وهؤلاء الذين ينادون بهدم العصبيات الوطنية ينعون عليها في حالة واحدة، وهي حالة الأمم التي تنهض للاستقلال عن الدولة المسيطرة عليها. أما عصبية القومية الروسية، واللغة الروسية والثقافة الروسية فهي مفروضة على أبنائها، وغير أبنائها من عبيد الكرملين «المتحررين» من ربقة الأسلاف الرجعيين، وقد وقف باجيروف عضو لجنة الحزب خطيبا من الخطباء المقررين في مؤتمره التاسع عشر ليحمد الفرصة السعيدة التي أنقذت المسلمين على أيدي القياصرة بضمهم إلى الحظيرة الروسية الواسعة، ولم ينس أن يقول إنه لا يحمد القياصرة، ولا ينكر مساوئهم، ولكنهم ولا ريب قد يسروا لشعوب المسلمين فرصتها الوحيدة بالدخول في زمرة الروس والاستعداد للتقدم بفضل اللغة الروسية.
إن عداوة الشيوعية للإسلام عداوات متكررة وليست بعداوة واحدة. فإنها تعاديه معاداة الخوف من منافسته في تنظيم المجتمع على قواعده وأحكامه، وتعاديه معاداة الحاكم الروسي للمحكوم المطموع في ماله واستقلاله، وتعاديه أخيرا معاداة الشعور بالخطر والإفلاس على أثر إخفاق التجارب الماركسية واحدة بعد الأخرى خلال السنوات الأخيرة. فقد اعترفت الدولة على كره بحق الملك والتوريث، واعترفت بالفوارق بين الأجور وأحوال المعيشة، واعترفت بفصل الجنسين في معاهد التعليم، واعترفت بالأسرة ومواثيقها، وبالوطنية وقوتها الفعالة في الدفاع عن الأمة والارتفاع بها إلى مطامحها العليا.
في مثل هذه الحالة يشعر الأقطاب الشيوعيون بتقدم الإسلام وتقهقر المادية الماركسية، ويعلمون أن النزاع المقبل إنما هو نزاع بين ما يسمونه «الأيديولوجي» الماركسي والأيديولوجي الإسلامي. إذ ليست الديمقراطية دينا ينازع الشيوعية في ميدانه، وغاية ما يرجى منها أنها دعوة مانعة لسوء الحكم، ومانعة للحجر ومانعة للقيود الجائرة في تقسيم الأعمال والأرزاق، وأما التطبيق «الإيجابي» فليس من رسالة الديمقراطية في عصر من العصور، ولكنه من رسالة الإسلام بغير جدال في هذا الزمن على الخصوص؛ لأنه زمن يتقدم فيه المسلمون، ويتعلمون فيه كيف يطبقون الإصلاح الاجتماعي موفقا بين مطالب المادة ومطالب الروح ومقتضيات العلم الحديث.
ولا هوادة في هذا النزاع. ولا يبغض الشيوعيون بين أمم الشرق الأسيوي نفوذا روحيا أو فكريا أخطر عليهم من نفوذ الإسلام، وعدة أبنائه تناهز في القارة الأسيوية ثلاثمائة مليون.
هذه حرب حياة أو موت، وقد عاش الإسلام وماتت عداوات كثيرة ناصبته الحرب منذ مئات السنين، وسيعيش مئات السنين والشيوعية وأمثالها في خبر كان.
القرم الإسلامية والمذاهب الهدامة
نشأ كارل ماركس إمام الشيوعية من سلالة إسرائيلية، وكان أجداده لأبيه وأمه كهانا متعصبين لعقيدتهم، غالين في رعاية شعائرهم، ولكن أباه ارتد عن دينه إلى المسيحية على غير اعتقاد أو رغبة صادقة في الإيمان بدينه الجديد؛ بل كان ارتداده احتيالا للكسب، وتطلعا إلى الوظائف العامة، ولا شيء غير «الانتهاز» والاتجار بالضمير.
ويتبين من تاريخ المذاهب الهدامة كلها أنها تعتبر هذا الاتجار بالضمائر وسيلة من وسائلها المشروعة لخدمة المطامع الشخصية أو لخدمة السياسة العامة في الدولة، فهي تنادي «بالمادية» وتنكر كل شيء في الوجود غير المادة وتسمي الأديان «أفيون الشعوب» لأنها تبشر بعالم الروح وتخدر شعور الفقراء كما يزعم الشيوعيون، فيتعللون بالنعيم الأبدي ولا يثورون طلبا للنعيم في حياتهم الأرضية!
ولا يهمنا هنا أن نعرض لسخافة الدعوى التي تفسر كل شيء بالمادة وهي - أي المادة - سر غير معروف ولم يره أحد بعينيه كما تقرر في العلم الحديث.
ولا يهمنا كذلك أن نعرض لسخافة القول باختراع الأديان لتخدير الفقراء مع أن الإيمان بالدين بين الأغنياء وأصحاب السلطان لا يقل عن الإيمان به بين الفقراء والمسخرين.
Bilinmeyen sayfa