وأنا يا حضرات المستشارين لست أدعو بقولي هذا إلى الفوضوية التي يتاح فيها للفرد أن يمسك القانون بيديه يشرعه هو ويحاكم به الآخرين وينفذه أيضا؛ فإنه إذا حدث هذا وقعنا في هوة سحيقة ينهار فيها بنيان المجتمع كله إلى حضيض ما له من قرار. إنما أحاول فقط أن أخفف عبء جريمة القتل العمد التي توجهها النيابة - وهي المدافعة عن حق المجتمع - إلى قاتل أبي هذا. إن هذا الذي أقول هو ما يعتمل في نفسه، دفعني إلى قوله محاولة مني أن يكون العدل أعظم من الأبوة، وأن يكون حق الإنسان في الكرامة التي وهبها الله له مقدسا قداسة الروح الإنسانية، وأن تكون مصر مسبح آدميين لا غابة ذئاب.
وبعد يا حضرات المستشارين فقد يقال إنني دافعت عن المتهم وجحدت حق الأبوة، والله وحده يعلم كم أقدس الأبوة، ولكن تقديسي للحق ولكرامة الإنسان أشد. وإنني بهذا الذي أقوله أتوجه إلى الذات العلية أن أكون قد كفرت بما قلت عن بعض ما صنع أبي بالإنسان سيد المخلوقات، وبما امتهن من كرامته، وبما أذل من عزته، وبما أزهق من أرواحه.
وقد يقال شاب في مقتبل العمر انتهز قتل أبيه فرصة ليصنع منها لنفسه شهرة. وإني أحتمل هذه المقالة، ولا أحتمل أن أكتم الحق نفاقا للمجتمع، ولكنني أعلن منذ اليوم أنني أعتزل المحاماة، وأقبل أي وظيفة قد تعرض علي.
ولو كنت وكيلا عن موكل في هذه القضية ما قبلتها، ولكنني يا حضرات المستشارين أنا وحدي الموكل والوكيل فلا وارث للحق المدني غيري، ولهذا رخصت لنفسي أن أتشرف بهذا الدفاع في ساحتكم القدسية.
وأنهي مرافعتي يا حضرات السادة المستشارين بتنازلي عن الدعوى المدنية تاركا لأستاذي ممثل الدفاع البدء في مرافعته.
وأنهى صلاح كلامه واتجه إلى باب الخروج، وإذا عديلة التي كانت جالسة على مقعد بجانب الممشى تقف وإذا هي حين يقبل إليها تحتضنه وتقبله على ملأ الناس لأول مرة في حياتها ويصحبها ويخرجان.
ويبدأ الدفاع مرافعته: حضرات المستشارين، ليس لي بعد مرافعة المدعي بالحق المدني أي مرافعة أضيفها إلا أن أخبر عدالة المحكمة أن هذا الشاب الذي كان ماثلا أمامكم قد أرجع الحق إلى كل من اغتصب أبوه منه حقا.
وأنهي المرافعة بطلب البراءة.
والتفت رئيس المحكمة إلى ممثل النيابة: النيابة لها تعليق؟ - النيابة تفوض الأمر للمحكمة. •••
ذهب صلاح مع عديلة إلى منزل أبيها، ولم يكن هناك ما يستطيع واحد منهما أن يقوله. هو لا يزال مرتعشا بالموقف الذي وقفه مقتنعا أنه الحق. وهي مبهورة به، ولم يطل بهما الانفراد، جاء أبوها وقالت عديلة: ما الذي أخرك؟ - كنت أنتظر الحكم.
Bilinmeyen sayfa