ونظر عبد التواب وهو يقول: من؟ آه! يا أخي اعقل. إنه قادم يظن أننا لنا يد في قتل أبو سريع. اسكت أنت ولا تتكلم. - لا أطيق. - اسكت أنت وأنا سأريحك. - السلام عليكم.
وقال عبد التواب وهو يعمل فأسه في الأرض وكأنه لا يراه: من غير سلام، أبلغ سيدك أننا عندما قتل أبو سريع كنا في فرح هنداوي الجلطة أنا وأخي، وأعطينا النقوط على ملأ الناس وألف شاهد يشهد على ذلك. مع السلامة يا مرسي. - يا سلام! أهكذا من غير أخذ ولا رد؟ - وما لزوم الأخذ والرد وقد عرفت ما كنت جائيا من أجله؟ مع السلامة يا مرسي. - طيب يا سيدي. وهو كذلك. •••
أدرك سباعي أن لا فائدة ترجى من بحثه، وانتهى به الأمر إلى اليأس التام من العثور على القاتل. ولم يبق له إلا أن يكون هو على أهبة تامة حذر الموت. وتولاه شعور بالرعب لم يعرفه حياته كلها. إن لحظة خوف واحدة يصغر أمامها مال العالم كله وسلطان الدنيا بأسرها. وخالق النفوس سبحانه هدد البشر بشيء من الخوف رحمة بعباده أن يبلوهم بالخوف كله، فإن شيئا منه أدهى من الموت ومن الفقر وكل عذابات الدنيا. ترى أيكون سباعي بهذا الرعب الذي يتغشاه قد كفر عن جرائمه؟ من يدري؟ فالله وحده هو الذي يملك الغفران، وهو وحده الذي يعرف متى يستحق عبده المغفرة يمنحها له أو لا يستحقها فيحجبها عنه.
فكر سباعي أن يقيم أغلب وقته في القاهرة ولكن ارتد عن هذا؛ فالقاهرة واسعة وقد يقتل هناك في أي لحظة، ثم هو لا يستطيع أن يسير في القاهرة وحوله هؤلاء الحراس الذين يصطنعهم هنا في البلدة. كل ما استطاع أن يفعله أن يضع على بابه أضعافا مضاعفة من المراتج، وأن يزيد من عدد الخفراء. وكان يظل طول ليله لا يغمض له جفن، وتظل آلة الإضاءة تعمل لا تني ولا تنطفئ، بل لقد اشترى آلة أخرى لتضيء إذا أصاب العطب الآلة التي تعمل. ولا يني طول الليل ينادي أسماء الخفراء الواحد بعد الآخر ليكون على ثقة أنهم أيقاظ فلا ينام إلا حين يأتي الصباح.
الفصل السادس عشر
السنوات الخضر من الشباب حين يكون للحب جناحان يحلق بهما الإنسان في سموات سامقات عن الدنا، قصيات عن الأرض، رفيعات عن الدنية. هناك يحس الشباب أن الهوى لم يخلق إلا له، وأن الله سبحانه وتعالى يرسل به إلى الأرض نفحات من الجنة تعين الإنسان على مرور الحياة، وعلى تكالب البشر، وعلى اشتباك المصالح، وعلى الكذب، وعلى الغش، وعلى خداع الصديق، وعلى حضيض الناس وانحيازهم إلى خلق الحيوان وتنكرهم للإنسانية التي جعلهم الله بها سادة الخلق أجمعين.
بالحب يستطيع الإنسان أن يكون سيد المخلوقات، بهذه الخفقات المجنحة العربيدة الآمنة، السعيدة القلقة، الباسمة المقطبة، الآملة اليائسة، الراغبة العازفة، المقدمة عن رعونة المحجمة عن حذر.
بالبحث عن الكلمات فإذا هي في تيه عن المشاعر أغلقت عليها المسالك لا تدري أين سبيلها إلى الشفة لتعبر عن حب صاحبها، باللعثمة واللسان فصيح، ولكنه ينوء بما لا يطيق من أحمال الحب، فإذا به - وهو المنطلق القئول - مقيد مكبول، وإذا النجوى صمت وإذا الحديث نظرة، وإذا الحياة نشوة يطمسها الحديث المعلن ويشعشعها الفم الصموت.
عرفه صلاح وعرفته عديلة. بلمسة يد، بابتسامة عند لقاء في الصباح أو لقاء في المساء. بكلمات يهمهمن على شفاه صلاح ويقف بهن جلال على وجه عديلة.
إنه الحب البكر لقلبين مخلوقين من نقاء الماس دون صلابته، ومن طهارة الملائكة ممتزجة بخلجات الإنسان، وشفافية البلور، وقد سرى فيه نبض البشر، ومن نور الأمل في المستقبل طليقا من قيود الزمن. أحس كل منهما عند صاحبه ما كانا به في غناء عن التصريح. وكان الحديث يجري بينهما رخاء، وفي عير الحب كان الحديث. لقد اتفق كل منهما مع الآخر دون قول منهما أن أي حديث هو أصغر من الحب يكنه كل منهما لحبيبه، والمكان الذي يعرفه كل منهما لنفسه عند هواه.
Bilinmeyen sayfa