مقدمة
(بسم الله الرّحمن الرّحيم)
التفسير الفقهي
في القرآن الكريم آيات تتضمن الأحكام الفقهية ميزها الفقهاء وفسروها في مصنفات خاصة تعرف ب (أحكام القرآن) وهذه المصنفات متأخرة بالنسبة لتدوين المذاهب الفقهية المتّبعة. وأول كتاب عرف في هذا الشأن هو (أحكام القرآن) للشيخ أبي الحسين علي بن حجر السعدي المتوفى سنة ٢٤٤ هـ. ثم توالت التآليف يعرض من خلالها رأي المذهب في استنباط الأحكام من تلك الآيات، بل ونهج هؤلاء المفسرون وهم من فقهاء المذاهب.. منهج الفقهاء في كتبهم من التعصب المذهبي الذي يلوح من خلال التفسير.. ومن يطالع كتاب (أحكام القرآن) للجصاص ...
يقف على اختيار الأحناف من آراء السلف.. وكذلك من يطالع (أحكام القرآن) لابن العربي يتعرف على مذهب الامام مالك ... ومثله هذا الكتاب للهراسي حيث قدم ما اختاره فقهاء الشافعية من آراء فقهية مستنبطة من كتاب الله تعالى.
المقدمة / 1
ويعتبر هذا النموذج من كتب التفسير الموضوعي للقرآن الكريم عدّة الباحثين والفقهاء حيث يسهل مهمة الوقوف على الأحكام الشرعية وهو ما يعرف بفقه الكتاب.
وقد مهّد السلف لهذا المنهج حيث تركوا بين أيدي الخلف وفرة وافرة من حصيلة جهدهم في التفكير وما تفهموه عن رسول الله ﷺ ويعتبر هذا محورا يرتكز عليه البحث وينطلق منه ولا يمكن إغفاله البتة أو تجاوزه كليا.
المصنفات في هذا العلم:
أشهر المصنفات في هذا الفن يمكن سردها على الوجه التالي:
١- (أحكام القرآن) للإمام المجتهد محمد بن إدريس الشافعي المتوفى بمصر سنة ٢٠٤ هـ. وهو أول من صنف فيه. جمعه من كلامه البيهقي صاحب السنن، وهو مطبوع.
٢- (أحكام القرآن) للشيخ أبي الحسن علي بن حجر السعدي المتوفى سنة ٢٤٤ هـ.
٣- (أحكام القرآن) للقاضي الامام أبي اسحق إسماعيل بن اسحق الأزدي البصري المتوفى سنة ٢٨٢ هـ. أظنه غير موجود.
٤- (أحكام القرآن) للشيخ أبي الحسن علي بن موسى بن يزداد القمي الحنفي المتوفى سنة ٣٠٥ هـ، وهو على مذهب أهل العراق.
٥- (أحكام القرآن) للشيخ الامام أبي جعفر أحمد بن علي المعروف بالجصاص الرازي الحنفي المتوفى سنة ٣٧٠ هـ، وهو مطبوع ومتداول.
المقدمة / 2
٦- (أحكام القرآن) للشيخ الامام أبي الحسن علي بن محمد المعروف ب (الكيا الهراسي) الشافعي البغدادي المتوفى سنة ٥٠٤ هـ. وهو الذي نقدم له.
٧- (أحكام القرآن) للقاضي أبي بكر محمد بن عبد الله المعروف: بابن العربي الحافظ المالكي المتوفى سنة ٥٤٣ هـ. مطبوع ومتداول «١» .
_________
(١) كشف الظنون ج ١/ ٢٢٠.
المقدمة / 3
المؤلف الكيا الهراسي ٤٥٠- ٥٠٤ هـ
مؤلف هذا التفسير هو: عماد الدين أبو الحسن علي بن محمد بن علي الطبري المعروف بالكيا الهراسي «١» شيخ الشافعية في بغداد، ولد في ذي القعدة سنة ٤٥٠.
- أصله من خراسان، فيها ولد ونشأ وتلقى علومه الأولى.
شيوخه: تفقه على امام الحرمين الجويني مدّة حتى برع وهو أجل تلاميذه بعد الغزالي.
كما حدث عن أبي علي الحسن بن محمد الصفّار وغيرهم.
تلاميذه: تفقه عليه السلفي، وسعد الخير بن محمد الأنصاري وآخرون رحلاته: قدم نيسابور ودرس بها مدّة، ثم خرج منها إلى بيهق ودرّس بها أيضا، وبعد ذلك قصد العراق حيث تولى التدريس بالمدرسة النظامية ببغداد إلى أن توفي سنة ٥٠٤ هـ.
_________
(١) الكيا، بكسر الكاف وفتح الياء المخففة معناه في لغة العجم: الكبير القدر بين لناس، ١ هـ. وفيات الأعيان (١/ ٥٩٠) .
المقدمة / 5
رتبته العلمية: كان من رؤوس معيدي إمام الحرمين في الدرس ووصف بأنه ثاني الغزالي بل أملح وأطيب في النظر والصوت، وأبين في العبارة والتقرير منه، وإن كان الغزالي أحد وأصوب خاطرا وأسرع بيانا وعبارة منه. وقد اتصل بخدمة محمد الملك بركياروق بن ملكشاه السلجوقي وحظي عنده بالمال والجاه، وارتفع شأنه، وتولى القضاء بتلك الدولة، وكان محدثا يستعمل الأحاديث في مناظراته ومجالسته.
تعصّبه: ان تفقه الهراسي على امام الحرمين قد أثر ذلك في فكره وظهر ذلك جليا من خلال أسلوبهما المشترك. فامام الحرمين عرف بتعصبه للشافعية وحمله على مذهب الامام أبي حنيفة وكذلك فعل الهراسي.. وهذا ما يبدو واضحا من مقدمة تفسيره هذا حيث يقول:
(ان مذهب الشافعي ﵁ أسدّ المذاهب وأقومها. وأرشدها وأحكمها، وان نظر الشافعي في أكثر آرائه ومعظم أبحاثه، يترقى عن حدّ الظن والتخمين إلى درجة الحق واليقين. والسبب في ذلك أنه- يعني الشافعي- بنى مذهبه على كتاب الله تعالى الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، وأنه أتيح له درك غوامض معانيه، والغوص على تيار بحره لاستخراج ما فيه، وأن الله تعالى فتح له من أبوابه، ويسّر عليه من أسبابه، ورفع له من حجابه ما لم يسهل لمن سواه ...) «١» .
وانطلاقا من هذا المبدأ كان نهجه في تفسيره حيث التزم الدفاع عن مذهب الامام الشافعي أصولا وفروعا وتخريجا.. وربما أداه ذلك إلى التعسف في التأويل شأن المتعصبين أنى توجهوا.
وان التعصب المذهبي سلاح ذو حدين.. فقد حمل هؤلاء على خدمة
_________
(١) انظر ج ١/ ٢.
المقدمة / 6
المذهب وفي نفس الوقت خدمة الفقه الاسلامي.. ولكن في بعض الوجوه نرى محاولة ليّ النص وقسره في حمله على معنى معين تأييدا لتصور ذهني مسبق. وعلى أي حال فالرابح من كل هذا هو الفقه الإسلامي.
وفاته: توفي ﵀ يوم الخميس وقت العصر مستهل المحرّم سنة ٥٠٤ هـ ببغداد، ودفن بتربة الشيخ أبي اسحق الشيرازي وحضر دفنه الشريف أبو طالب الزيني، وقاضي القضاة أبو الحسن بن الدامغاني وكانا مقدمي الطائفة الحنفية، وكان بينه وبينهما في حال الحياة منافسة «١» .
_________
(١) الشذرات ٤/ ٨ و٩.
المقدمة / 7
الكتاب أحكام القرآن
التعريف بالكتاب وطريقة المؤلف:
يعتبر هذا الكتاب من أهم المؤلفات في التفسير الفقهي عند الشافعية، وأول ما وصل إلينا مطبوعا في مذهبهم. مع العلم بأن كتاب (أحكام القرآن) المنسوب للشافعي إنما هو من جمع البيهقي ولا يستوعب آيات الأحكام بكاملها، بينما هذا الكتاب أحاط بها جميعا، وفق أسلوب الباحثين في هذا الفن.
والمؤلف يعرف بمنهجه قائلا: ولما رأيت الأمر كذلك. يريد رجحان مذهب الشافعي على غيره- أردت أن أصنف كتابا في (أحكام القرآن) أشرح ما ابتدعه الشافعي ﵁. من أخذ الدلائل في غوامض المسائل، وضممت إليه ما نسجته على منواله، واحتذيت فيه على مثاله، على قدر طاقتي وجهدي ومبلغ وسعي وجدي.
من يعرف قدر هذا الكتاب؟
يقول المؤلف: ولا يعرف قدر هذا الكتاب، وما فيه من العجب العجاب، ولب الألباب، إلا من وفر حظه من علوم المعقول والمنقول،
المقدمة / 9
وتبحر في الفروع، ثم انكب على مطالعة هذه الفصول، بمسكة صحيحة، وقريحة همة غير قريحة «١» .
هذا وقد عمدت (دار الكتب العلمية) في بيروت لإعادة طباعة هذا الكتاب بأسلوب متميز عن الطبعة الأولى.. حيث عهدت إلى لجنة علمية متخصصة.. فأمعنت النظر في التعليقات الواردة.. فأبقت على ما يخدم النص.. وحذفت ما لا نفع فيه.. خاصة وان مراجع الكتاب مطبوعة ومتداولة.. فلا داعي لنقل الفصول بطولها وهي متيسرة بين أيدي الباحثين.
راجين المولى سبحانه أن يحسن إلى كل من سعى في خدمة هذا الكتاب والذي يعتبر خدمة مباشرة (للقرآن الكريم) كتاب الله تعالى المنزل على سيدنا محمد ﷺ.
نفع الله به آمين.
الناشر
_________
(١) انظر ج ١/.
المقدمة / 10
الجزء الأول
مقدمة المؤلف
(بسم الله الرّحمن الرّحيم) استعنت بالله قال الشيخ الإمام الأجلّ السيد علم الهدى، شمس الإسلام، عماد الدين، إمام الأئمة، نور الشريعة، قدوة الفريقين: «١» أبو الحسن علي ابن محمد الطبري، ﵀ ورضي عنه:
الحمد لله الذي أكرمنا بتنزيله، وشرفنا بمعرفة تأويله، وشفى صدورنا بواضح بيانه، وهدانا من ظلم الضلالة، وعماية الجهالة به، وجعله ميزان قسط لا يحيف عن الحق غرب لسانه، وضوء هدى لا يجتنى من الشهاب نور برهانه، وعلم نجاة لا يضل من أم قصد سنته، ولا تنال أيدي الهلكات من تعلق بعروة عصمته..
نحمده على فنون بلائه، وضروب آلائه، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة من يعتصم بحبله، ويأوي في الشبهات إلى حرز عدله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وصفيه ونبيه، أرسله ببيان أوضحه، ولسان أفصحه، وشرع شرحه، ودين فسحه، فلم يدع صلوات الله عليه فسادا إلا أصلحه، ولا عنادا إلا زحزحه، صلوات الله عليه ما هلل ملك وسبحه، وعلى من نصره وصحبه.. وبعد:
_________
(١) يقصد اهل الظاهر واهل الباطل.
1 / 1
فإني لما تأملت مذاهب القدماء المعتبرين، والعلماء المتقدمين والمتأخرين واختبرت مذاهبهم وآراءهم، ولحظت مطالبهم وأبحاثهم، رأيت مذهب الشافعي ﵁ وأرضاه أسدها وأقومها، وأرشدها وأحكمها، حتى كان نظره في كبر آرائه، ومعظم أبحاثه، يترقى عن حد الظن والتخمين، إلى درجة الحق واليقين.
ولم أجد لذلك سببا أقوى، وأوضح وأوفى، من تطبيقه مذهبه على كتاب الله تعالى، الذي:
(لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) «١» ..
وأنه أتيح له درك غوامض معانيه، والغوص على تيار بحره لاستخراج ما فيه، وأن الله فتح عليه من أبوابه، ويسر عليه من أسبابه، ورفع له من حجابه، ما لم يسهل لمن سواه، ولم يتأت لمن عداه، فكان على ما أخبر الله تعالى عن ذي القرنين في قوله:
(وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا، فَأَتْبَعَ سَبَبًا) «٢» .
ولما رأيت الأمر كذلك، أردت أن أصنف في أحكام القرآن كتابا أشرح فيه ما انتزعه الشافعي ﵁، من أخذ الدلائل في غوامض المسائل، وضممت إليه ما نسجته على منواله، واحتذيت فيه على مثاله، على قدر طاقتي وجهدي، ومبلغ وسعي وجدي، ورأيت بعض من عجز عن إدراك مستلكاته «٣» فهمه، ولم يصل إلى أغراض معانيه سهمه، جعل عجزه عن فهم معانيه، سببا للقدح في معاليه. ولم يعلم أن الدر
_________
(١) سورة فصلت آية ٤٢.
(٢) سورة الكهف آية ٨٤- ٨٥.
(٣) طريق الاستدلال ووسائل الاستنباط التي يسلكها.
1 / 2
در برغم من جهله، وأن آفته من قصور فهمه، وقلة علمه، وما يضر الشمس قصور الأعمى عن إدراكها، والحقائق عجز البليد عن لحاقها..
ولن يعرف قدر هذا الكتاب، وما فيه من العجب العجاب، إلا من وفر حظه من علوم المعقول والمنقول، وتبحر في الفروع والأصول، ثم أكب على مطالعة هذه الفصول بمسكة صحيحة، وقريحة نقية غير قريحة.
وأعوذ بالله من الإعجاب بالإبداع، والميل بالهوى إلى بعض الآراء في مظان النزاع، وأسأله أن يجعل مجامع مساعينا، وجل متاعبنا في طلب مرضاته، إنه ولي قدير، وبالإجابة جدير، فأقول:
لما رأيت أقاويل المفسرين في أحكام القرآن متجاوزة حد البيان، آخذة بطرفي الزيادة والنقصان، جررت في سرحها هذه الفصول، المتضمنة من اللفظ والمعنى شفاء كل عليل، مع انتخابي فيها قصد السبيل، وتوقي التعليل والتطويل ...
فالأول في (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) وما فيه من معنى الضمير، فإن فيه ضمير فعل لا يستغني الكلام عنه، لأن الباء من سائر حروف الجر لا بد أن يتصل بفعل، إما مظهر مذكور، وإما مضمر محذوف.
والمضمر في هذا الموضع إما أن يكون خبرا أو أمرا.
فإذا كان خبرا فمعناه: ابدأ بسم الله، ودل الكلام على هذا الضمير لأن القارئ مبتدئ، والحال المشاهدة منبئة عنه، ومغنية عن ذكره..
ومعنى الأمر: ابدءوا بسم الله.
ودل على الأمر قوله تعالى في موضع آخر (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) «١»
_________
(١) سورة العلق آية ١.
1 / 3
ويحتمل أن يكون أرادهما بالضمير، لأن الضمير يحتملهما، ولو صرح بأحدهما امتنعت إرادة الآخر.
وكذلك قوله ﷺ: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان» «١»، فإن الحكم لما تعلق بضمير يحتمل رفع الحكم رأسا «٢»، ويحتمل المأثم فلا تبعد إرادتهما، ولو صرح بأحدهما ولم يجز إرادة الثاني..
وقد يجيء من الضمير المحتمل للأمرين، ما لا يصح إرادتهما جميعا معا، فيلحق ذلك بقسم المجمل، كقوله: «الأعمال بالنيات» «٣»، وحكمه. متعلق بضمير يحتمل جواز العمل، ويحتمل فضيلته، وإرادة الجواز تنفي إرادة الفضيلة، وإرادة الفضيلة تقتضي إثبات حكم شيء منه لا محالة، مع إلحاق النقصان فيه ونفي الفضيلة عنه، ويستحيل إرادة نفي الفضيلة والأصل جميعا في حالة واحدة، وليس احتمال الضمير للأمرين موجبا عموما من حيث الصيغة، ولكنه يحتمل إرادتهما، فإن معنى العموم: اشتمال اللفظ على معنيين من جهة واحدة، وليس مجملا أيضا فإن إرادة الكل جائزة.
والفوائد التي ينتظمها قوله: «بسم الله» ..
الأمر باستفتاح الأمور بها تبركا بذلك.
وذكرها على الذبيحة «٤» .
_________
(١) رواه الطبراني عن ثوبان وصححه السيوطي.
(٢) أي دفع المأثم الناجم عنهما عند الله.
(٣) رواه الشيخان وغيرهما.
(٤) قال تعالى في سورة الأنعام الآية ١٢١: (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ) وقال في سورة الحج الآية ٣٦: (وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ..) أي عند نحرها. [.....]
1 / 4
وشعار من شعائر الدين.
وطرد الشيطان، كما روي عن رسول الله ﷺ أنه قال: «إذا سمى العبد الله تعالى على طعامه لم ينل منه الشيطان، فإذا لم يسمه نال منه معه» «١» ..
وفيه إظهار مخالفة المشركين الذين يفتتحون أمورهم بذكر الأصنام أو غيرها من المخلوقين ...
وهو مفزع الخائف.
ودلالة من قائله على انقطاعه إلى الله.
وأنس للسامع.
وإقرار بالألوهية.
واعتراف بالنعمة.
واستغاثه «٢» بالله.
وعبادة له «٣» .
وفيه اسمان من أسماء الله تعالى لا يسمى بهما غيره: وهو الله والرحمن، وهو «٤» أشهر أسماء الله تعالى، الذي ينسب إليه كل اسم، فيقال:
الرؤوف والكريم من أسماء الله، ولا يقال: الله من أسماء الكريم.
_________
(١) رواه مسلم بمعناه.
(٢) في الجصاص وفي نسخة أخرى: واستعانة بالله، واللفظان صالحان.
(٣) في الجصاص: وعياذة به.
(٤) أي اسم «الله» جل شأنه.
1 / 5
سورة البقرة
قوله تعالى في شأن المنافقين وإظهارهم الإيمان مع إضمار الكفر «١» وعدم الأمر بقتلهم يدل على جواز استتابة الزنديق، فإنه تعالى ما أمر بقتلهم.
قوله تعالى: (يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا) (٩) .
هو مجاز في حق الله تعالى، فإن الخديعة إخفاء الشيء. ولا يخفى على الله شيء. والقوم إن لم يعرفوا الله تعالى فلا يصح أن يقصدوه بالخداع، وكذلك إن عرفوه، ولكنهم عملوا عمل المخادع، ووباله «٢» رجع إليهم، وكأنهم إنما يخادعون أنفسهم.
أو يقال: يخادعون رسول الله ...
وقوله تعالى: (يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) (١٥) .
يجوز أن يكون مقابلة الكلام بمثله، كقوله: (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) «٣»، وكذلك (فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ) «٤» الآية..
_________
(١) أي في قوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) سورة البقرة آية ٨.
(٢) أي نتيجة خداعهم.
(٣) سورة الشورى آية ٤٠.
(٤) سورة البقرة آية ١٩٤ ونص الآية: (الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) ..
1 / 6
وقيل: إنه لما رجع وبال الاستهزاء عليهم فكأنه استهزأ بهم.
ولما كانت جريمتهم أضر على المسلمين، أخبر أنهم في الدرك الأسفل من النار، ودل على أن العقوبات في الدنيا ليست على أقدار الجرائم، وإنما هي على قدر مصالح الدنيا «١»، وجائز أن لا تشرع العقوبة في الدنيا أصلا وإنما تشرع في الآخرة.
وكان رسول الله ﷺ مأمورا في ابتداء الإسلام بالصفح «٢» عنهم، والدفع بالتي هي أحسن، وفرض القتال بعد ذلك للمصلحة.
فيجوز أن يقتل من يظهر الكفر دون من يسر للمصلحة، ويجوز خلافه.
ويجوز أن يرد الشرع بقتل النسوان «٣» وأن يرد بخلافه، والعقل لا يمنع من ذلك.
قوله تعالى: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشًا) (٢٢) .
إبانة للقدرة بأن جعلها على مثال الفراش، وليس ذلك لحكم الإطلاق فإنه لو حلف أن لا يبيت على فراش، فبات على الأرض لم يحنث، ولو قال: لا أقعد في السراج فقعد في الشمس لم يحنث، لأن الإطلاق لا ينصرف إليه ... وكذلك في قوله: (وَالْجِبالَ أَوْتادًا) «٤» .. فأفهم الفرق بين العرف الشرعي واللغوي، والمذكور على وجه التقييد..
قوله تعالى: (خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا) (٢٩):
_________
(١) الرجم للزاني المحصن، والجلد للقاذف، والقطع للسارق.
(٢) أي عن الكفار لا عن المنافقين كما يفهم من سياق كلام المؤلف.
(٣) ولكنه لم يرد الا بالنهي الا إذا قاتلن كما في الصحيح.
(٤) سورة النبإ آية ٧.
1 / 7
يدل على إباحة الأشياء في الأصل، إلا ما ورد فيه دليل الحظر، وكذلك قوله: (سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) «١» ..
ودل قوله تعالى: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشًا)، إلى قوله: (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا) (٢٤) . على الأمر باستعمال حجج العقول وإبطال التقليد.
وقال: (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا) (٢٥): وهو دليل على أنه أول مبلغ إليهم..
وقال العلماء: إذا قال أي عبد بشرني بولادة فلان فهو حر، أن الأول من المبشرين يعتق دون الثاني، لأن البشارة حصلت بخبره دون غيره، وهو ما يحصل به الاستبشار ويأتي «٢» على بشرة الوجه.
ولو قال: أي عبد أخبرني بولادتها عتق الثاني مثل الأول، ولذلك يقال: ظهرت تباشير الأمر لأوائله، ولا تطلق البشارة في الشر إلا مجازا..
وقيل: هو عام فيما سر وغم، لأن أصله فيما يظهر أولا في بشرة الوجه من سرور أو غم، إلا أنه كثر فيما يسر فصار الإطلاق أخص به منه بالشر..
قوله تعالى: (وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ) (٤١) .
يدل على أن الكفر وإن كان قبيحا، فالأول من السابق أشد قبحا، وأعظم لمأتمه وجرمه، لقوله: (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ) «٣» .. الآية
_________
(١) سورة لقمان آية ٢٠ وسورة الجاثية آية ١٣.
(٢) أي ويظهر.. [.....]
(٣) سورة العنكبوت آية ١٣: (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ) .
1 / 8
وقوله: (لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) «١» . وقوله: (مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا) «٢»، وقال ﵇: «إن على ابن آدم القاتل من الإثم في كل قتيل ظلما لأنه أول من سن القتل» «٣» .
وقال: «من سن سنة حسنة» «٤» الحديث.
وقوله: (أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) (٤٣) .
يجوز أن يرجع إلى صلاة معهودة، متقدمة، ويجوز أن يكون مجملا موقوفا على بيان متأخر عند من يجوز ذلك.
(وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) (٤٣):
لعله ذكره لأن صلاة أهل الكتابين لا ركوع فيها، فأراد أن يخصص الركوع ليعلم به تميز صلاتنا عن صلاتهم..
قوله تعالى: (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ) (٥٩) .
يدل على أنه لا يجوز تغيير الأقوال المنصوص عليها، وأنه يتعين اتباعها.
_________
(١) سورة النحل آية ٢٥.
(٢) سورة المائدة آية ٣٢.
(٣) رواه البخاري، ج ٤، ص ١٠٦، ج ٩، ص ٣- ٤، ومسلم ج ١١، ص ١٦٦ نووي، والترمذي ج ٧ ص ٤٣٦ تحفة الأحوذى، وابن ماجة رقم ٢٦١٦، ومسند أحمد ج ٣ ص ٣٨٣ والنسائي كتاب التحريم، وهو هنا بالمعنى..
(٤) رواه مسلم، ج ١٦ ص ٢٢٦، والترمذي ج ٤ ص ١٤٩، وقال حسن صحيح، وأحمد ج ١ ص ١٩٢، وأبو داود وابن ماجة وابن حبان وهو في الموطأ ص ١٥٢ ط: الشعب.
1 / 9
قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) (٦٧) .
هو مقدم في التلاوة.
وقوله: (قَتَلْتُمْ نَفْسًا) «١» (٧٢) مقدم في المعنى على جميع ما ابتدأ به من شأن البقرة «٢» .
ويجوز أن يكون في النزول مقدما وفي التلاوة مؤخرا..
ويجوز أن يكون ترتيب نزولها، على حسب ترتيب تلاوتها، فكان الله تعالى أمرهم بذبح البقرة حتى ذبحوها، ثم وقع ما وقع من أمر القتيل، فأمروا أن يضربوه ببعضها «٣» ..
ويجوز أن يكون ترتيب نزولها على حسب ترتيب تلاوتها وإن كان مقدما في المعنى، لأن الواو لا توجب الترتيب، كقول القائل: أذكر إذ أعطيت زيدا ألف درهم إذ بنى داري، والبناء متقدم العطية. ونظيره في قصة نوح بعد ذكر الطوفان وانقضائه في قوله:
(قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ- إلى قوله- إِلَّا قَلِيلٌ) «٤» ..
فذكر إهلاك من أهلك منهم، ثم عطف عليه بقوله:
(وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها) «٥» .
_________
(١) ونص الآية: (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) .
(٢) أي لأن الأمر بذبح البقرة إنما كان سببه قتل النفس كما في الجصاص.
(٣) قال الألوسي: والمشهور خلافه.
(٤) سورة هود آية ٤٠.
(٥) سورة هود آية ٤١.
1 / 10
فالمعنى يجب مراعاة ترتيبه لا اللفظ، ويستدل به على جواز تأخير بيان المجمل..
وقد قيل: إنه كان عموما وكان ما ورد بعده نسخا..
فقيل له فهو نسخ قبل مجيء وقته.
فأجابوا: بأنه قد جاء وقته وقصروا في الأداء.
وقد قيل فهلا أنكر عليهم في أول المراجعة؟
فأجابوا: بأن التغليظ ضرب من الكبر.
ودل عليه قوله: (وَما كادُوا يَفْعَلُونَ) (٧١) .
وقوله: (لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ) (٦٨) .
لا يعلم إلا بالاجتهاد، فهو دليل على جواز الاجتهاد، ودليل على اتباع الظواهر مع جواز أن يكون الباطن على خلافه.
وقوله: (مُسَلَّمَةٌ) (٧١):
يعني من العيوب، وذلك لا يعلم حقيقة وإنما يعلم ظاهرا..
قوله تعالى: (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ ... الآية) (٧٥) .
دليل على أن العالم بالحق المعاند فيه أبعد عن الرشد، لأنه علم الوعد والوعيد ولم يثنه ذلك عن عناده..
قوله تعالى: (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً) (٨٠)، فيه رد على أبي حنيفة في استدلاله بقوله ﵇: «دعي الصلاة أيام حيضتك» «١» .. في أن مدة الحيض ما يسمى أيام الحيض، وأقلها ثلاثة
_________
(١) في حديثه ﷺ لفاطمة بنت حبيش.
1 / 11
وأكثرها عشرة، لأن ما دون الثلاثة يسمى يوما أو يومين، وما زاد على العشرة يقال فيه أحد عشر يوما..
فيقال لهم: فقد قال الله تعالى في الصوم: (أَيَّامًا مَعْدُوداتٍ) «١» وعنى به جميع الشهر، وقال: (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً) وعنى به أربعين يوما، وإذا أضيفت الأيام إلى عارض لم يرد به تحديد العدد، بل يقال: أيام مشيك وسفرك وإقامتك وإن كان ثلاثين وعشرين وما شئت من العدد.
ولعله «٢» أراد ما كان معتادا لها، والعادة ست أو سبع «٣» .
قوله تعالى: (بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ) (٨١) .
فيه دليل على أن المعلق من اليمين على شرطين لا يتنجز بأحدهما «٤» ومثله قوله تعالى:
(.. الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا) «٥» ..
قوله تعالى: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا) (٨٣) .
يجوز أن يكون مخصوصا بالمسلمين.
ويجوز أن يكون قد نسخه الأمر بقتال المشركين ولعنهم.
_________
(١) سورة البقرة آية ١٨٤.
(٢) أي النبي ﷺ.
(٣) وهي المدة العادية للحيض. [.....]
(٤) حيث علق الجزاء وهو الخلود في النار بوجود الشرطين لأن الخطيئة لا تحيط الا بالكافر..
(٥) سورة فصلت آية ٣٠، وسورة الأحقاف آية ١٣.
1 / 12