما يقبل من الزمان، ونحن قد تعودنا أن تستقيم لنا الأمور، وأن تجري لنا على ما نريد لا على ما يريد غيرنا، ونحن قد ألفنا أن نأمر ولا نأتمر، وأن ننهى ولا ننتهي، وأن نطاع ولا نطيع؛ فأصبح الشذوذ لنا طبيعة، والجموح لنا فطرة، والاستبداد بالحياة والأحياء لنا قانونا، فإذا تحدث إلينا متحدث بالحق، أو دعانا داع إلى العدل، أو رغبنا مرغب في أن ننصف من أنفسنا كما ننتصف لها، ضقنا بذلك أشد الضيق، وكرهناه أعظم الكره، ونكلنا بمن يدعونا إليه أو يرغبنا فيه تنكيلا، ولو أن وزيرنا قال لك بعض ما قلته الآن لأرسلته إلى الموت، أو لألقيته في غيابات السجن؛ وهو من أجل ذلك لم يقل لك شيئا، ولكنه قدر في نفسه كل ما قلت لك.
ففكري يا ابنتي في رعيتك وارفقي بها، بل فكري في رعايا عشاقك وارفقي بهم؛ فإن نعيم ساعة أو نعيم عام أو نعيم الدهر كله - إن ظفرت به - لا يعدل نفسا من هذه النفوس الكثيرة التي ستزهق ولا قطرة من هذه الدماء الغزيرة التي ستراق، أتسمعين لي يا ابنتي أم أنت ذاهلة عني مشغولة بتدبير أمرك هذا الذي تقدمين عليه!»
قالت فاتنة وقد غشي وجهها شيء من كآبة لم يلبث أن جلته ابتسامة حلوة: «لقد استمعت لك يا أبت فأحسنت الاستماع، وما ينبغي أن أذهل عما تقول أو ما تعمل، ومنك تعلمت أدب الحديث وأدب الاستماع وآداب الملك كلها، وما قلت لي يا أبت إلا الحق وما دعوتني إلا إلى الرشد، ولكن أمن الحق أن أكره على ما لا أريد؟! إن هؤلاء الذين يخطبونني إليك يعلمون حق العلم أني لا أحب منهم أحدا، ولا أبغض منهم أحدا، ولن أتزوج منهم أحدا، أفإن نصبوا لي الحرب ليكرهوني على ما لا أحب ويحملوني على ما لا أرضى، فلقيت كيدهم بكيد مثله، ودفعتهم عن نفسي بما تعودنا أن ندفع به عن أنفسنا، أكون ظالمة آثمة؟! فالتمس لي إذا يا أبت فرجا من هذا الحرج، ومخرجا من هذا المأزق، وهل يقصر إثم الحرب على هذه الحرب التي نحن مقدمون عليها؟! ومتى رأيت الملوك يقدمون على حرب لا تدفعهم إليها شهواتهم الجامحة وعواطفهم الجائرة؟! ومتى رأيت الشعوب تجنب هذه الأهوال وتعصم من الحرب لغير مصالحها المؤكدة ومنافعها المحققة؟! إن أثرة الملوك والسادة والزعماء، هي التي تثير الحرب دائما، وهي التي ترهق الشعوب دائما، وأكاد أعتقد أن الشعوب إنما خلقت ليرهقها الملوك والزعماء بالحرب والسلم جميعا، فليست الشعوب أعظم حظا من السعادة أثناء السلم منها أثناء الحرب. إنا ندفعها إلى الموت حين نحارب، وندفعها إلى البؤس والشقاء حين نسالم، فهي ضحية لنا على كل حال.»
Bilinmeyen sayfa