لكنها ظهرت سائغة مدعوة إلى الظهور بدعوة التطور في التفكير والشعور، ثم استحقت الاحتجاب قبل أن تتمكن من الثبات على الأساس الصحيح. وصدقت عليها الفكاهة التي تحدث بها ظرفاء بغداد عن بهلول المجنون، حين قالوا إنه كان يغني بدرهم ويسكت بدرهمين.
فإن المدرسة الرمزية التي وجب ظهورها مرة وجب سكوتها بعد ذلك مرتين، ولم يلبث الفرنسيون أن أطلقوا عليها اسم مدرسة الهبوط والانحدار
Decadents
ولم يظلموها بهذه التسمية الصادقة، لأن شعراءها وكتابها قد جعلوا ديدنهم من الرمز أن يرمزوا إلى كل وضيع خليع، وأن يعتبروا التعمية مطلوبة لذاتها لا لمزية من مزايا التعبير والتقرير. فلو تهيأت لهم للمعنى الواحد عبارتان تؤديانه على السواء لفضلوا الأغمض منهما على الأوضح في غير سبب معقول لهذا التفضيل، بل يفضلون الغموض على الوضوح ولو كان الوضوح أجمل في اللفظ وأقرب إلى البديهة وأثبت في الأفهام.
وما هو إلا أن تلقفوا من الأفواه كلمة عن مذهب فرويد وأقوال العلماء النفسانيين عن «الوعي الباطن» و«اللاوعي» المكنون في أطواء النفس حتى اندفعوا من الرمزية المتطرفة الجامحة إلى رمزية أبعد منها في التطرف والجموح. فنشأت بينهم مدرسة يسمونها بمدرسة ما وراء الواقع، تترجم الرموز بالرموز والألغاز بالألغاز وراجت هذه البدعة الجديدة في عالم التصوير، لأن رواجها في عالم الكتابة والشعر يستلزم جمهورا كاملا من المخبولين والأدعياء، وقلما يجتمع جمهور كامل من هؤلاء، كما يتفق اجتماع الآحاد من طلاب الصور الملفقة بين الأغنياء.
وخلاصة ما وعاه هؤلاء الرمزيون الغلاة من الوعي الباطن أنهم لا يفقهون ما هو الوعي الباطن وما هو الوعي الظاهر على السواء. فإن الوعي الباطن قديم لم تخلقه التسمية الحديثة في كتب العلماء النفسانيين، وقد كان الناس بوعيهم الباطن حين وصفوا ما وصفوه وصوروا ما صوروه من المناظر والضمائر والوجوه، ومن شأن العقل الباطن أن يظل عقلا باطنا حيث خلقه الله، فإن برزت لنا بعض خباياه فليس معنى بروزها أنها تلغي العقل الظاهر وتبطل عمل الحواس وتقلب معالم الأجسام والأشياء، ولا موجب لتمييز المصورين - حاملي القلم أو حاملي الريشة - بالتخمين والتنجيم عن الوعي الباطن أو العقل الباطن لأنهم يستعدون لصناعتهم بمزج الألوان ونقل الأشباه بالتدرب على الكهانة ونقش الطلاسم ووضع الألغاز.
فالرمزية في حدودها المعقولة - ما لم تجعل الدنيا كلها رموزا وكنايات وأطيافا - تعيش في الظلام ولا تعيش في الضياء، وهي ضرورية ما شعر الإنسان بضرورتها في تمثيل الدقائق والأسرار ولكنها تخرج من الضرورة إلى الضرر إذا أصبحت مطلوبة لغير سبب وأصبح شعارها «الرمز للرمز» والغموض للغموض والتلفيق للتلفيق.
وهي على الجملة «خطر» حين تصبح مدرسة قائمة بذاتها لأن الإنسان لا يحتاج إلى مدرسة ليكون إنسانا يعبر باللفظ الصريح حين يتأتى له التعبير باللفظ الصريح، ويعبر بالكناية حين لا تسعفه وسيلة غير وسيلة الكناية. وقد عرف الناس «الاستعارة» في جميع اللغات فلم تكن استعارتهم إلا ضربا من الرموز والتصوير بالكلام، ولم تفسد هذه الاستعارات إلا حين أصبحت فنا مصطنعا وانقطع ما بينها وبين البداهة الصادقة والتخيل السليم.
وكذلك أفاد الرمزيون الفرنسيون حين التزموا هذه الحدود المعقولة ومثلوا ثورة البديهة على غرور العلميين والعقليين، وأطلقوا الشعر الفرنسي والشعر الأوروبي عامة من أوزانه المتحجرة وقيوده العتيقة، ولكنهم لم يقفوا عند ذلك فاستحقوا أن يقال فيهم: إنهم غنوا بدرهم وسكتوا بدرهمين.
المصير
Bilinmeyen sayfa