وأمر سباعي وكتب العقد.
ثم استدار إلى سليمان النواوي؛ ذلك الرجل الذي أتاح لأبيه أن يشتري عشرة أفدنة بالدين الذي استدانه منه. ذلك الرجل الذي قبل سباعي يده يومذاك وغضب أبوه من فعلته تلك مرتئيا فيها بعدا عن الكرامة. هذا الرجل صاحب ذلك الفضل عليهم استدار إليه سباعي بجبروته الجديد. وكان الرجل قد علت به السن واستطاع أن يجمع إلى الستة أفدنة عشرين أخرى، وكف عن التجارة خاشيا ألا يتيح له وهن جسمه أن يقدم لها ما تستحق من سعي. ومكث الرجل يربي أولاده بريع أرضه.
استقدمه سباعي الذي لم يستطع أن ينسى أن أباه كان يستطيع أن يشتري هذه الأفدنة الستة وعف عنها بكبرياء من لا ينتهز الفرص، وينهش ما ليس له بحق. واستطاع في جمود مشاعره وتحجره أن ينسى أن سليمان أبدلهم بالستة أفدنة عشرة، ونسي بعواطفه الصلبة البخيسة صداقة سليمان لأبيه منذ وقف أبوه إلى جانبه في أزمته.
استدعاه: أشتري الأفدنة الستة.
ومع أن سليمان رجل عجوز خبر من الحياة أوجه الحياة جميعا، ومع أنه عاش أغلب عمره تاجرا يرى ما لا يراه الناس، ويعرف من القوم أسافلهم والأكرمين منهم، ويعرف من الأسافل أشدهم انحطاطا ومن الأكرمين أعلاهم يدا، ومع أنه عرف من الحياة كل دناءتها، وكل ما فيها من قذر ودنس، ومع أنه أصبح وهو لا شيء يدهشه ولا يثير فيه تعجبا؛ مع كل هذا، فغر الرجل فاه! هذا نوع من فجور الحياة لم يتصور أنه ملاقيه، ومن هذا الولد الذي قبل يده، ومن ابن أعز صديق له.
وتمالك سليمان أمر نفسه، ولكن بعد فترة ليست بالقصيرة سيطر فيها الصمت الصاخب في نفسه، والصمت المتبجج من محدثه. - آه! أنت لم تنس أن أباك كان يستطيع أن يشتريها وعف.
ويقول سباعي في جرأة: عليك نور. - ولكنك نسيت أنني اشتريت لأبيك عشرة أفدنة بدلا منها. - ونسيت هذا، ولن أذكره مهما ذكرتني به. - كم تريد أن تدفع؟ - بكم تريد أن تبيع؟ - أما أنا فلا أريد أن أبيع، ولكنني تاجر وأعرف أنك حددت الثمن، وأعرف أيضا أنني لن أستطيع أن أناقشك، فهل أعددت العقد؟ - جاهز. - أين هو؟ - ها هو ذا. - وهذا توقيعي، سلام عليكم. - ونقودك. - أرسلها حين تريد مع أبو سريع؛ فهو الذي صنع الصفقة. سلام عليكم.
الفصل الحادي عشر
كان صلاح طفلا لا يدري ما يصنعه أبوه، وحين بدأ ينطق الكلام ويفهمه وجد أباه في مكان الصدارة من البلدة جميعا، ووجد الناس لا تخاطبه إلا بكل إجلال. وحين بلغ الخامسة من عمره وجد أبوه أن من الطبيعي أن يذهب إلى المدرسة. وقد أحب أن يبعده عن القرية؛ فقد خشي أن يجتمع بالفلاحين فيعرف منهم في طفولته ما لا ينبغي أن يعرفه عن أبيه. أما القاهرة فهي بعيدة وابنه هناك سيكون في تيه عن أمر أبيه، وأمر أبيه هناك لا يعرفه أحد. وإن كان سيلتقي في القاهرة مع ياسين زوج أخته ومع عابدة أخته إلا أن أحدا منهما لن يذم أبا إلى ابنه، وخاصة إذا كان الأب هو المتصرف في أرضهم، ومهما يكن ظالما لأخته ولخليل متأبيا أن يرفع الإيجار الذي ارتفع في جميع الأراضي، إلا أنه مع ذلك كان واثقا أن أحدا من الاثنين لن يذم أبا عند ابنه. وسيرى هناك الدكتور خليل عمه، ولكن خليل أبعد ما يكون عن ذلك، فإن من هو في مثل علمه لا يتصور أن يذكر أبا عنده ولده بما لا يرضاه.
كلم سباعي ياسين في التليفون، وطلب إليه أن يبحث له بجوارهم في المنيرة عن شقة تسكن فيها قدرية وابنها. وقدر أنه بقربه من ياسين المدرس سيكون في رعاية منه طيبة، خاصة وأنه في مثل سن ابنه عمر، وسيذهبان مدرسة واحدة. وتم الأمر كما أراد تماما، وذهب سباعي إلى القاهرة ورأى الشقة وكانت فاخرة واسعة؛ فقد استقر في نفسه أن تكون بيتا له في القاهرة يلتقي فيها بمن يرى دعوتهم إلى غداء أو عشاء إذا اقتضت مصلحة أن يدعو إلى غداء أو عشاء. وبعد أن وقع عقد الشقة عزمت عليه أخته وزوجها أن يبيت ليلته عندهما، ولكنه رأى أن يبيت عند أخيه خليل. واستقبله خليل بترحاب أخ شريف يحب أخاه، ويتغاضى عما يرتكس فيه مما لا يرضاه الشرفاء. وبعد العشاء قال خليل: قل لي يا سباعي، من المؤكد أنك عندك من المال السائل ما تريد. - الحمد لله، لا أشكو. - لا تخف. أنا لا أنوي أن أستلف منك؛ فالحمد لله أنت لا شك تعرف أنني أكسب من عملي مكسبا يكفيني ويزيد. - ولماذا لم تفكر في الزواج؟ - فكرت. - واخترت؟ - وسأدعوك قريبا لتخطب لي، وتتفق على كتب الكتاب. - أعرفها؟ - لا أظن، إنها ابنة أستاذ لي، وطبيبة زميلتي. - وستجعلها تعمل؟ - طبعا هذا أمر لا تتصوره أنت، ولكن هل تظن مصر تستطيع أن تستغنى عن جهد طبيب أو طبيبة؟
Bilinmeyen sayfa