Mazini'nin Hadisleri
أحاديث المازني
Türler
كان لنا، قبل الحرب، صديق معمر، من بني الفرس - أو من أجدادهم الأولين على الأصح - فقد كان عمره فوق المائة، وكنا نحاسبه فيكون تارة مائة وعشرين، وأخرى مائة وبضع سنوات، فأضحك وأقول: «يجب أن نقيد هذه الأرقام الرواغة». وأتناول القلم، وأقيم سنه على الورقة، وأنظر إليه، وأقول: «تفضل قبل أن يغرق الطوفان الأرض كنت سعادتك سفيرا لدولتك عند بروسيا، ولما صعق موسى عند دك الجبل، كنت ...» فيتكلف الغضب، ينهرنا عن هذا العبث ويقول: «اختش يا ولد!»
وكان على عظم ارتفاع سنه قوي البنية، متين الأسر، وكنا نسأله عن سر ذلك، فيقول إنه لم يتزوج قط، فأضحك وأقول: «هات شيئا آخر، فإن هذا معلوم، مفهوم بالبداهة!» فيرفع عصاه الغليظة، يلوح بها كأنما يهم بضربي، فينقلب ضحكنا قهقهة عالية مجلجلة، ويسره سرورنا فيفيء إلى الرضى.
ويقول لنا أحيانا: «تعالوا نتمشى، فنسأله: أين؟ وإلى أين؟». فيقول: «في طريق الجيزة»، وكان بيته في «باب الخلق»، فنخرج معه إلى الزمالك ويقف بنا على جسره هنيهة، يحدثنا ويروي لنا أخبار القرون الأولى، أو يرتجل شعرا فكاهيا نجيزة، أو نشطر قصيدة لواحد من شعارير ذلك الزمان تشطيرا يخرج بها إلى الهزل الصريح والمجانة الشديدة، أذكر من مطالع قصائده المرتجلة: «قفي حديثني عند كوبري الزمالك
وروي غليل القلب يا أم مالك»
ثم نستأنف السير بعد أن نميل إلى طريق الجيزة، حتى نفتر ونكل، وتخذلنا أرجلنا، وهو لا يزال كما بدأ، فيسخر منا، ويوسعنا تقريعا وتعييرا، فلا نبالي، ونقعد على الأرض من شدة التعب. ويتفق أن تمر بنا سيارة، تخطف، فيشير إليها ويقول مازحا: «خذونا، أخذكم الله».
ولم يكن هزالا، وإنما كان يوسع لنا صدره، ويتقبلنا على علاتنا، ويأنس بنا كأنسنا به، وكانت الدنيا كلها أصدقاء له، ولكنا نحن كنا نلازمه بعد أن نفرغ من أعمالنا، وكان بيته نادينا، وفيه نعقد حلقتنا الأدبية الخاصة، وما أكثر ما كنا نقول له: «نريد أن نأكل أرزا فارسيا» فيمضي بنا إلى المطبخ لنساعده، فهذا يقشر بصلا، وذاك يغسل آنية، وثالث يضرم النار، وهكذا، حتى يطبخ الأرز ويغرف في الصحون، ثم نحف به - أعني بالأرز - ونقبل عليه فنلتهمه.
وكان لنا خيرا من الأب، وأخلص من الصديق وأوفى، وكان ريما رأى أحدنا ساهما أو واجما، فيسأله عن سبب ما يبدو عليه، فيفتح له صدره، ويبثه ما فيه ، ويقول له بشجوه، حبا كان ذلك أو هما أو غير ذلك فيشير عليه بالرأي الناضج، ويخلص له النصح، ويقوي ضعفه ويشجعه، ولا يزال به حتى تعود إليه البشاشة.
وقال لنا يوما: «خذوا» وناولنا بطاقات فيها دعوة إلى ما كان يسمى «زفة الحسين»، وما هي بزفة، وإنما هي مأتم، ولكنها هكذا كانت تدعى على ألسنة العامة، فذهبنا في الموعد المضروب إلى بيت رحيب في زقاق ضيق، فوجدنا هناك كثيرين من رجال مصر المعروفين، أجلسنا معهم، ثم دعينا إلى مائدة مثقلة بألوان الآكال الشهية، وكان الأستاذ البرقوقي إلى جانبي، فظمئ على الطعام، وأسر إلي بذلك - لا أدري لماذا - فأومأت إلى الخادم، فناوله كوبا رفعه إلى فمه، وما كاد يفعل حتى رده عنه، وقال: «بفففف!»، ذلك أنه كان سكرا مذابا لا ماء، فعجبنا واتقينا أن نشرب.
وانحدرنا إلى صحن الدار، وكان فيها منبر، ارتقى إليه شيخ فارسي وانطلق يقول كلاما لم نفهمه، ولكن صوته كان يتهدج وكانت الدموع تتسايل على خديه وتبل لحيته الكثة، وقيل لنا إنه يرثي الحسين ويندب مصرعه، وكان الذين يفهمون كلامه من بني جنسه يبكون، بل يعولون ومنهم من كانت تهيج حرقاته فيلطم، أو يضرب صدره أو ظهره العاري بسلسلة غليظة من الحديد، أو يضرب جبينه ببطن سيف مسلول، أو بكله - أي قفاه الذي ليس بحاد - ولكن أحدهم اضطرب وهو يفعل ذلك فأصاب حد السيف جبينه فانفجر الدم كأنه نافورة، وقد خفوا إليه، وضمدوا جرحه، وعصبوا له رأسه؛ وهال أحدنا منظر الدم وظن أن الرجل لا محالة هالك، فأغمى عليه، وسقط على الأرض كما تسقط الخشبة، أنشقوه شيئا في زجاجة أنعشه ورد إليه روحه.
ولا أحتاج أن أقول شيئا في وصف الموكب الذي يخرجون به ويطوفون بالشوارع وهم يدقون صدورهم العارية أو يضربونها بالسلاسل أو يخبطون وجوههم أو عواتقهم ببطون السيوف، فإن ذلك كله معروف مألوف، وإن كان قد انقطع، والأكثر من الناس قد رآه في زمانه، ولكني أقول إني بعد بضعة أيام من شهود هذه «الزفة» وقعت على مقال في مجلة إنجليزية لكاتب إنجليزي أو ألماني - لا أذكر، فإن العهد بها بعيد، وقد فقدتها على الرغم من حرصي عليها وتحفظي بها - وفي هذا المقال يذهب الكاتب - والأرجح أنه ألماني - إلى أن الحسين بن علي رضي الله عنهما، تعمد أن يضحي بنفسه؛ وأذكر أنه قال إن الحسين لم يكن أبله، فقد حاول أمرا عرف مبلغ استحالته، ومع ذلك أصر على الزحف وليس معه إلا النساء والأطفال وحفنة صغيرة من الرجال، مضى بهم وبنفسه معهم إلى بوار محقق.
Bilinmeyen sayfa