رجعت إلى التمريض بحزن مضاعف، وتصميم مضاعف، وعلمت أم هاني بحالي، فتطوعت للبقاء مع تحية مدة غيابي. وتردد الطبيب علينا أكثر من مرة، غير أن قلبي انقبض، واستشعر هما قادما.
تساءلت: هل تخلو دنياي من تحية؟ ... هل تحتمل دنياي بلا تحية؟ تمزقت بينها وبين الطفل المتدهور ، قلقت جدا من تسرب النقود من يدي، فماذا هناك لأبيعه أيضا؟ وجعلت أطيل النظر إلى وجهها الشاحب الذابل وكأنما أودعه، وأتذكر عشرتها الجميلة، فتظلم الدنيا في عيني.
وتلقيت النذير الأخير وأنا واقف خارج المسكن؛ كنت عائدا من المسرح، ضغطت على الجرس، سبق إلي صوت أم هاني وهي تجهش في البكاء. لقد أغمضت عيني متلقيا القضاء، فاتحا صدري بأريحية الكرماء للحزن البهيم. •••
عقب أسبوع من وفاة تحية لحق بها طاهر؛ كان ذلك متوقعا، والطبيب تنبأ به ولم يخفه علي. لم تجد الأبوة فرصة طيبة لترسخ في قلبي، وكان بقاؤه المعذب مصدر ألم دائم لي. لم أذكر من تلك الأيام إلا بكاء طارق رمضان. لقد تماسكت أمام الناس بعد أن نفدت دموعي في وحدتي، وإذا بصوت طارق ينفجر في ضجة لفتت إليه أنظار زملائنا في المسرح. تساءلت عن معنى ذلك؟ أكان يحبها ذلك الحيوان الذي نقل تقاليد عشقه المحفوظة إلى بيت أم هاني؟ ... تساءلت عن معنى بكائه لا كأرمل فحسب، ولكن كمؤلف درامي أيضا؛ إذ إن غيبوبة الحزن لم تنسني تطلعاتي الكامنة ...! •••
ها هي الوحدة؛ بيت خال، ولكنه مكتظ بالذكريات والأشباح، قلب مترع بالحزن والإثم. طالعني الواقع بوجه صخري يناجيني بصوت خفي، أن قد تحقق كل ما حلمت به. أريد أن أنسى الحلم ولو بمضاعفة الحزن، غير أن الحزن عندما يغوص حتى يرتطم بالقاع، ترتد منه إشعاعات غريبة ثملة براحة خفيفة. آه ... لعل طارق ضحك ضحكة عميقة خفية واجهت المعزين بإجهاشة الدمع. ها هي الوحدة، ومعها الحزن والصبر والتحدي، أمامي تجربة للتقشف والكبرياء، والانغماس في الفن حتى الموت. شرعت في التخطيط لمسرحية «البيت القديم - الماخور»، حضرتني فجأة ذكرى تحية قوية يانعة بثقل الكائنات الحية. عند ذاك انبثقت فكرة جديدة؛ ليكن البيت القديم هو المكان، ليكن الماخور هو المصير، ليكن الناس هم الناس، ولكن الجوهر سيكون الحلم لا الواقع؛ أيهما الأقوى؟ هو الحلم بلا شك! الواقع أن الشرطة كبست البيت، والمرض قتل تحية وابنها، ولكن ثمة قاتلا آخر هو الحلم؛ الحلم الذي أبلغ الشرطة، هو الذي قتل تحية، هو الذي قتل الطفل. البطل الحقيقي للمسرحية هو الحلم، هو الذي توفرت فيه الشروط الدرامية. بذلك أعترف، وبذلك أكفر، بذلك أكتب مسرحية حقيقة لأول مرة، أتحدى سرحان الهلالي أن يرفضها. سيعتقد هو وغيره أنني أعترف بالواقع السطحي لا الحلم الجوهري، ولكن كل شيء يهون في سبيل الفن، في سبيل التطهير، في سبيل الصراع الواجب على شخص ولد ونشأ في الإثم، وصمم بقوة على الثورة!
وانفعلت بحمى الخلق. •••
ها أنا أذهب إلى سرحان الهلالي في الميعاد المضروب، مضى الشهر الذي حدده لقراءة المسرحية. قلبي يخفق بشدة؛ الرفض هذه المرة خطير، وقد يجرف الصبر. لكنني تلقيت من عينيه بسمة غامضة هزت فؤادي المثقل بالحزن، جلست تلبية لإشارته مستزيدا من التفاؤل، جاءني صوته الجهوري قائلا: أخيرا خلقت مسرحية حقيقية.
وحدجني بنظرة متسائلة، كأنما يقول: من أين لك هذا؟ فتبخرت في تلك اللحظة - ولو إلى حين - همومي جميعا، وشعرت بحرارة التورد في وجهي. قال: رائعة، مرعبة، ناجحة؛ لماذا سميتها «أفراح القبة»؟
فأجبته بحيرة: لا أدري!
فقال ضاحكا في تعال: مكر المؤلفين لا يجوز علي، لعلك تشير إلى الأفراح التي تبارك الصراع الأخلاقي رغم انتشار الحشرات، أو لعله من أسماء الأضواء، كما نسمي الجارية السوداء صباح أو نور!
Bilinmeyen sayfa