وقرأ سليمان الورقة ووجدها عقد بيع من صلاح بالأفدنة الستة خالصة الثمن، وفهم أنه كان ينقل الحدود من العقد الأول، وجرت دمعتان على خدي سليمان وهو يقول: عجيبة! - وقال صلاح: ما العجيبة؟ - بل عجائب! - ما هي العجائب؟ - العجيبة الأولى أن عيني ما زال فيها دموع، ولم تحجرها السنون. والثانية أن تكون أنت ابن سباعي، وأمك من أشرف الناس ولا شك أنك ابنه فتلك عجيبة. أما العجيبة الثالثة أن عزرائيل تأخر عني طول هذه المدة وأنا لا أدري السبب. واليوم دريته. - والآن أتسمح لي؟ - بل انتظر. - ماذا؟ - الفلوس التي أرسلها إلي أبوك، لم أمسها. كما هي وهي هنا في هذه الحقيبة. - لا تلزمني. - أمثلي يقبل الصدقة؟ - أستغفر الله! وإنما الذي قدرته قلته أنت الآن، لو كان أبي صنع هذا معك وأنت تاجر فربما كنت تاجرت بالمال وكسبت منه. أما وقد فعل ما فعل بعد أن توقفت أنت عن التجارة فهذا معناه أن المال بقي عندك ولم يصنع شيئا. ولا شك أن نفسك عزفت حتى أن تشتري أرضا أخرى، فالريع الذي أخذه أبي من الأرض حقك، فليكن ما أرسله لك من المال مقابل هذا الريع. - منطق قد يقبله غيري؛ فقد كنت أستطيع أن أشتري أرضا أخرى، وكنت أستطيع أن أجعل زميلا لي في التجارة أو واحدا ممن علمتهم التجارة يتاجر لي؛ فإبقاء المال بلا عمل خطأ اخترته أنا ولم يفرضه علي أبوك. والأرض اليوم ثمنها أضعاف أضعاف ثمنها يوم اغتصبها مني أبوك ودفع فيها نصف الثمن، فإذا كنت تريدني أن أقبل الأرض فاقبل أنت على الأقل ما دفعه لي أبوك قسرا. إنه أرغمني على البيع بثمن بخس فأذل كرامتي، فلا ترغمني أنت على الشراء بلا ثمن وتزيد كرامتي ذلا. - لا والله؛ فما إلى هذا قصدت. - إذا أردت أن تريح ضميرك فأرح ضمير الناس، وأطال الله عمرك، وثبتك على ما أخذت به نفسك وأعانك عليه؛ فإن من كان في مثل عدلك سيلقى الكثير من المتاعب. خذ الفلوس. - أمرك. سلام عليكم. - مع ألف سلامة! •••
ذهب صلاح إلى بيت شاكر، وكان ما صنعه صلاح مع سليمان النواوي قد ذاع في القرية كلها، فرحب به شاكر؛ فقد أحس أن القادم إليه إنسان. قال صلاح: أين أخوك عبد التواب؟ - في بيته. - أرسل إليه من يستدعيه.
وجاء عبد التواب وبدأ صلاح: حياة الإنسان لا يساويها شيء في العالم، ولكن الله وحده هو القادر على أن يبعث الحياة ولا يد لي في هذا. وكل كلام للعزاء في أبيكما لا يجدي فلا عوض عن الأب، ولكنني أنا أريد أن أعيش، وبيدك أنت وأخيك هذا أن تسمحا لي بأن أحس أنني فعلت ما يجب علي أن أفعله في أضعف صورة، فأستطيع أن أعيش.
وقال عبد التواب: ما المطلوب منا يا أستاذ؟ - لا شيء إلا أن تقبلا هذا العقد. - وماذا فيه؟ - بيع باسمك واسم إخوتك مني للأفدنة الخمسة التي كان يزرعها أبوكم.
وبهت الأخوان، وقال شاكر: والثمن؟ - العقد خالص، والثمن وصل.
وقال عبد التواب: لا يرد الكرامة إلا لئيم. كان غيرك يستطيع أن يقول ما شأني بما فعله أبي ويبقي الأرض. - ولكني أنا لا أستطيع. - إذن فأنت جدير بالشكر. - بل الشكر لكما أن قبلتما. السلام عليكم. - السلام ورحمة الله وبركاته.
تردد كثيرا ثم جمع أطراف شجاعته وذهب إلى عبد الحميد ابن حسن قاتل أبيه. وجزع الشاب وهو يراه واقفا على رأسه في الدكان، وانتفض واقفا وبيده المقص، وهو يقول: ماذا تريد؟ - رد السلام أولا. - ومن أين يأتي السلام؟ - يا أخي، أبوك قاتل أبي وأنا الذي جئت إليك! - من أجل هذا أعجب، ماذا تريد؟ - كل خير إن شاء الله. - لم نر الخير منكم مطلقا. - صدقت، ولكن من يدري ماذا في داخل الأيام القادمة؟ رد السلام. - وعليكم السلام. - اقعد. - نقعد. - خذ هذا. - ما هذا؟ - أنا أعرف أنك تعلمت القراءة والكتابة.
وقرأ عبد الحميد: أهذا معقول؟ - نعم. - ليس معي ثمنها. - ألم تقرأ العقد؟ - نعم. - ماذا فيه عن الثمن؟ - أنه خالص. - وهو خالص. - هذا كثير، هذا كثير. إن أبي قتل أباك من أجل هذه الأفدنة الثلاثة. - والآن وقد مات أبي فلنترك الأيام تصنع ما عندها، ويؤدي كل منا واجبه.
وانفجر عبد الحميد عن بكاء عالي النحيب، وراح صلاح يربت كتفه، وقال عبد الحميد: أنا الذي جعلته يصنع ما صنع. - أنت؟ - كنت دائما أعيره أنه قبل الذل، وكان يقول إنني أقتله كلما قلت له هذا. قال لي عندما زرته في السجن: ثلاث رصاصات، عن كل فدان رصاصة، قل لأولادك جدكم لم يكن ذليلا. - هل وكلت عنه محاميا؟ - لا. - وهل معك أجر المحامي؟ - سأدبره. - خذ هذا المبلغ، وتسمع نصيحتي في اختيار المحامي أم تظن أنني أغشك؟ - أتقدم لي كل هذا وتغشني؟ - إذن فاذهب إلى القاهرة، ووكل الدكتور عبد الوهاب رفاعي أستاذ القانون الجنائي في كلية الحقوق، وهذا عنوان مكتبه. سلام عليكم. - نعم، الآن السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبقي صلاح في البلدة يعيد إلى كل من اغتصب منه أبوه أرضا أرضه أو يعيدها لأولاده، منهم من يرد الثمن ومنهم من لا يرد، حتى إذا اطمأن أن لم تبق أرض لم تعد لصاحبها أو لورثته سافر إلى القاهرة.
Bilinmeyen sayfa