Fikirler ve İnsanlar: Batı Düşüncesinin Öyküsü
أفكار ورجال: قصة الفكر الغربي
Türler
كانت ثقافة اليونان في ذروة أيامها أرستقراطية؛ لأن معاييرها من النوع الذي يجده أكثر الرجال - في وضوح وجلاء - مستحيل المحاكاة في المعيشة؛ فليس من السهل - حتى على أولئك الذين ليست بهم حاجة إلى العمل من أجل العيش - أن يحقق المرء الوسط الذهبي في كل أمر من الأمور، وأن يربي الذوق السليم في كثير من الميادين، وأن يحيا حياة متزنة مختلفة الألوان. ولكن هذه الثقافة كانت كذلك أرستقراطية لسبب آخر، وربما كان أعمق من ذلك. كان الإغريقي في عهد الثقافة العظمى على استعداد لأن يقبل العالم بطريقة مشابهة لتلك التي يقبله بها العالم. كان يعمل بالمادة التي يستمدها من خبرته، ويحاول أن ينظمها حتى تشبع حواسه، ولكنه لم يحاول أن يجاوزها، إلا بالمعنى الذي تجاوز به فينوس دي ميلو هذا العالم؛ عالم الخبرة الحسية. لم يكن عنده أمل في خلوده الشخصي، أو عقيدة في إله يهتم بمصيره معنويا، أو مشاعر تقابل تمام المقابلة ما نفهمه من معنى الإحساس بالذنب، بالرغم مما كان لديه من آراء واضحة عن الحق والباطل.
وإذا أردنا أن نعبر عن ذلك تعبيرا بسيطا قلنا إنه ينشد السعادة فيما لديه من عالم الخبرة المحسوسة. وهو لا يستطيع أن يستعيض إحساسا بإحساس، أو أن يسمو بمشاعره، ولا يستطيع أن يظفر باحترامه لنفسه بطريقة غير الطريقة المباشرة، وهو لا يستطيع أن يكتسب القوة والعزاء من أكثر الوسائل التي تربطها بالدين. نعم كانت لديه وطنية المدينة الحكومية، في العصر العظيم، تسمو به، ولكنا سوف نرى بعد حين أن هذا المعين لم يشف غلته. قل من الناس من يستطيع أن يبذل الجهد الروحي (وقد يكون بطبيعة الحال جهدا غير موفق) الذي يتطلبه المرء لكي يقبل هذا العالم الصارم في بساطة كما قبله الإغريق في عصرهم الذهبي.
الفصل الثالث
أزمة الثقافة الإغريقية
في الذكرى السنوية الأولى للحرب العظمى بين أثينا وإسبرطة (عام 431ق.م) ألقى بركليز قائد أثينا - الذي انتخب انتخابا ديمقراطيا - خطابا في الصلاة التذكارية التي أقيمت للأثينيين الذين ماتوا في العام الأول من القتال. وهذا الخطاب في ذكرى الموتى - كما رواه المؤرخ ثيوسيديد - تقويم بليغ أكيد لعظمة أثينا، قال:
إننا نسمي دستورنا ديمقراطيا؛ لأنه في أيدي الكثرة دون القلة، ولكن قوانينا تكفل المساواة في العدل للجميع في منازعاتهم الخاصة. والرأي العام عندنا يرحب - ويكرم - بالموهبة في كل ناحية من نواحي العمل، يرحب بها، لا من أجل سبب طائفي، ولكن من أجل الإتقان وحده ... ولكن مدينتنا برغم هذا ليست مدينة عمل يومي فحسب؛ فليست هناك مدينة أخرى تمد مثلها للروح أسبابا للترفيه متنوعة - من مباريات وتضحيات طوال العام، وجمال منشآتنا العامة - تحيي القلب وتسر العين يوما بعد يوم ... نحن نعشق الجمال بغير إسراف، ونعشق الحكمة - دون أن نفقد الرجولة. والثروة عندنا ليست مجرد مادة للتفاخر، وإنما هي فرصة من فرص الإنتاج. وليس الفقر عندنا عارا نشهر به، ولكنه حطة ينبغي أن يعمل المرء للتغلب عليها. ونحن نظفر بالأصدقاء لا عن طريق تقبل المعروف، ولكن عن طريق أدائه. ومن ثم فنحن بالطبيعة أشد ثباتا في صلاتنا؛ لأننا مشغوفون - باعتبارنا أصحاب فضل - أن نوثق بالعمل الطيب علاقاتنا إزاء الأصدقاء. فإذا لم يستجيبوا بمثل هذه الحرارة، فذلك لأنهم يحسون أن خدماتهم لن تؤدى تلقائيا، وإنما تؤدى وفاء لدين. ونحن وحدنا بين البشر من يؤدي لغيره المنفعة لا لحساب مصلحة خاصة، ولكن ثقة قوية منا بالحرية. وأنا أزعم في إيجاز أن مدينتنا هي في جملتها تربية للإغريق، وأن كل فرد من أعضائها لا يلي غيره في استقلال الروح، وتنوع الإنتاج، والاعتماد الكامل على النفس في الذهن والأطراف.
ويستشف الأمريكان في هذا الخطاب نغما مألوفا؛ فهو خطاب مليء بالثقة والأمل، يؤكد أن لأثينا رسالة، وهي أن ترفع العالم إلى مرتبة النجاح العظمى التي بلغتها، وهو خطاب يشيد بقيمة اللحظة الحاضرة والمكان الحالي، وبما تقتضيه حياة العمل، الحياة الطيبة، من ضروب للنشاط والكفاح. ولكنا لو فرضنا أن طفلا قد ولد عندما ألقي هذا الخطاب، ثم عاش حتى سن الشيخوخة المتأخرة الممكنة، لرأى أثينا مهزومة في الحرب، محرومة من استقلالها، وهي وإن تكن ناجحة من الناحية المادية، إلا أنها فريسة للنزاع المستمر بين الطبقات والأحزاب، بحيث لم تعد قادرة على أن تنتج ثقافة عظمى في أي ميدان، وتكاد تكون عاجزة عن الاحتفاظ بمثل هذه الثقافة.
إن المشكلات التي تدور حول ما يمكن أن نسميه في مجاز لا يضللنا ميلاد الثقافة وحياتها وموتها؛ هي مشكلات أساسية في أية دراسة لتاريخ الفكر. لماذا لم تعد أثينا هي أثينا في عهد بركليز؟ إن الأثينيين لم يصابوا بالفناء، كما أن الحشائش لم تنم في طرقات المدينة - إلا بعد عدة قرون على الأقل. والجماعة ، أو المجتمع، ما دامت متماسكة على أية صورة من الصور، هي جماعة خالدة بمعنى ما. والتدهور البيولوجي، ومجرد الانحلال المادي، لأية سلالة من السلالات، يستغرق وقتا طويلا نسبيا. ومع ذلك فليس هناك ما هو أشد تأكيدا من أن كل الجماعات، وكل ضروب المجتمعات قد نهضت، وانتعشت، وماتت خلال الفترة التي تربو على خمسة آلاف عام من تاريخ العرب المسطور. ولا يستطيع أن يكتب رواية مستقيمة، وأن يتحاشى كلية تصور تاريخ الجماعات التي يدرسها في إطار الارتفاع والسقوط، وفي دورة الربيع والصيف، والخريف والشتاء، دورة الموت، والشباب، والنضج، والشيخوخة، والموت. لا يستطيع ذلك إلا المؤرخ الذي يعوزه الخيال.
كان أسلافنا واثقين - وهم على حق - أنهم بلغوا ثقافة لن تتحول إلا في طريق التقدم، ولن تنهار، وسنعود في فصل متأخر من هذا الكتاب إلى هذا المذهب المعروف؛ مذهب التقدم. بيد أن حربين عالميتين قد حدتا بالكثيرين - وبخاصة في بلاد مثل فرنسا وألمانيا - إلى أن يدركوا أن بلادهم قد تأخرت بالفعل في أثناء حياتهم، على الأقل من بعض الوجوه التي يمكن قياسها إحصائيا كالسكان والثروة الحقيقية. وإذن فمشكلة تدهور الجماعات البشرية التي كانت في وقت من الأوقات ثابتة، ناجحة، موفقة - الجماعات التي كانت في وقت ما في الحالة التي وصفها بركليز في خطابه الشهير - هي مشكلة تبدو اليوم واقعية، حتى بالنسبة إلينا نحن الأمريكيين، بصورة لم تكن ممكنة لآبائنا.
ولكن مشكلة ارتفاع المجتمعات البشرية وسقوطها لم تحل بعد، وقد تكون أعقد من أن تحل - أقصد أن تحل بمعنى أن تتمكن الكائنات البشرية من أن تقوم بعمل يحول دون تدهور المجتمعات، بالمعنى الذي نفهمه من حل مشكلة أسباب الدرن بحيث نستطيع أن نقترب بدرجة ملحوظة من القضاء على الدرن نهائيا. غير أن التقليد الطويل في مجتمعنا الغربي، وهو تقليد نابع إلى حد ما من هؤلاء الأثينيين أنفسهم، تقليد مجرد وجوده يدل على أن الجماعات التي تشبه أثينا في عهد بركليز، والثقافات التي تشبه ثقافة الإغريق الكلاسيكية، لن يدركها الفناء الشامل بمعنى من المعاني - وهذا التقليد يسوقنا إلى أن نحاول إدراك العمليات الاجتماعية كي نوجهها أو نسيطر عليها.
Bilinmeyen sayfa