وعجب الأب من فرحة سباعي وربما خامر ذهنه ما اختلط بنفس سباعي؛ فقد علمته الحياة أن يصل من النفوس إلى أبعد أعماقها، ولكنه بمشاعر الأب الذي يمتزج حب الأبناء مع الدماء فيها نفى أن يبلغ الجشع بابنه البكر هذا المدى، وأبى إلا أن يسعد في يومه هذا سعادة لا يقف بها عارض من أي مكان، سواء كان هذا العارض من داخل النفوس أو من خارجها.
الفصل الخامس
حين عرف وهدان من سباعي أنه دعا شعبان وأبو سريع ومجرميه إلى الغداء بالبيت غضب كل الغضب. - هذا بيت عاش طاهرا وأحب أن يظل طاهرا.
وكان سباعي في دهشة من أمر أبيه؛ فقد كان يظن أنه سيفرح غاية الفرح أن ابن عز الدين بك قبل الغداء عنده. - يا أبا، إنه ابن عز الدين بك.
وازداد ذهول سباعي وأبوه يقول له: طظ! وما عز الدين بك بتاعك هذا؟ - يا أبا، عز الدين بك كبير الناحية. - بالإجرام والقتل والاعتداء على حرمات الله والناس. - رجل عترة. - عند من لا يخافون الله أمثالك. إنما في الحقيقة هو ليس رجلا أصلا. - ليس رجلا؟! - الرجل هو الذي يشق الحياة إلى الآخرة بطاعة الله لا بعصيانه، وبإحياء البشر لا بقتلهم، ومن قتل إنسانا واحدا فهو عند الله كمن قتل الناس جميعا. - انظر يا أبي إلى الثروة التي كونها. - بسيطة. - مائتا فدان من لا شيء بسيطة. - وألف وألفان بسيطة، ما دامت وسيلته إلقاء الذعر في قلوب الناس، والاستيلاء على حقوقهم بالباطل. - على كل حال يا أبا أنا لم أدعه. - دعوت ابنه ودعوت المجرمين الذي يعملون لحسابه. - أريد أن يكون لنا قيمة في البلدة وفي الناحية. - فشرت أنت وضيوفك جميعا. إن قيمتنا في قلوب الناس أعظم منهم ألف مرة. - يا أبا، إنه نائب الدائرة. - بالرعب والقهر وليس بالاختيار، ولو ملك الناس أمر أنفسهم دون خوف لاختاروا أي شخص يمثلهم فيكون تمثيله لهم شرفا وقيمة، يختارون متعلما أو يختارون شريفا لا لصا ولا قاتلا. - فما احترام الناس هذا؟ - ألا تعرفه وتعرف من أين يصدر من نفوسهم؟ - إنهم يهابونه. - إنهم يخافونه، وإنهم لا يحترمونه. إنما الاحترام هو ذلك الذي تنطوي عليه نفوسهم بحريتها المطلقة وليس بما يخشونه منه إذا هم حجبوا عنه احترامهم. إن أخاك خليل محترم بعلمه في بلدتنا أكثر من عز الدين هذا، الذي تتشرف بمعرفة ابنه وبدعوته إلى الغداء عندك. - خليل أخي. لا يا أبا، شرع الله عند غيرك. - بل هذا هو شرع الله والناس. أما شرعك أنت فشرع الشيطان المسعور من بني آدم. - والآن ماذا ترى؟ - وهل تركت لي رأيا؟ لقد دعوت فعلا، ولا أحب أن أجعل منك طفلا أمام الناس. - مصيبة سوداء لو عرف عز الدين بك رأيك فيه. - أويشرفك هذا؟ نعم فعلا مصيبة سوداء، ومعرفته مصيبة سوداء أيضا؛ ولهذا كنت أرجو أن أقضي الأيام الباقية لي لا أعرفه ولا يعرفني. - الحق علي يا أبا. - حين أموت أخاف أن يكون عز الدين وأمثاله هم مثلك الأعلى.
وأوشك سباعي أن يهتف: يا ليت. ولكنه كتمها وسأل أباه: أتحضر معنا الغداء يا أبا؟ - وأنا ما شأني؟ - إنه بيتك. - بل بيتك ما دمت دعوت فيه فأنت تعرف أنه بيتك. وإن لك هذا الحق لا أنازعك فيه، وإنما أغضبني اختيارك لمدعويك، ولكن الأمر لله. •••
حين استقر المقام بشعبان ورجال أبيه في الدوار أصبح الدوار فجأة خلية نحل، وراح كل من يعمل في البيت يعد العدة للغداء. وتسامع أهل القرية جميعا بهذه الدعوة فتولاهم نحو سباعي ذلك الشعور العجيب الذي يجمع بين الخوف والرهبة والاحترام المرتعد. ولم يحاولوا أن يضعوا الحدود الفاصلة بين هذا النوع من الاحترام وبين ما يكنونه لوهدان من احترام فيه حب وفيه تقارب ومودة. لقد تعودوا أن يكتموا ما يعتمل في نفوسهم نحو عز الدين ومجرميه، وأصبحت هذه العادة منهم طبيعة لا تناقش ولا يحلل مداها إنسان، ولا يحاول أحد أن يتتبع جذورها. هم فقط أحسوا أن سباعي أصبح شخصا مهما؛ لأنه دعا ابن عز الدين، وأبو سريع، ورجال أبو سريع وقبلوا الدعوة.
تناولوا الغداء وضمتهم حجرة الاستقبال في الدوار مرة أخرى. وقد كان الدوار شأن أمثاله في بيوت الأعيان بعيدا عن الدار موصولا بها في وقت معا؛ فهو جلسة الرجال، وليس له بحرم البيت وحريمه صلة، إلا أن يأتيهم منه المطعم والمشرب، ثم لا اتصال.
قال شعبان وقد انتفش على الكنبة مزهوا بمكانة أبيه: مبسوط يا سباعي؟ - رضا، والحمد لله. - الحمد لله على كل حال، ولكن لماذا الرضا؟ - يا سلام! أتكون مشرفا عندي أنت وهؤلاء الرجال السباع ولا يكون الحال رضا؟
وضحك الجميع.
Bilinmeyen sayfa