الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الأغلال
الأغلال
تأليف
فليكس فارس
الفصل الأول
(ينكشف الستار عن قاعة مزينة بأفخر الرياش، تلوح من شرفتها حديقة شتوية، الوقت مساء، وقد أنيرت القاعة بنور ضئيل.)
المشهد الأول (إرين وبولين أختان تتحادثان وهما جالستان إلى خوان، بولين تخاطب أختها بهدوء الناصح، وإرين تضطرب ثم تقف تذرع القاعة طولا وعرضا، وفي الحديقة ثلاثة رجال يدخنون.)
بولين :
ما هي شكايتك من زوجك؟
إرين :
شكايتي منه هي أنني لا أحبه.
بولين :
أتعدين إذن إعراضك عنه ذنبا عليه؟
إرين :
عشر سنوات مرت علي وأنا أحاول اختراق قلبه بحبي، فما أجدت محاولتي غير حبوط آمالي.
بولين :
ما يدفع بك وبأمثالك إلى الثورة إلا إعلان قانون الطلاق، فسقيا لزمان المحصنات الفاتنات المجاريات لحظهن في الحياة.
إرين :
لست ممن يخترن الموت في الحياة.
بولين :
هلا وجدت من حياتك نفسها منفذا إلى الحياة؟ إذا كان الله حرمك الولد، فما حرمك مباهج المجتمع؛ لك مسكن من أجل المساكن تقبعين فيه فلا يزورك إلا زوجي وأنا، فافتحي قاعتك للاستقبال، وافتحي تيار العالم ينقذك مما تولدينه لنفسك من أوصاب.
إرين :
لو أنني طالبة ملاذ لأخذت بعلاجك، ولكنني طالبة سعادة، وما يوصلني إليها السبيل الذي تصفين.
بولين :
لا أدعي أن زوجك روبير كمال مجسم، ولكنني أراك تحدجينه بعين مريضة ثائرة، فكيف تتوقعين أن يروق لك؟! إن دماغك يسكب سموما على قلبك، فأنت محيرة في أمرك.
إرين :
بالله يا بولين، لا تحولي الحقيقة التي ألمسها كل يوم إلى أشباح وأوهام، أفلا ترين أن زوجي كالحجر الصلد لا يتأثر لشيء ولا يشعر بشيء؟ أما أنا فلا أشعر منه إلا بحق سيادته، فكأنه لم يوجد إلا ليكون حاكمي المطلق وسلطاني البارد المستبد.
بولين (بتهكم) :
وهل يصح أن يحكمك أحد؟! أنت التي لم تخلقي إلا للشعور، ولمحبة كل شيء، والاضطراب من كل شيء، أنت التي تحيين من نسمة وتموتين من لفحة.
إرين :
ما أدعي بلوغ الذروة في الرقي، وما أتطلب من زوجي صفات أعاظم الرجال، ولقد كنت أرضاه حقيرا فقيرا، وأقنع بعيوبه لو أن فيه أقل شعور بالحياة، لو أنه يفرح أو يحزن، إذن لكنت أرفعه على هيكل روحي، ولكن زوجي متمم ذاته بذاته، مصفح لشخصيته، ويا ليته يبكي مرة واحدة لأسكب عليه كل ما أكبت من العطف والحنان في قلبي.
بولين :
أفما يتسنى لك إشعاره بعطفك عندما يثور بينكما الخصام؟
إرين :
إنك لا تعرفينه، إن أمثال هذا الرجل لا يثورون ولا يحتقرون؛ لأنهم يرون الحق في جانبهم أبدا، فلا تتزعزع ثقتهم بأنفسهم، وليتك تنظرين إلى زوجي حين يفيق من رقاده، فإنك لتلمحين على سيمائه التصميم على إعلان حقوقه طوال النهار، فهو يفرض حقه على الخدم، وعلى الخيل، وعلى الكلاب، ولا يمكن أن يرتكب خطأ في أي أمر كان مع أي كان، وما سمعته مرة يتحدث إلا وهو يسرد قصة يكون غيره فيها المخطئ وهو المصيب.
بولين :
ولكنه إذا وقف أمامك يصبح الحق في جانبك على ما أرى.
إرين :
أنسيت حقوق الزوج؟! إنه يلوح بها أبدا لفصل الخطاب بيني وبينه، فإذا هو المصيب وأنا المخطئة.
بولين :
اسمعي يا إرين، لقد كنت أنا الساعية في زواجك، كما سعت أمي فزوجتني من قبل، وليس زوجي بأفضل من زوجك؛ فهما فرسا رهان، لكل منهما ثروة طائلة، ولكل منهما ما تجني الثروة على أصحابها من الكسل والجمود، لقد قذف الآباء الطامعون المجاهدون في سبيل المال إلى الوجود بأمثال هؤلاء الأزواج الذين لا يخطر الزواج على بالهم إلا بعد أن تتحجر قلوبهم وتتعرى رءوسهم، فيهرعون حينئذ إلى الأديرة ليختطفوا من مقاعدها فتيات الجمال والمال. تلك هي طريقة الزواج في هذا الزمان، وليس لنا أن نبدلها. لقد اعترفت بالأمر الواقع؛ لذلك ترينني على أتم وفاق مع زوجي؛ لأن حبنا متشابه متبادل، ولا خيار في الواجب.
إرين :
إذن، أنت في عداد الزوجات اللواتي لا يتمسكن بأزواجهن إلا بقدر تمسك هؤلاء الأزواج بهن؟!
بولين :
لم أفهم!
إرين :
لا يصعب عليك فهم ما أقول، إذا أنت تذكرت ما قاله زوجك ونحن على العشاء حين كان ميشال دافرنيه يقص علينا أسفاره في بلاد اليونان، أفما قال ليثبت حبه للأسفار: لو أنني أصبت بفقد عقيلتي وكنت ولا أزال شابا، فإنني أذهب سائحا في تلك الأقطار.
أفما لاحت على وجهك علامات الرضى؟ فكأنك كنت تؤيدين رأي زوجك، وتجدين قوله طبيعيا لا غبار عليه.
بولين :
وأية غرابة ترين في هذا القول؟
إرين :
الحق أن لا غرابة في أن يفتكر الزوج سلفا في كيفية سلوانه لشريكة حياته إذا ماتت، وأقل غرابة من هذا أن يعلن الزوج رأيه بحضرة زوجته، وأن ترتاح الزوجة إلى مثل تلك الوقاحة.
بولين :
تذكري أن الخطأ كامن في المبالغة يا عزيزتي.
إرين :
أتجدين إخلاصي مبالغة؟! فما هو تقديرك للرضى المتبادل بين زوجين على تمثيل دور الزواج بالمخادعة والأكاذيب؟ لا، إنني لن أرضى لنفسي بمثل هذا الشقاء يستتر رياء بوشاح الحب والإخلاص.
بولين (وهي تبتسم بتهكم) :
إذا كنت لم أنتبه لما قاله زوجي، فما ذلك إلا لأنني كنت مستغرقة في التفرس بملامحك لأقرأ فيها تأثير ميشال دافرنيه بفصاحته الخلابة.
إرين :
لم أفهم.
بولين :
أما أنا فقد فهمت كثيرا، فوالله ما اهتاجت أعصابك إلا المقابلة بين جهل زوجك وعبقرية صديقك القديم.
إرين :
وإلام تذهبين بهذا الظن؟
بولين :
إلى أن هنالك غمامة صيف ستنقشع عن قريب، أرى الرجال يستعدون للخروج من الحديقة، ولعلهم قادمون إلينا، فخير لك أن تغسلي وجهك؛ فهو مكفهر، وقد بدا الاضطراب في عينيك.
إرين (تتوجه نحو باب الغرفة) :
بل خير لي أن أضع وجها مستعارا؛ لأتمكن من الظهور أمام الناس بالتصنع والخداع.
المشهد الثاني (بولين وفرجان زوج إرين)
فرجان :
لماذا تركتك امرأتي وحدك؟
بولين :
أفما أتيت أنت لتقوم مقامها؟
فرجان :
أتيت لأستأذنك في الخروج، إن حضرة المسيو دافرنيه ثقيل الوطأة علي بفلسفته وأخباره؛ ولهذا أبقيته لزوجك فردينان يتدبر الأمر معه.
بولين :
أنت تدعي الانشغال حين تخرج من البيت، ولكنك لا تذهب إلا إلى النادي.
فرجان :
لقد تعود أصدقاء النادي الاجتماع فيه، وليس لهم أن يخلفوا وعدهم.
بولين :
أفلا يخطر لك بعض الأحيان أن هنالك أمرا يجدر بك أن تهتم له؟ أفلا تفكر فيما يمكن أن يجول في مخيلة زوجتك وأنت تسلمها إلى العزلة والانفراد؟
فرجان :
أنا واثق من أنها على أحسن حال حين أفارقها، أفما رأيت اغبرار وجهها عندما كنا على العشاء؟ دققي في ملامحها بعد ذهابي، فلسوف يتضح لك أنها ستعود إلى المرح والسرور، تلك هي عادة أختك؛ إذا أنا اقتربت منها جللها الكدر، وإذا ابتعدت عنها انبسطت نفسها وزال عن وجهها القطوب.
بولين :
خير لك أن تنظر في مداواة العلة من أن تتلهى بوصف أعراضها.
فرجان :
ماذا تريدين أن أفعل؟ لقد لاح لإرين أن تستحسن هذه الطريقة، وما أنا بمضيع أوقاتي في حل الرموز.
بولين :
إذا كانت هذه هي طريقتك أيضا فالخرق بينكما سائر إلى الاتساع.
فرجان :
يؤلمني ذلك، ولكن ما يهمني شيء إذا كان ضميري مرتاحا إلى طريقتي، وهل لك أن تقولي لي ما هو قصوري تجاه إرين؟
بولين :
أنت مقصر، وبرهاني على قصورك أنك لم تنلها السعادة.
فرجان :
وهل تظن أختك أنني أنا سعيد بمشاهدتي سحنتها الشاحبة القاتمة؟ كلما زادتني قطوبا زدتها هجرا، لقد قررت أن ألهو خارج بيتي إلى أن يثوب رشد زوجتي إليها.
بولين :
وما يحل بإرين يا ترى أثناء لهوك؟
فرجان :
إنني أمنحها وقتا للتبصر في أمورها.
بولين :
أتريد إخضاعها بالعنف؟
فرجان :
إنها زوجتي وأنا القيم عليها.
بولين :
هي لنفسها أولا يا فرجان.
فرجان :
لقد اتخذتها زوجة لي لأوفر لها الحياة الهنيئة، فقمت بواجبي، فما أنا أطالبها إلا بالهدوء والسكينة واللذة التي يتمتع كل الناس بها.
بولين :
ليست إرين ككل الناس.
فرجان :
إنني آسف لذلك، فلا يلومن الإنسان الشاذ غير نفسه، إنني لست مطالبا بالخروج على القاعدة المتبعة، أريد أن أتمتع بالحياة كما هي، وإرين تمضي أيامها بالاستغراق والتفكير، أما أنا فأكره قرع الأوهام، ولا أفهم ما هي الأفكار التي يشغل الإنسان فيها دماغه إذا لم يتجه إلى تنظيم حياته؟ على أختك أن تصلح نفسها، ومن واجبك أن تدعيها إلى ذلك.
بولين :
كنت أحاول هذا الأمر منذ هنيهة.
فرجان :
وماذا كانت حجتها ضدي؟
بولين :
لم يكن لها من حجة عليك غير الحجة التي تدلي بها أنت من فمك.
المشهد الثالث (بولين - فرجان - إرين) (تدخل إرين فيبدو عليها الاضطراب إذ ترى زوجها.)
فرجان (همسا لبولين) :
انظري، تأملي (بصوت عال)
لقد عادت رفيقتك، فها أنا ذا أهرب (يظهر الارتياح على وجه إرين) .
فرجان :
تأملي واحكمي. (ينحني فرجان مسلما ويخرج.)
المشهد الرابع (بولين - إرين)
إرين :
لقد كنت أنا مدار الحديث بينك وبينه.
بولين :
وما عساه يكون سوى ذلك؟ لقد اتخذت لهجة الاعتدال في النصح.
إرين :
والنتيجة؟
بولين :
هي النتيجة نفسها التي توصلت إليها تجاهك.
المشهد الخامس (بولين - إرين - فالانتون - زوج بولين - ميشال دافرنيه) (يدخل الرجلان من الحديقة.)
فالانتون (مخاطبا ميشال) :
إذن، لم أتوصل إلى إقناعك.
ميشال :
ولن تتمكن من زعزعة اعتقادي.
فالانتون (موجها الخطاب إلى زوجته وأختها) :
كنت أقنع صديقي بوجوب زواجه.
إرين :
ممن؟
فالانتون :
لم نصل إلى حد تعيين العروس، فقد كنت أقول لميشال: لقد بلغت الثلاثين، وأنت رجل مثقف ولك شهرة ومقام في الكلية، فمن السهل عليك أن تجد عروسا ذات جمال ومال. وقد مرت عليك أيام طويلة في باريس ولم أرك تفكر لا في الاندفاع إلى العروس ولا في التسلي بالملاهي.
بولين :
آه.
فالانتون :
إذن، لست عاشقا يا صديقي، ولا شيء يحول دون زواجك، فما عليك إلا أن تصمم على الزواج، ثم تجيل أبصارك فيمن حولك من الفتيات، حتى إذا اخترت إحداهن تفكر بعد زواجك في خلق الحب بينك وبينها، تلك هي القاعدة، ولا خير في العمل بسواها.
بولين لميشال :
وبماذا أجبت على هذا النصح؟
ميشال :
أما أنا فلا أرى في الوجود إلا ثلاث حوادث هامة هي: الولادة فالزواج فالموت، وكلها متساوية تخضع لنظام واحد، فإذا كان الإنسان لا يجيء الحياة مختارا ولا يبارحها مختارا، فالزواج لا يرسو أيضا على الاختيار، وهو صنو الولادة والموت. من منا لم يأت الحياة صاغرا، ولن يبارحها صاغرا؟ لذلك أريد أن يكون الزواج تابعا للبداهة، لا أثر فيه لتصنع الإنسان وإرادته، أريد أن تكون كلمة الإيجاب والقبول في الحب كلمة مقدسة تدفعها الطبيعة من مستودع أسرارها، كما تدفع الطفل إلى الصراخ حين يستقبل النور، وكما تدفع المحتضر إلى الأنين وهو يبارح الحياة.
إرين :
إن الطبيعة تسود ولادتنا وموتنا، ولكني لا أراها تهتم كثيرا بتزويجنا.
ميشال :
بلى، إنها لتهتم؛ إذ إنها تفتح قلبنا لشخص واحد ينحصر الوجود فيه لدينا. تلك هي القوة التي تنور قلب الإنسان مرغما؛ فهي أشبه القوى بالناموس الإلهي الذي يفتح الأعين للنور ويغمضها للقبور.
بولين :
ولكن الإنسان مخير في زواجه؛ فهو يقدر ألا يتزوج، وهو مخير في زواجه بلا حب، حتى إنه ليتزوج بالرغم من الحب.
ميشال :
ذلك لأن الطبيعة التي تستقر فيها ناموس الحياة والموت قد شاءت أن تركز ناموس الزواج على قاعدة الشعور الخفي؛ فهي تنبه الإنسان بواسطته متوسلة باكية، ثم تهيب به مسيطرة موجعة.
إرين :
ولكنها مع ذلك لا تقوى على ردع الإنسان عن الزواج الموافق لأحوال الأسرة والمنفعة الشخصية.
ميشال :
إذا نحن ترفعنا عن الطبيعة فلا نفلت من سيطرتها إلا إلى حين؛ فهي تتحكم في الحياة من حيث لا ندري. فإذا لم يذهب الزواج بالرجل والمرأة إلى الحب عن طريق المودة والرحمة، فإن الحب يربط أحد الزوجين أو كليهما برباط الزواج الحقيقي خارجا عن أنظمة الناس، بالرغم من كل قاعدة مرعية.
فالانتون :
أما أنا فلا أفهم من الزواج غير شريعتين: شريعة الكنيسة والقانون المدني.
ميشال :
لا زواج حيث لا حب، ولقد شاءت التقاليد أن تجعل الحب سلعة تسام وعملا يتفق عليه متعاقدان بموجب عهد، ولقد يكون مثل هذا الزواج راسيا على حق الإيجاب والقبول، ولكنني أنكر عليه كونه أخا الولادة والموت.
بولين :
لعلك تعلمت هذه المبادئ في مدرسة أثينا!
ميشال :
بل تعلمتها في مدرسة الحياة، وأنت تعرفين كيف قضيت حياتي.
فالانتون :
أما كنت أول رفيق لأخت عقيلتي أيام طفولتها؟
ميشال :
لقد كان مسكنها قرب مسكني عندما كان لي أب وأم، وعندما حرمني الله الأب والأم قاسمت جارتي الصغيرة ألعابها. (يدخل خادم ويقول إن عربة مدام فالانتون حاضرة أمام الباب.)
فالانتون (للخادم) :
حسن، فلتنتظر. (يخرج الخادم.)
بولين (لميشال) :
لقد كنت ضعيفا متألما وأنت صغير ...
ميشال :
تلك قسمتي من الدنيا، وما الضعف إلا إرث يتلقاه الأبناء عن الآباء.
إرين :
ولكن ميشال كان سيئ الطبع.
ميشال :
لا أذكر أنني كنت سيئ الطبع يا سيدتي.
إرين :
أما أنا فأذكر كل ما كنت تخترعه لتكديري، وعندما كنت أبكي كنت تقطب وجهك وتذهب دون أن تبالي بقهري.
ميشال :
لعل الصبيان هكذا يبكون. (ينهض فالانتون مشيرا إلى زوجته بالذهاب.)
فالانتون (مخاطبا إرين) :
إنني أعتذر لاضطراري إلى الذهاب؛ لقد أتعبني الصيد اليوم، وعلي أن أعود غدا إلى الصيد أيضا.
إرين :
ولم لا تأخذ لنفسك راحة من هذا العناء؟
فالانتون :
لو كان الصيد عملا لوجب أن تتخلله راحة، ولكنه تسلية (يتجه فالانتون نحو ميشال ويصافحه) .
فالانتون :
إلى الملتقى أيها الصديق.
ميشال (يقف هو أيضا) :
أنا أيضا أريد الذهاب؛ فقد طالت زيارتي، وما كنت لأطيلها لولا أنها زيارة الوداع.
إرين :
زيارة وداع!
بولين :
أنت مسافر إذن؟
ميشال :
لقد عهد إلي بالقيام بدروس في آسيا الصغرى.
إرين :
وما يوجب هذا الإسراع يا ترى؟
ميشال :
أمور لها شأنها. (يتجه فالانتون وعقيلته نحو الباب فتلتفت بولين إلى ميشال.)
بولين :
وهل لك أن تزورنا قبل سفرك؟
ميشال :
سأزوركم ولا شك يا سيدتي. (ويتقدم ميشال ليودع إرين فتستوقفه بإشارة خفية.)
المشهد السادس (إرين - ميشال)
إرين :
ما هي هذه الأمور الهامة التي تستدعي إسراعك بالسفر؟
ميشال :
وددت لو أنني لم أنوه بها.
إرين :
كنت تفضل إذن أن تطلعنا على سفرك برسالة من بعيد؟
ميشال :
دعي العتاب ولا تلومي.
إرين :
ما معنى هذه الألغاز؟
ميشال :
لقد سافرت للمرة الأولى أتلمس قوة أحكم بها نفسي، وما عدت إلا لأتيقن عبث محاولتي، عرفت أنني أسأت إلى نفسي بالرجوع، فها أنا ذا أعاود أسفاري.
إرين :
أفلا يحق لي أن أطلع على هذه الأسباب؟
ميشال :
بل لا حق لأحد سواك في معرفتها.
إرين :
آه!
ميشال :
سليني أجبك.
إرين :
لم أعد أجسر على السؤال.
ميشال :
إذا كنت لا تجسرين فسأقدم أنا على القول من نفسي.
إن هذه الأسفار الطويلة التي ألفتها بين الأطلال وبقايا الأزمنة الغابرة جعلتني محبا لكل شيء حكم عليه بالزوال لتبقى على الأرض آثاره. لندع الحاضر، اتبعيني إذن إلى مجاهل التذكار، إذا شئت فلسوف أقودك إلى متنزه جميل تسوده الروعة كأنه أطلال هياكل مندثرة.
إرين :
أراك تعود إلى طريقتك القديمة يا ميشال، فها أنت ذا تريد تعذيبي كما كنت تفعل وأنت صبي.
ميشال :
عندما قضي عليك بالزواج، كنت أنت في الثامنة عشرة وأنا في العشرين، دخلت أنا الكلية، ودخلت أنت بيت فرجان، احتملت القضاء كأنه عدل مصدره مجهول، وما أدري ما تكون العواطف في قلب امرأة لم تتجاوز الثامنة عشرة، غير أنني أعرف ما يشعر به شاب لم يتجاوز العشرين، تعودت أن أراك بعد زواجك صامتا صاغرا إلى أن انجلت لي سرائري فعرفت أنني أحبك، عرفت أن السنين التي توالت علي وأنا بقربك قد حشدت من الوجد في قلبي ما يصدعه، من عرف ماضيه وما تراكم فيه من المهيئات، فهو على بينة من مستقبله، وما كنت لأجهل ما في نفسي، فأدركت أن القضاء جعل حبي وقفا عليك دون من في الأرض من بنات حواء، قضي لي أن أحبك وقضي علي أن أحرمك، اضطهدني الزمان، فهربت منه وفزعت إلى العمل من الغرام، وإذا ضاق مجال العمل عن سلواني هربت إلى الأسفار، إلى المنفى، سافرت منذ ثلاث سنوات إلى الشرق محاولا إغراق بلابلي في بحر أنواره، حملت عيني وقد انطبعت عليها صورتك لعل شعاع الآفاق في أجمل بلاد الله يمحو جمالك، ولكنني حاولت عبثا، وما أنا أعود إلى تلك مغترا بشفائي، ولكن المريض يتقلب على جنبيه وفي الجنبين مرض وآلام.
إرين :
قف عند حد الماضي ودع الحاضر، فلن أتبعك إذا سرت على سبيله.
ميشال :
لقد وقفت حيث يجب الوقوف، فلن أزيد كلمة على ما قلت.
إرين (بعد سكوت قصير) :
لا أفهم ما قلته عن الفرق بين عواطف الرجل وعواطف المرأة، فهل للرجل أن يسلو بالابتعاد والهرب، أما أنا فأرى أول واجب على المحب ألا يهرب من محبوبه.
ميشال :
هل من برهان على قوة المحبة أشد من الهرب حين لا يجدي الاقتراب غير التألم والويلات؟
إرين :
أفلا ترى أن القيام بالواجب في القرب أولى من السلوان في النوى؟ أتعلم أنني أعاني التضحية ولا تقدم عليها؟
ميشال :
ما كنت أعلم أنك تعانين التضحية لأقدم عليها.
إرين :
وأنا أيضا ما عرفتها قبل اليوم.
ميشال :
وما الذي غيرك وكشف لك سريرتك يا إرين؟
إرين :
لقد طرحت نفسي نقابها، وها أنا ذي أراها متجلية أمامي بكل خفاياها وبكل خوفها من أن تفقدك يا ميشال. (تجلس إرين على كرسيها وتغطي وجهها بيديها وتستخرط في البكاء.)
إرين :
لقد تعودت أن أحسبك ملكا لي، وها أنا ذا أشعر أنك قطعة من قلبي، فكيف أنسلخ بدون أن أتقطع ألما؟
ميشال :
عفوك يا إرين، لقد آلمتك، وقد كنت أحسب الألم مكتوبا علي وحدي.
إرين :
عدني بأنك لن تسافر.
ميشال :
وماذا يحل بنا يا ترى لو بقيت بقربك؟
إرين :
ليكن ما يكون! لينزل المستقبل علي بكل ويلاته، إنني أرضى بها، ولكنني لا أحتمل بعادك، كن لي ملاكا حارسا يا ميشال، كن تعزيتي في أحزاني، ليتك تعرف مقدار عذابي، لا تغلق بيدك نافذة الرجاء التي تذر أنوارها علي لأول مرة في حياتي، لنكن مفترقين مقتربين، دعني أرك وأسمعك، لا تبتعد عني، فنبقى كالأخوين نقتسم نصيبنا من الدهر، ولكل قسطه من عذابنا الواحد.
ميشال :
أراك تغترين بقوتي يا إرين.
إرين :
أراني قوية أنا؛ لأنني أعتقد القوة فيك.
ميشال :
أنت على ثقة من شرفي؛ ولهذا تجدينني أرفع من أن أخلط احترامي لك باحتقار مقامك.
ولكنك لا تعلمين ما يمكن أن يجول في قلبي من العواطف التي تلطخ أشرف نزعاتي بقربك.
إرين :
لا أفهم ما تعني.
ميشال :
لا تنسي أن بقربك رجلا هو سيدك وله الحق في التمتع بك كما يشاء.
إرين :
لست كريما يا ميشال.
ميشال :
بل لست حجرا؛ فالغيرة تقتلني قتلا.
إرين :
اسكت.
ميشال :
إني إن أهرب فما هربي منك؛ فالدنيا بكل مداها أضيق من أن تضع حاجزا بيني وبين هذا الرجل الذي يسودك.
إرين (بعد سكوت طويل) :
لقد شعرت بما لك علي، لا أقدر أن أكون لك، فلن أكون لسواك.
ميشال :
أواه! أتقسمين بالمحافظة على هذا العهد؟
إرين :
نعم، أقسم إذا بقيت بقربي وشجعتني وحميتني، فلسوف تقرأ كل يوم آيات الأمانة في عيني، سوف أكون لنفسي.
ميشال (يأخذ يد إرين فيقبلها) :
تشكرك روحي من أعماقها يا إرين.
إرين :
عد إلي لأراك، فقد رجعت اليوم إلى الحياة.
ميشال :
وأنا اليوم قد بعثت من عالم الأموات (يخرج ميشال من باب الحديقة) .
المشهد السابع (بعد أن تشيع إرين حبيبها بنظرات الحب، تعود فتستلقي على مقعدها، ثم يفتح فرجان باب غرفته ويتقدم ببطء من إرين ويضع يده على المتكأ.)
فرجان :
أنائمة أنت؟
إرين :
لقد أرعبتني.
فرجان :
ما كنت أقصد هذا، وما كنت عارفا أنك باقية في القاعة، وقد انطفأت النار في الموقد، (يأخذ يدها بيده)
إن يديك باردتان كالثلج.
إرين :
دعني.
فرجان :
ماذا طرأ عليك؟
إرين :
أريد أن أبقى منفردة.
فرجان :
أعاودك اضطراب أعصابك؟
إرين :
نعم.
فرجان :
إنني أفضل أن تكون أعصابك في ثورتها؛ فإنك أجمل ثائرة منك مستسلمة للأسى.
إرين :
أرجو أن تدعني وشأني.
فرجان :
لن أتركك. (يتقدم فيطوق خصرها بذراعيه، فتفلت منه وتتجه نحو باب غرفتها، وفرجان يسير وراءها.)
إرين :
إنك تدوس أذيال ثوبي.
فرجان (ينحني على أذنها) :
أريد أن أوصلك إلى غرفتك.
إرين :
لا، إنني لا أريد.
فرجان :
اسمعي.
إرين :
لا، لن أسمع. (تدخل الغرفة وتوصد الباب في وجه فرجان، فيبقى أمام الباب ينادي.)
فرجان :
إرين ... إرين ... إرين ... آه! سوف نرى.
الفصل الثاني
(يرتفع الستار عن الغرفة التي انكشف عنها في الفصل الأول، غير أن المشهد يظهر في ضوء النهار بدلا من ظهوره على نور المصابيح.)
المشهد الأول (فرجان وإرين، هو إلى خوان وأمامه كأس شاي يشربها، وهي إلى الجهة المقابلة، غارقة في مطالعة كتاب تحمله بيدها، يقف فرجان بغتة ويتقدم إلى إرين فيأخذ الكتاب من يدها ويغلقه.)
فرجان :
بالرغم مما أوصلتني إليه من الرغبة عن محادثتك، لا أرى بدا من إطلاعك على أمور قررتها اضطرارا. لقد مضى الشهر وأنت تشكين الصداع واختلاج الأعصاب، ويؤلمني أن تستسلمي لمثل هذه الأوصاب الوهمية، وما خفيت عني أسبابها، غير أنني سأنتهز فرصة انتهاء أجل الإيجار لترك هذا القصر، والخروج بك من باريس؛ إن هواءها يضر بك على ما أرى، فهل لك ما تقولينه في هذا الشأن؟
إرين :
لا.
فرجان :
لقد اخترت مسكنين في الضاحية لكل منهما حديقته ومناظره الرائعة، وأبقيت لك حق الترجيح؛ لأنك ستقيمين في البيت أكثر مما أقيم به أنا؛ فإن أشغالي تضطرني إلى الحضور لباريس كل يوم؛ لذلك أرجو أن تقولي كلمتك في أقرب آن.
إرين (تقف بحدة) :
قلت لك أن لا حق لي في إبداء الرأي في أي أمر كان، فأنا أعتبر اتحادنا مفصوما، وليس لنا أن نواجه المستقبل بنظرة واحدة فيما بعد. أنت تبغضني وأنا أبغضك.
فرجان :
وهل من مسبب لهذا البغض المتبادل سواك؟ لقد أحرجتني. غيري مسلكك أغير طريقي.
إرين :
وهل أملك تغيير مسلكي معك؟ إن ما أشعر به لا أقدر على مقاومته.
فرجان :
إنك الآن على غير ما عهدت من قبل.
إرين :
وهل كنت إلا ككل فتاة تتزوج مكرهة، أحاول أن أخلق الحب خلقا في فؤادي، فما أجدت محاولتي شيئا؟ لقد كنت ألقي حبك فريضة على قلبي كما يلقى الإيمان كرها إلى الفكر دون اقتناع به، فما استفدت غير الشقاء والآلام. أقسم بالله أنني لن أقدر أن أعتاد على حبك اعتيادا، لقد تفحصت أعماق قلبي، فلماذا أخدعك وأخدع نفسي؟!
فرجان (وهو يتميز غيظا) :
إن كل كلمة خرجت من فمك إنما هي حنث بعهودك وتحقير لواجباتك.
إرين :
لتكن كلماتي ما تكون، فإنها صرخة مدوية في أعماق روحي.
فرجان :
لا أفهم ما تقصدين.
إرين :
وأنا أيضا لا أفهم ما تريد أنت.
فرجان :
ماذا ترجين يا ترى؟
إرين :
وأنت ما هي آمالك؟
فرجان :
أراك مجنونة، ولكل داء دواء.
إرين :
إذا رأيتني مجنونة فكن أنت عاقلا على الأقل.
المشهد الثاني (إرين - فرجان - بولين)
بولين (تدخل بغتة) :
يا لله! ماذا جرى؟ أفلا يمكن أن تتفقا؟
فرجان لبولين :
سوف أتركك معها لتتحققي أمرها، وتعلمي إلى أين بلغ بها الجنون، دعيها تتكلم؛ فإن ما تقوله لا جواب عليه.
المشهد الثالث (إرين - وبولين)
بولين :
أفلا تزال أعصابك في هياجها؟
إرين :
إنها ستزداد هياجا من يوم إلى يوم، ومن ساعة إلى ساعة، إن مثل هذه العلل لا شفاء لها.
بولين :
تذرعي بالصبر يا إرين.
إرين :
وعلام أصبر؟ لقد سمعت أمس تهديده، وها هو ذا اليوم يعمل على تنفيذ أحكامه؛ فقد أعلن لي أنه سيأخذني من هنا؛ فهو يريد إلقائي في سجن يكون هو السجان فيه.
بولين :
مسكينة يا إرين!
إرين :
لقد وصلنا إلى حيث لا منفذ لنا إلا بالطلاق أو ...
بولين :
أو ماذا؟
إرين :
إلا الطلاق أو الموت.
بولين :
بربك يا إرين، اصمتي.
إرين :
لقد قضي الأمر، فكوني معي أو فكوني علي.
بولين :
وهل أكون معك في مثل موقفك إلا إذا كنت عليك؟ ماذا تشكين من هذا الرجل الذي ينحني أمام إرادتك؟ أفلا يكفيك منه أنه وهو زوجك لا يتمتع بحقوق الزوج منك؟! أفلا ترينه يفضل الكثيرين؟! فهو على الأقل لا يلجأ إلى إغضابك، ولو كان سواه في موقفه لما أحجم عن استعمال القوة لإرغامك.
إرين :
اصمتي يا بولين، على المرأة ألا تضحي بنفسها لأحد.
بولين :
ولكن الواجب يقتضي هذه التضحية من كل امرأة فاضلة.
إرين :
لا، إنني أنكر العظمة والفضيلة على ضحية تنبت في تربة الكره والاشمئزاز.
بولين :
إن الدين يقضي عليك بهذه الطاعة.
إرين :
لا، يا بولين، إن الدين الراسي على التضحية بكل مبادئه السامية، لا يقضي بمثل هذه التضحية الراسية على تدنيس القلب؛ إذا كان إنكار الذات فضيلة، فما تدنيس الذات إلا رذيلة لا تنحط عنها رذيلة في الحياة، أفلا يعلمنا الدين أن الطهارة هي أقوى ما يتزلف به مخلوق إلى الله؟ وهل من الطهارة أن تستسلم المرأة بلا حب لشهوات حيوان؟ أهذا هو الزواج؟ أيمكن أن يمسخ الإنسان باسم الشريعة أقدس ما في الإنسانية تكلفا وكذبا ورياء؟ أيمكن للمرأة أن ترى في رجل هادم حياتها ونيرون قلبها ثم تقتسم معه ثمرة الحياة والموت؟! يا لله من هذا الدنس! ويا لله من هذا العار يلصقه الناس بروح الوجود ولا يخجلون!
بولين :
أنت عاشقة يا إرين.
إرين :
وما هو برهانك على ما تدعين؟
بولين :
إن البغض سلبي، أما المحبة فإيجابية، ولا يتفوه الإنسان بمثل ما تتفوهين به دون أن تحفزه قوة إيجابية مستقرة في أعماق روحه.
إرين :
هبي افتراضك صحيحا، أفلا ترين في الحب قوة أشد من قوة البغض تهيب له إلى الخلاص؟!
بولين :
ولكن من يضمن وأنت على مثل هذا التمرد أنك لن تعاملي زوجك الثاني كما تعاملين زوجك الأول الآن؟
إرين :
لست أنا الآن تلك الفتاة التي تزوجت منذ عشر سنين، هي غيري، تلك العروس التي اقتلعت من مقعد دروسها اقتلاعا لتطرح على سرير رجل مجهول، لقد صرت «أنا» الآن، فأنا أعرف ما أريد وما لا أريد، وما لا طاقة لي باحتماله. إن في أعماقي قوة تهيب بي للانعتاق أو للموت.
بولين :
اسكتي بحق الله يا إرين. ويلاه! كيف الخلاص؟ وما العمل؟
إرين :
لقد آن أوان العمل، أنت زوجتني، فعليك إنقاذي الآن.
بولين :
أنت إذن مصرة على عزمك.
إرين :
وهل بإمكاني أن أحول عنه؟ اذهبي إلى زوجي وأعيدي عليه ما لا يريد الإصغاء إليه.
بولين :
ولكن للطلاق شروطا يا إرين، ولا يمكن الحكم به دون أسباب مبررة ثابتة.
إرين :
إذا توافقنا على الافتراق سهلت أمامنا الوسائل. اذهبي إليه وقولي له كل ما ترين من خطورة الحالة. إن هذا الرجل يخشاك، ولا أراك إلا مدركة ما يجب عليك القيام به تلافيا لأشد الأخطار.
المشهد الرابع (إرين - بولين - خادم)
الخادم :
إن المسيو دافرنيه بالباب يستأذن في الدخول.
إرين :
ليتفضل.
المشهد الخامس (إرين - بولين)
بولين :
أي حديث سيدور بينكما يا ترى؟ أهو عالم بما يجري؟
إرين :
لا، إنه لا يعرف شيئا.
بولين :
مسكينة أنت يا أختي. (تقبل إرين بولين وتخرج.)
المشهد السادس (إرين - ميشال)
ميشال :
أستميحك العفو لأنني أتيت.
إرين :
لك عفوي يا ميشال، وقد كنت في غنى عن الحضور الآن.
ميشال :
وعدتك أن أبتعد عنك، وأقسمت ألا أقترب منك، ولكنني تمثلتك معذبة فأشفقت على نفسي وعليك.
إرين :
أفما نتوقع أن يدور القضاء دورته ونحن مفترقان؟
ميشال :
لقد صرت أحذر الآمال، وأخاف الأماني.
إرين :
لئن غبت عني فرسمك ماثل في فؤادي، وأينما اتجهت بأنظاري أراك بجبينك الشاحب ينم عن مرض فيك تحتم علي شفاؤه.
ميشال :
وهل لمثل غرامي أن يشفى؟
إرين :
أريد محو ما ارتسم على وجهك من شقاء، أريدك سعيدا تتذوق لذة الحياة يا ميشال.
ميشال :
وهل لإرادتك أن تهدم ما بيننا من حوائل؟
إرين :
قل لي يا صديقي، أفلا تراني وأنا غائبة عنك ماثلة أمامك كما أراك أنا ماثلا أبدا لعياني.
ميشال :
أجل، إنني أراك، أراك في غيبوبة فكري، فتشاهدك بصيرتي بأجلى مما يشاهدك بصري، وأشعر أنك لي دون أن يدنس عرضنا لؤم أو يحوم فوقنا ارتياب.
إرين :
يا ألله! ما أشبه روحك بروحي! فكأن تفكيري امتداد لتفكيرك، أو كأنني شعلة منبثقة من نورك، كلانا مترفع عن الدنايا، طامح إلى الحق الصريح.
ميشال :
أصحيح ما تقولين؟
إرين :
أصغ إلي: إنني منذ زمان مديد أفكر في طريقة تجمع بيننا بلا لوم أمام الله والناس.
ميشال :
وكيف يكون هذا يا إرين؟
إرين :
إن القضاء يدور لنا أو علينا في هذه الساعة. إن أختي تخاطب زوجي في هذه اللحظة لتطالبه بحريتي.
ميشال :
وهل تؤملين النجاح في هذا المسعى؟
إرين :
لا أعتقد أن هذا الرجل سيتمسك بالبقاء معي في جحيم دائم الاضطرام.
ميشال :
ليتني أشاطرك الأمل يا إرين.
إرين :
عليك أن تسافر الآن إلى أن أعد العدة للخطوة الأخيرة.
ميشال :
أتقضين علي بالابتعاد عنك الآن؟
إرين :
أطلب ابتعادك حتى تعود إلي بعد سنة إذا أنا نجحت في مسعاي. وإن أنا فشلت فمجال الأرض رحب، والأمر لله.
ميشال :
ويلاه!
إرين :
إذا قضي علينا بفراق لا لقاء بعده، فإننا نلبس الحداد على حياتنا، ونبقى طاهرين أمام ضميرنا؛ فمثلك ومثلي لا يتخذان الخداع سبيلا لسعادة مكذوبة.
ميشال :
أنت حياتي يا إرين.
إرين :
إنني أواجه الحقيقة فلا أخادع نفسي.
ميشال :
ولكنني لن أطيق الفراق إلا على ذكرى وأمل، فاملئي عيني من نور عينيك ويدي من حرارة يديك (يتقدم إليها بحركة ملؤها الجوى فتتراجع عنه) .
إرين :
لا تدخل الاضطراب إلى نفسي، لا تفقدني الثقة بذاتي، إياك أن تفسد إيماني بعزة نفسي، إذا كان الدهر يقضي لنا في هذه الساعة، فلا تلطخها بوصمة ضعف أندم عليه في أي زمان، دعني، أنا خطيبتك يا ميشال.
ميشال :
أواه! إنني أعبدك (يضع على جبينها قبلة)
أنا خطيبك المطيع لأمرك.
إرين :
لقد طالت زيارتك، فاذهب الآن.
ميشال :
أأذهب دون أن أعلم ما قضى الله في أمرنا؟
إرين :
سأبلغك الحكم في حال صدوره.
ميشال :
ولكن من يضمن لي أنك ستتمتعين بحريتك بعد اليوم؟ أفما تحاذرين أن يمنعك زوجك من الخروج وأن يراقبك فلا تتمكنين من الكتابة إلي؟
إرين (تشير بيدها إلى الحديقة) :
ادخل إلى الحديقة وانتظر إلى أن نعلم ما قدر لنا. (يتوارى ميشال في الحديقة.)
المشهد السابع (إرين - بولين)
بولين :
أذهب ميشال من هنا؟ لقد خفت أن يدخل زوجك فيراه أو يلتقي به في البيت، وهو على ما هو عليه من هياج، فلا نأمن سوء العاقبة.
إرين :
هو يرفض إذن؟
بولين :
سوف تسمعين حكمه من فمه، فهو آت.
المشهد الثامن (إرين - بولين - فرجان)
فرجان :
أهذه هي المؤامرة الرائعة التي كنت تديرينها مع أختك يا إرين؟
بولين :
لم يكن من مؤامرة بيننا.
فرجان لإرين :
أهذه ما كانت تضمر كل آلامك العصبية، لأجل التوصل إلى هذه المحجة كانت كل هذه المحاولات؟
إرين :
أنت تعلم أنني ما اتخذت تجاهك مرة واحدة طريق الخداع والمداجاة، فما أخفيت عنك تمردي، لقد أعلنت لك بكل صراحة أنني لا أحبك! والآن أكرر القول بأنني ضقت ذرعا بك وبحالي، ولا قبل لي بالاحتمال، أفما آن لنا أن نفك أغلالنا ونضع حدا لهذا العذاب؟
فرجان :
يا للغرابة أن تنتصبي أنت الممثلة ضلال القلب والتمرد على الشريعة والعفاف لتطلبي مني الرضوخ لك أنا الممثل كرامة الأخلاق وقداسة العادات وشرف المجتمع وحق الشرع!
بولين :
اسمع يا فرجان، مالك وللاعتصام بالمبادئ والشرائع؟! فما نحن نناقشك في مواد القانون.
فرجان :
وفيم تناقشينني إذن؟
بولين :
لقد حاولت من جهتي أن أمنع البركان من الانفجار فلم أفلح.
فرجان :
أشكرك على هذه المحاولة.
بولين :
كن عادلا يا فرجان، كن شفيقا، أتوسل إليك باسم محبتي لأختي واعتباري لك أن ترفع نفسك إلى أرقى مراتب العظمة.
فرجان :
لقد حسن لدي أن تتخذك أختك واسطة بيني وبينها في هذا الأمر، وأنا أجد من حقي ألا يتوسط أحد بيننا فيما لا يعني سوانا؛ فالحديث سيكون إذن بيني وبينها.
إرين :
لا، يا بولين، لا تذهبي، لا تتركيني وحدي معه.
فرجان :
لا تخافي؛ فلن أرفع يدي عليك، وقد تتوقين إلى مثل هذه المعاملة الخشنة تتخذينها حجة علي. اذهبي يا بولين، فأنا صاحب الأمر هنا.
بولين :
لله! ما أقساك!
بولين (تتقدم إلى إرين وتقبلها قائلة) :
اغفري لي عجزي؛ فما ادخرت جهدا في سبيل مرضاتك.
المشهد التاسع (إرين - فرجان)
إرين :
إلى أية دركة تريد قذفي يا فرجان؟
فرجان :
لا أقصد إلا إعادة رشدك إليك.
إرين :
لقد أبديت لك الأسباب التي توجب فراقنا، فما هي الأسباب التي تدعوك إلى التمسك باتحادنا؟ لا حجة لك إلا إذا ادعيت العشق وتظاهرت بحب مكذوب.
فرجان :
ما أدعي أنني أحبك؛ لأنني لا أحبك، ولكن لي عليك دعوى القتيل على قاتله، فأنت مزقت حياتي تمزيقا.
إرين :
إذن أنت طالب انتقام، أنت تقضي علي بكفارة لا نهاية لآلامها.
فرجان :
إنني إن قصدت ذلك لا أكون إلا مستعيدا ذرة من حقوقي الضائعة، ولكنني لا أخرج ببرهاني من هذه المقدمة. لقد عقدنا يوم زواجنا اتفاقا وكلانا بصحة العقل والجسد، وهذا الاتفاق صحيح لا غبن فيه ولا تغرير، وهو سالم من شائبة التزوير، وبموجب هذا العقد أصبحت رجلا متزوجا؛ أي رجلا أدبيا وماديا، وقد قمت من جهتي بكل تكاليف العقد بلا تردد ولا مخالفة، وأنت الآن تتقدمين بطلب على غاية من الغرابة، فأنت تريدين أن أشطر شخصيتي إلى شطرين، فأصبح مطلقا ومطلقا، فأضطر إلى بيع نصف بيتي ونصف مفروشاتي وأن أفرغ نصف كيسي، ثم أذهب إلى المجتمع فلا أجد فيه غير نصف مقعد ونصف استقبال، وكل هذا لأجل النزول عند إرادة أعصابك المختلجة، ولأنك لا تجدين لذة في عشرتي، والله إنها لأسباب مضحكة مبكية، ولن تجدي رجلين فيهما مسكة من عقل يوافقانك عليها.
إرين :
أما أنا فإنني أكره التظاهر بغير الحقيقة، وأحتقر زواجا يرسو على المخاتلة والنفاق؛ فإنني حين أقول لك إن الزواج هو الشعور بالسعادة من توليد السعادة في القرين لا أسمع منك غير كلمات الشرف والعهود المبرمة والاتفاقات المسجلة، وكل ما هنالك من مضحكات ما أشبهها بالمبكيات!
فرجان :
لقد أردت أن تعدي نفسك غريبة في بيتي، فاتخذت الوقاحة سبيلا للانشقاق عني؛ لذلك رأيت أن أعاملك المعاملة التي لا تستحقين سواها. إن بيدي اتفاقا مسجلا أقودك للرضوخ به بالرغم منك، فأنا لا أشعر نحوك إلا بأمر واحد، وهو حقي عليك.
إرين :
في الحياة حقوق وواجبات يا فرجان، وأنا أحترم كل شريعة تؤمن الإنسان على ماله، ولا أبحث فيها، ولكن الذي لا أفهمه بل أتمرد عليه هو القانون الذي يجعل الإنسان ملكا لإنسان مثله، ويحكم المخلوق بالمخلوق ما دام فيه نسمة حياة.
فرجان :
إنك تنكرين الزواج، وهو يرسو على مبدأ احترام العقد وصيانته من تلاعب الأهواء.
إرين :
لقد كان زمان هنا في هذه البلاد نفسها يمكن فيه لأحد الزوجين أن يحل الزواج بمجرد اختياره.
فرجان :
ومن قال لك هذا؟
إرين :
أحد المحامين.
فرجان :
وهل توصلت بالهوس إلى هذا الحد إلى استفتاء المحامين؟
إرين :
لقد كان ذلك في أوائل القرن التاسع عشر، حين كان المجتمع يفوق مدنية اليوم عظمة وتنظيما، فما أطلب إذن ما يزعزع دعائم الكون. إن قرينا أبغض قرينه بالأمس ويبغضه اليوم ولن يحول عن بغضه غدا لهو ذو حق صريح، وعلى الشريعة أن تحميه. لقد كان من الواجب أن يحترم حق الإنسان على نفسه؛ لأنه يرسو على فطرة كل نظرية ترتد عنها خاسئة متحطمة، أي شيء أصدق من العاطفة، وفي العاطفة كل الحياة؟
فرجان :
أحمد الله لأن شريعة هذا العصر لا تجيز الطلاق، حتى ولو طلبه الطرفان بالتراضي.
إرين :
وما هي حاجة الطرفين إلى الشريعة إذا اتفقا على الطلاق؟ إن القانون لم يوضع لإقامة عدل قائم بنفسه، ولكنه ضروري لإنصاف المظلوم وأخذ حقه من ظالمه، وماذا يفيد تشريع لا يمنع النخاسة ويحطم الأغلال الجائرة؟!
فرجان :
اتجهي إلى أي منفذ؛ فالأبواب كلها موصدة في وجهك.
إرين :
لن أعدم مخرجا أنطلق منه.
فرجان :
لا، لن تجدي، أنا لم أرفع يدي لضربك يوما، ولم أقصر في تقديم ما تحتاجين إليه، لست زانيا، ولم يصدر علي حكم بجرم، وما من سبب غير هذه الأسباب يمكنك أن تتقدمي به أمام المحاكم.
إرين :
ولكنني أتمكن من جرك جرا إلى طلب الطلاق.
فرجان :
لن تستطيعي.
إرين :
وإذا أنا أوقفتك موقفا تتحرج أنت فيه؟
فرجان :
ولا هذا يجديك نفعا.
إرين :
سوف ترى.
فرجان :
وماذا أنت فاعلة يا ترى إذا أنا أوصدت عليك الأبواب كلها؟
إرين :
أترك السجن وأهرب.
فرجان :
إذا فررت من مسكنك أرسل الجنود يقبضون عليك ويعيدونك إليه.
إرين :
وإذا قضيت أنا على نفسي وأصبحت امرأة لا يجوز لرجل شريف أن يبقيها عنده.
فرجان :
سوف أحرسك. يلذ لي ألا أعيد حريتك إليك، أنا حاكمك حتى الموت، وفي هذا الحكم كل لذتي، القانون في جانبي، فأنت في يدي، ولن تفلتي منها.
إرين :
ويلاه! لقد منعت النخاسة في جميع الأقطار، وأبطلت التجارة بالعبيد. لقد نقض العقل كل تعهد أبدي، ويمكن لمن نذر حياته لله أن يتحرر من نذوره، ولا يمكن لامرأة أن تتحرر من عبوديتها لزوجها. أين الحرية في العالم، ولما تزل فيه قوانين تمنع الإنسان أن يكون مالكا لنفسه، ونفسه عطية الله له؟!
فرجان :
سوف تألفين هذه العبودية، لقد قلت لك إنني أعمل على شفائك، فسوف نبارح باريس فيتسع لك المجال في عزلتك لتدبر أمرك وتعديل مبادئك المتطرفة.
إرين :
أهذه هي كلمتك الأخيرة ؟
فرجان :
الكلمة التي لا كلمة بعدها.
إرين (تضم يديها بحركة التوسل) :
لا لن تكون طاغيا، ارحمني ولا تدفعني إلى الهاوية.
فرجان (يدفعها عنه) :
أرجوك أن تترفعي عن مثل الحركات الصبيانية؛ إذ لا فائدة منها. لقد مضى زمن العناد والثورة، لقد قررت ما وجب اتخاذه من وسائل، وما أقرره لا مرد له.
إرين (ترتمي على قدميه) :
الرحمة ... الرحمة ... الرحمة! أنقذني!
فرجان :
إن إرادتي لا تتزعزع، شدي نفسك واتبعي أوامري، ولسوف يأتي يوم تزول فيه سكرتك فتشكريني؛ لأنني صنتك من الضلال، وقدت خطواتك على السبيل السوي. (يخرج فرجان شامخا بأنفه من الباب المؤدي إلى غرفته.)
المشهد العاشر (إرين وحدها ثم يدخل ميشال.) (تسقط إرين على ركبتيها وهي مضعضعة، ثم تلوح على وجهها بغتة علامات التمرد والعزم، فتقف وتتجه نحو باب الحديقة وتفتحه منادية: ميشال.)
ميشال (يهرع إلى إرين) :
ما لك؟ ماذا جرى؟
إرين (ترتمي بين ذراعيه) :
أنت ... أنت ... ها أنا ذا بين ذراعيك.
الفصل الثالث
(ينكشف الستار عن قاعة في قصر من قصور ضاحية باريس، للقاعة بابان ومخرج يؤدي إلى حديقة.)
المشهد الأول (فرجان - وفالانتون) (فرجان منهمك في ترتيب الكتب على رفوف كبيرة، فيدخل فالانتون وبيديه شبكة صيد.)
فالانتون :
أيمنعك شاغل عن مرافقتي إلى الصيد؟
فرجان :
ألا ترى يا صديقي أنني لا أنفك عن العمل كأنني سيدة بيت، لقد مضت عشر سنوات على انتقالنا إلى هذا القصر ولم أتمكن من جعل إرين تهتم بأي عمل.
فالانتون :
وهل هي جاءت عن طيبة خاطر إلى هذا القصر لنطالبها بالاهتمام بترتيبه؟
فرجان :
وهل يبقى الإنسان عشر سنوات مكرها؟
فالانتون (وهو يلهو بترتيب شباكه) :
إذا أكرهت المرأة مرة فلن ترضى أبدا.
فرجان :
ليس في حياة زوجتي ما يبرر سوء الظن، ولعل هذا الإهمال طبيعة فيها، لست أشكو منها، وقد انقضى العهد الذي اضطررت فيه إلى سوقها بيد من حديد.
فالانتون :
وهكذا قمت بواجبك نحو نفسك على ما نعتقد.
فرجان :
بل قمت بواجبي نحوها هي؛ لأنني وقيتها السقوط وحفظتها من التدهور في زمن كانت فيه على شفير الهاوية لاضطراب أعصابها، والحق يقال أنني مرتاح إلى ما فعلت، ولست بنادم على ما أبديت من حزم وشدة. لقد أعادت العزلة السكينة إلى زوجتي، ومنذ أصبحت أما تغيرت أطوارها وأدركت معنى الحياة، فهي راضية بما قسم لها.
فالانتون :
وهل يبقى من خلاف في زواج مرت عليه عشرون سنة؟ إن الهرم يلقي السكينة على كل شيء.
فرجان :
ولكن المصاعب لا تزول من الزواج حتى بعد مضي خمسين سنة؛ فأنا اليوم تجاه مشكل جديد يجب أن أستعمل الشدة في حله.
فالانتون :
سنعود إذن إلى المشاكسة القديمة.
فرجان :
لا بد من ذلك؛ فإن المسألة تتعلق بتعليم ولدنا رينه وامرأتي تقاومني.
فالانتون :
إذا كان لا بد لكما من العراك، فأرجو إرجاء المواقع إلى نهاية الصيف؛ أي إلى أن أذهب مع زوجتي من بيتكم.
فرجان :
ليت هذا الإرجاء ممكنا؛ فإن اليوم ميعاد دخول التلامذة إلى المدرسة، وقد قررت إدخال رينه إلى مدرسة تبعد خمسة عشر ميلا من هنا، وأوجبت أن يكون هذا المساء بين أقرانه فيها، وبما أنني أعرف طباع إرين؛ فقد أردت توفير الحنق عليها مقدما؛ لذلك سترى نفسها أمام أمر واقع هذا المساء.
فالانتون :
أنت إذن ترغمها إرغاما ولم تسألها رأيها.
فرجان :
ولماذا أطلعها على أمر أنا واثق من رفضها له، فإذا ما صاحت هذا المساء أكون وفرت عليها صياح شهر.
فالانتون (يستعد للخروج بشبكته) :
إن العاصفة على وشك الهبوب، فها أنا ذا ذاهب.
فرجان :
أي نوع من الأسماك تصطاد؟
فالانتون :
كل نوع أتمكن من اصطياده.
فرجان :
ولكن ما هي الأسماك التي تقع في شباكك؟
فالانتون :
لا يقع فيها شيء.
فرجان :
أنت تجهل صنعتك يا عزيزي.
فالانتون :
لا بل هي الأسماك تجهل صنعتها، فهي ككل شيء في هذه البلاد تتلهى بالتفكير مستغرقة في أحزانها فلا تدنو من الشباك (يقول هذا ويخرج.)
المشهد الثاني (فرجان - ثم إرين وبولين) (تدخل المرأتان من باب الحديقة، وعلى وجه إرين دلائل الهرم، وقد لعب برأسها الشيب، وبولين تحمل باقة من الأزهار.)
بولين :
لقد أنهكنا التعب.
فرجان :
إلى أين اتجهتما بهذه النزهة؟
بولين :
ذهبنا إلى الحرج، ومنه إلى المرج، ثم أردنا الخروج من السياج للدخول إلى المزرعة.
فرجان (متهيجا) :
ولكن السياج يمنع المرور.
بولين :
لقد كان السياج مخروقا فولجناه، وكانت هنالك امرأة تغسل على شاطئ وهي التي خرقت السياج.
فرجان :
إنها لوقاحة. (إلى إرين)
وماذا قلت لهذه المرأة؟
إرين :
سألتها عن صحة ابنها.
فرجان :
وبعد؟
إرين :
أعطيتها دراهم لتشتري أدوية له.
فرجان (يأخذ قبعته ويتجه إلى الباب) :
أما أنا فسأعلمها كيف تخرق السياج مرة أخرى.
بولين :
ويلاه! ما خطر لي أن المسألة ستنتهي على هذه الصورة، بالله يا فرجان، لا ترعب هذه المرأة المسكينة.
فرجان :
ولماذا أجازت لنفسها خرق سياجي ودخول أملاكي؟
بولين :
أفما تتعبك المطالبة بحقوقك دائما يا فرجان؟
فرجان :
لو كان كل الناس على شاكلتي يعرفون ما لهم ويدافعون عن حقوقهم لكانت الدنيا على خير ما هي عليه الآن (يخرج).
المشهد الثالث (إرين - بولين)
بولين :
كان يجب عليك أن تردي زوجك عما يقصد.
إرين :
إنه يفعل ما يريد، وليس لي أن أقف في وجهه.
بولين :
أنت الآن كما كنت من قبل، تمر الأيام ملقية بغبارها على لمتك، وقلبك ذلك القلب القديم لا يتحول عن عواطفه.
إرين :
ولن يتحول.
بولين :
يخيل لي أن العواصف قد سكنت بينك وبين زوجك.
إرين :
لم يعد ما يوجب النضال بيننا إلا أمر واحد أحاذر وقوعه.
بولين :
وما هو هذا الأمر يا ترى؟
إرين :
مسألة تعليم رينه.
بولين :
أظنه يستغرب مزيد انعطافك على ولدك يا إرين.
إرين :
إنني أكاد أعبده. لقد ضحيت بموتي من أجل حياته، ولولاه لما كنت أدرج على الغبراء، بل كنت مدرجة تحت أطباقها، إنني من أجل هذا الطفل أعيش، وهو وحده يربطني بهذه الدنيا، فليس لي في الحياة إلا حياته الواهية، ونفسه الصغيرة المفكرة التي أحسبها مركبة من أنيني وأوجاعي؛ فأنا لا أطيق الابتعاد عن رينه، وكيف أسلم تذكاري وضحيتي ودموعي لأيدي المعلمين، لأيدي الغرباء؟
بولين :
وهل فاتحك فرجان بالأمر؟
إرين :
لقد تحدث إلي بشأن تعليم ابنه مرارا، وإذا شعر بما يخالج ضميري؛ فهم أن حياتي معلقة بشعر الولد الصغير، وقد مضى زمن دخول التلامذة إلى المدارس هذه السنة، ولم يرجع على حديثه، وإذا هو عاد إلى نغمته لأقفن في وجهه وقفة اللبؤة تدافع عن شبلها.
بولين :
مسكينة أنت يا إرين! أنت لا تحيين إلا بحياة ابنك. وقد قضي عليك ألا تكوني لنفسك، ومع هذا فإنك ما كنت لتصلي إلى حالة أسعد من حالك اليوم لو أنك اتبعت السبيل الذي استهوتك محجته من قبل.
إرين :
من يدري؟
بولين :
لا يا إرين، لو أن حظك تابع إرادتك لكنت اليوم رازحة تحت وقر أشجانك؛ فقد وفر القضاء عليك أعظم ما يقع على قلب رقيق كقلبك.
إرين :
لا أفهم ما تعنين.
بولين :
ويلاه! ما كان أغناني عن إعادة هذه الذكرى إليك!
إرين :
تكلمي يا بولين.
بولين :
قولي لي الآن، أفما كنت مصممة على الاقتران بميشال دافرنيه.
إرين (تشيح بوجهها) :
قد أكون فكرت في هذا.
بولين :
أفما كنت أصبت بأشد الضربات لو تم لك ما أردت.
إرين :
كان علي أن أطلب هذه السعادة وأحصل عليها، وما كان سيقع بعد ذلك فليس من شأني.
بولين :
لا يا إرين، لو كنت اقترنت بميشال لكنت اليوم على أسوأ حال. أفترين من السهل على المرأة أن ترتفع مع رجل إلى ذروة السعادة ثم تسقط منها بغتة وهو ميت بين ذراعيها؟
إرين :
لو أنني تزوجت به لما مات، لكنت شفيته بقبلات غرامي، ورددت عنه سهام الموت، لكنت منعت عنه الداء برد الشقاء عنه في حياته المنفردة المؤلمة، لكنت وقيته كل إفراط مما أعلم (وتخفض صوتها كأنها تهمس همسا)
أعلم.
بولين :
كان ميشال مصدورا وابن مصدور.
إرين :
اسكتي.
بولين :
مالك يا إرين؟
إرين (تتمالك نفسها بصعوبة) :
لا شيء يا بولين، إنها فكرة الموت المروع، ويلاه من التذكار لماذا تعيدينه إلي!
المشهد الرابع (إرين - بولين - رينه) (رينه ابن عشر سنوات، يدخل بلهفة وينطرح على أمه.)
رينه :
أمي ... أمي.
إرين (فاتحة ذراعيها لابنها) :
رينه، يا حياتي، يا ملاكي الصغير، تعال أقبلك (تقبله)
دعني أنظر إلى دلائل الصحة على وجهك، فقد صرت قويا وصرت شيطانا.
رينه :
وعدني أبي أن يأخذني معه إلى النزهة.
إرين :
لا أسمح لك بالخروج مع أي كان بدوني.
رينه :
أواه!
إرين :
ماذا فعلت يا رينه حتى بللت أثوابك عرقا، وقد كنت تكتب مع معلمتك.
المشهد الخامس (إرين - بولين - رينه - فرجان) (يدخل فرجان فيسمع العبارة الأخيرة.)
فرجان :
هذا يدل على تمرد المسيو رينه؛ فإن معلمته لا تقدر على ضبطه.
إرين :
يجب أن نغير كل أثوابك.
فرجان (يهز كتفيه) :
ما شاء الله!
بولين (تأخذ رينه بيده وتقوده) :
تعال معي فسوف أوبخك توبيخ العمة، فلا أضحكك ولا أبكيك. (تخرج بولين مع رينه.)
المشهد السادس (إرين - فرجان)
فرجان (وهو يتردد) :
علي أن أتحدث إليك بشأن تعليم رينه.
إرين :
وما يدعوك إلى ذلك اليوم؟
فرجان :
لأن الأمر لا يحتمل التأخير.
إرين :
لماذا؟
فرجان :
لأن الولد قد بلغ العاشرة من عمره، وحين يبلغ الولد هذه السن ترتفع عنه سلطة الأم. لقد أبقيت رينه تحت سلطتك حتى اليوم؛ لأن الأطفال يحتاجون إلى الحنان، أما وقد خرج رينه من طور الطفولة فهو بحاجة إلى غير الإشفاق والتدليل.
إرين :
إذا كنت ترى تربيتي غير وافية له الآن، فاستقدم له معلما يعطيه الدروس في البيت.
فرجان :
ليس الولد محتاجا إلى العلم فقط لنستقدم له معلما يعطيه الدروس في البيت، فهو بحاجة أيضا إلى تقوية نفسه والاعتماد عليها، هو بحاجة إلى المناظرة والاجتهاد والطاعة، وكل هذه أمور لا يتعلمها الولد إلا في المدرسة.
إرين :
ويلاه! لقد عدنا إلى معالجة أمر لا أطيق ذكره، ألم أقل لك يا فرجان إنك تجني على حياة رينه إذا أنت حرمته حنوي.
فرجان :
دعي هذه الأوهام يا إرين، فإن حبك لرينه سيكون علة شقائه؛ فأنت أضعف من أن تتولي تقويمه وتهذيبه.
إرين :
وأنت تريد أن تبتاع له قساوة الغرباء؟ ويلاه! أتطلب القساوة لهذا الطفل الصغير الذي يتهدده الفناء حتى تحت جناحي، هذا الطفل الذي لا ينام إلا مرتجفا وأسمع سعاله المتقطع في الليل وأجفف بيدي عرقه البارد.
فرجان :
تبالغين في تدليل ابنك يا إرين، فتجعلينه مريضا، ولن يشفى إلا حين يعيش كباقي أبناء الناس.
إرين :
إن ابني لن يبارحني.
فرجان :
إن ابني سيكون مثلي، فليس هو خيرا مني، وأنا عندما بلغت سنه كنت دخلت المدرسة منذ سنتين، وسوف يأتي رينه إلى البيت يوم الأحد من كل أسبوع، ولك أن تذهبي لمشاهدته على قدر ما تسمح قوة خيولنا.
إرين :
أكرر لك القول إن رينه مريض، وحياته رهن طريقة معيشته، أنا أعلم هذا، وقد أثبت الأطباء ظنوني ومخاوفي.
فرجان :
ومن هم هؤلاء الأطباء؟
إرين :
كل الأطباء الذين تسنى لي استشارتهم.
فرجان :
وقد استشرت الأطباء دون علمي.
إرين :
نعم.
فرجان :
ما أشد جنوني! وما قال لك هؤلاء الدجالون عن صحة الولد؟
إرين (باضطراب) :
قالوا إنه ...
فرجان :
ماذا؟
إرين :
قالوا إن لمحبتي وحدها أن تقيه الموت؛ فعلي أن أداريه وأنظم معيشته بكل دقة.
فرجان :
ما معنى هذا؟ إن لكل مرض اسما، فما هو اسم مرض رينه يا ترى؟
إرين :
أواه! لكم تعذبني! دعني، أفما ترى لوعتي واضطرابي؟
فرجان :
أراك تخضعين اعتقادا لأعصابك كما أخضعت لها حياتك، ولعلك وصفت للأطباء من حالة ابنك ما شاءت لك الأوهام، فقالوا لك ما تريدين أنت لا ما يقرر العلم. إنني والحمد لله ذو صحة كالحديد، ولست أنت مريضة ليجيء ولدنا مسلولا، وسوف نرى كيف تتحسن صحته بعد أن يقضي السنة في المدرسة.
إرين :
إنه لن يقضي فيها يوما واحدا.
فرجان :
إيه، ماذا تقولين؟
إرين :
عبثا تحاول تنفيذ أمرك؛ فإنني سأقاومك إلى النهاية.
فرجان :
إذن، لم يبق سوى العمل، تفضلي بإعداد أثواب رينه.
إرين :
ولماذا؟
فرجان :
لأنني سأذهب به إلى المدرسة.
إرين :
أتجسر؟
فرجان :
سيكون الولد بعد ساعة واحدة حيث أريد أن يكون.
إرين :
ولن يكون هذا؛ لأنني سأحمي ولدي، ولن أدعه يموت حتى أموت قبله.
فرجان :
لقد عادت إليك أعراض مرضك القديم، ولكنني سأستعمل سلطة الأب لأشفيك كما استعملت سلطة الزوج فيما مضى.
إرين :
خير لك ألا تذكرني بما فعلت؛ لقد كان انتصارا باهرا، وهذا الانتصار جدير بإعجابك. لقد أحنيت رأسي، ولكن قلبي لم يزل متمردا، ومنذ أحنيت جبيني أمامك وفرت على نفسي أن أنظر إليك وجها لوجه، أما الآن فها أنا ذي أرفع الرأس لأنظر إليك، ليست الزوجة من تتمرد اليوم، إن الأم هي المتمردة وما يقف بوجه الأم إلا قوة من السماء!
فرجان :
أنت مغترة بحقوق الأمومة يا سيدتي.
إرين :
لست أعلم بحقوق الأم من الأمهات يا سيدي، إننا نعلم هذه الحقوق علما أوفى وأصدق من علم أي مشرع أفاك؛ لأن الله يكتب هذه الحقوق يوما فيوما مع نمو الجنين في أحشائنا.
فرجان :
أنا صاحب الحق، وسوف أتمتع بحقي باسم القانون.
إرين :
ويلاه من هذه الكلمة المروعة! لقد حطمت حياتي باسم القانون، وباسم القانون أيضا تريد قتل طفلي بين يدي، ما أنت الآن أمامي إلا ما كنت منذ عشر سنين؛ جلاد الإنسانية وقاتلها باسم العدالة المضللة، فأنت تسلط الحق بيدك لقتل الإنسانية، وعينك باردة كالثلج وقلبك متصلب كالصخر.
فرجان :
قولي ما تشائين، إنني حر في التصرف بولدي كما أشاء.
إرين :
أفليس بوسعي أن أقول لك كلمة تروعك عن منازعتي ولدي؟
فرجان :
إن الولد لأبيه، هكذا ينص القانون.
إرين :
لقد كذب القانون.
فرجان :
بل أنت تكذبين.
إرين :
لا ... لا، لست كاذبة.
فرجان :
اذهبي وأعدي حوائج رينه.
إرين :
اسمع، توقف.
فرجان (وهو متجه نحو الباب) :
أنا ذاهب لأعد العربة، سوف نسافر الآن.
إرين (حائلة بينه وبين الباب) :
أشهد أمام الله أن هذا الولد هو لي وحدي.
فرجان (يدفعها بيده) :
هو لي أولا؛ لأنني أبوه.
إرين (تصرخ بصوت هائل) :
لا، أنت لست أباه!
فرجان (يدير وجهه بغتة) :
ماذا؟ هل طرأ عليك جنون؟
إرين :
لا، بل أنا ممزقة نقاب التمويه والخداع.
فرجان :
ماذا قلت؟ أتدرين ما تقولين؟
إرين :
وهل أجهل ما تهتف به أحشائي؟
فرجان :
إنك تكذبين، إنك تلجئين إلى آخر وسيلة يخترعها حنانك، قولي ... اعترفي ... تكلمي.
إرين :
إذا كنت تطلب ما يقنعك فإليك البرهان، وليكن ما تريد. تذكر الآن، تذكر أنني أوصدت بابي في وجهك منذ عشر سنوات حين كنت حاكمي وجلادي، وما عدت إليك بعدها إلا مرغمة على احتمالك، فافهم الآن.
فرجان :
ماذا؟
إرين :
لو كنت ممن يفكرون لأدركت أن المرأة لا يمتلكها إلا من يمتلك قلبها.
فرجان (وهو يرتعش) :
ويلاه! لقد فهمت.
إرين :
لقد احتفظت بسري في ذلك الزمان واحتملتك؛ لأنقذ حياة ولدي، ولأجل إنقاذه اليوم أيضا أرفع النقاب، وأدفع بك إلى الوراء.
فرجان (يهجم عليها وهو يتميز غيظا) :
بالشقية الجانية!
إرين (تهرع إلى الجرس) :
إذا أنت مددت يدك، دعوت خدامك.
فرجان :
ويلاه! أبعد الخيانة فضيحة؟! وبعد العار شنار؟!
إرين :
تلك هي نتيجة مبادئك الفاسدة وقوانينك المضحكة، لقد جررتني قسرا إلى الكذب، ثم إلى السقوط، أنت هو المذنب، وأنا لا أغتفر لك جنايتك.
فرجان :
من كان هذا الرجل؟
إرين :
لقد يكون ممن تعرفهم.
فرجان :
قولي، اعترفي، من هو هذا الرجل؟
إرين :
أبدا!
فرجان :
وهل جاء إلى هنا؟
إرين :
إلى مكان قريب من هنا.
فرجان :
أفهم كيف توصلت إلى الاجتماع به.
إرين :
ولا أنا أفهم أيضا.
فرجان :
وهل تكرر اجتماعك به؟
إرين :
ما يهمك هذا؟
فرجان :
أفلا يزال يجتمع بك.
إرين (تحاول إخفاء حزنها) :
لا؛ فإنه ذهب منذ زمان طويل إلى سفر بعيد ولن يعود.
فرجان :
أفلا ترين من الجناية أن يحمل ابن غيري اسمي أنا؟! وأن أكون مكرها على النظر إليه كأنه ولدي؟!
إرين :
هذا ما ورد في الشريعة التي مكنتك من البقاء زوجا لي بالرغم من الأرض والسماء.
فرجان :
ما كنت لأرتاب بعفافك أيتها المرأة، عرفت أنك عدوة لي، ولكن (تخنقه زفراته)
ولكنني ما عرفت أنك امرأة ساقطة لا شرف لها.
إرين :
لكل سلاحه يا سيدي، لقد حاربتني بكل قوتك فحاربتك بكل ضعفي.
فرجان :
لقد كنت أدافع عن حقي الصريح.
إرين :
ولكنك نسيت أن للطبيعة حقوقا أقوى من حقوقك.
فرجان (وقد ظهر اللؤم على وجهه) :
لقد دفعك الغيظ إلى الإقرار، فها أنا ذا محرر من كل واجب نحو ابنك، غير أنني لم أزل صاحب الحق والسلطان عليه، فلسوف أستعمل قوتي .
إرين :
لا، بل أنت أعجز من أن تستعمل سلطانك بعد هذا الاعتراف.
فرجان :
وكيف ذلك أيتها المرأة؟
إرين :
لن يذهب بك اللؤم إلى الانتقام من طفل ضعيف.
فرجان :
ما لي ولضعفه؟!
إرين :
ما أقدمت على الاعتراف إلا لأنني أعتقد بأن ليس على وجه الأرض رجل يدعي التمدن ويغتال الأطفال، مهما تمسك بالشريعة وتعزز بالقوانين.
فرجان :
وإذا أنا جحدت الشرائع والتمدن الآن؟
المشهد السابع (فرجان - إرين - رينه)
إرين :
رينه، يا ألله!
رينه (يتجه راكضا نحو فرجان) :
أفما نذهب إلى التنزه يا أبي؟
فرجان :
اسكت.
إرين (تجتذب ولدها إليها) :
اسكت ... اسكت!
فرجان :
أخرجيه لنتمم حديثنا.
إرين (إلى رينه) :
اذهب وانتظرني عند خالتك.
رينه :
لماذا يبكي أبي، وهو لا يبكي أبدا؟
إرين :
اذهب يا ولدي، اذهب.
رينه :
لماذا لا تبكين الآن، وأنت تبكين دائما؟
إرين :
أواه يا عزيزي! لقد نفدت دموعي. (يخرج رينه.)
المشهد الثامن (إرين - فرجان)
فرجان :
لقد أصبح هذا الولد لك وحدك الآن، فافعلي به ما تريدين، لقد قلت حقا إنني لن أستطيع تعذيبه، وأكاد لا أجد القوة الكافية لقتل محبتي.
إرين :
لا، لن أذهب من هنا.
فرجان :
وكيف يمكنك البقاء؟
إرين :
سأبقى من أجل رينه، فما أرضى بأن أطرد وأهان. إن لهذا الطفل حقا أن يقيم في المجتمع أدبيا وماديا، فهو ابن الشريعة.
فرجان :
سأكرهك على الذهاب.
إرين :
لن تستطيع.
فرجان :
لقد طلبت الطلاق أنت فيما مضى، فها أنا ذا أطلبه اليوم.
إرين :
لقد رفضت أنت أمس، وأنا أرفض اليوم، لم يعد لي من مستقبل، وقد تلاشت آمالي، فأنا أتحاشى كل تغيير وكل جهد، لقد شلت إرادتي، فلسوف أبقى على ما أنا حيث أنا.
فرجان :
أفترضين أن أحتملك احتمالا؟
إرين :
لا برهان لديك غير اعترافي، فعليك أن تحتمل.
فرجان :
وهل أنت منكرة هذا الإقرار؟
إرين :
أتطلب أن أهتف به عاليا أمام الناس، وأشهره على ملأ الأشهاد؟
فرجان (يتنهد ويبكي) :
ولكن كيف أعيش وأنت أمامي؟
إرين :
لقد احتملت هذا فيما مضى، فاحتمله أنت الآن، كلانا مرتبط بالآخر، وما ربطته عماوة الناس لا تقدر قوة على حله، هذه هي الشريعة. لقد شعرت بوقرها طويلا وحدي، وقد آن لك أن تساعدني على حملها.
إرين :
بلى، هناك عدالة، وهي حمل الشقاء بالمساواة.
فرجان :
وما هي هذه المساواة وأنت مجرمة وأنا بريء؟
إرين :
لا بريء ولا مجرم هنا؛ كلانا شقي، وحيث يسود الشقاء تسود المساواة.
Bilinmeyen sayfa