وإذن فمن لا يكشف عن حقيقة نفسه فيما يبدعه من أدب أو من فن، كان غير ذي أسلوب. ولقد عادت إلى ذاكرتي الآن هذه القصة كلها، فتأملتها، ثم لم ألبث أن اتسعت أمامي رقعة المعاني المتلاحقة المترابطة، فقلت:
إننا في هذه المرحلة التاريخية التي تجتازها الأمة العربية، لفي أشد الحاجة إلى من يحلل لنا أصولنا الفكرية والأدبية والفنية، ليكشف لنا عن «أسلوبها»؛ أي ليكشف لنا عن جوهرها الكامن وراء ستائر التبصير المختلفة؛ فليس الأسلوب بمعناه الحقيقي الذي ذكرناه، بمقصور على أسلوب الكاتب الفرد أو الفنان الفرد. لا، بل ليست هذه الأساليب الفردية بذات خطر كبير. وإنما الأهم هو أن نعثر على الأسلوب العربي في عمومه؛ أسلوب الحياة، وأسلوب الثقافة، وأسلوب الحضارة، بالإضافة إلى الأسلوب الفني العام، بغض النظر عن خصائص الأفراد المبدعين، أو خصائص المجالات المختلفة في دنيا الفكر والفن.
وما ذلك الأسلوب العام الشامل إلا لعناصر ثبتت على الأيام؛ فلكل أمة جوانب تتغير مع موجات الزمن المتلاحقة، لكن لكل أمة كذلك من الركائز ما يثبت كأنه الطود الراسخ. فإذا وجدنا تلك الشوائب في الرؤية العربية، وجدنا بالتالي أسلوب العربي في وقفته من الكون ومن الإنسان.
فلقد يتعدد ويتنوع النتاج الحضاري والثقافي عند أمة عريقة كالأمة العربية، لكن الناقد البصير، يستطيع أن يلتمس خلال ذلك التعدد والتنوع، خيطا رابطا، فإذا ما وقع عليه، كان هو أسلوب الأمة في فاعليتها العقلية والوجدانية. وإننا نختصر زمن النهوض إذا نحن قدمنا للجيل الراهن من شبابنا حقيقة الأسلوب العربي في كل مناحي حياته. وعندئذ فقط لنا أن نتوقع من الموهوبين أن يقيموا بناءاتهم الفكرية والفنية على ذلك «الأسلوب» دون تكرار للموضوعات والمضمونات التي جاءت على ألسنة الأقدمين وأقلامهم وسائر مبدعاتهم في دنيا الثقافة والحضارة.
الأسلوب هو صاحبه - كما يقول الإنجليز - أي إنك إذا عرفت لأحد من الناس، أو لأمة من الأمم، أسلوبها في العيش وفي الصناعة وفي الابتكار ... إلخ، عرفت حقيقته؛ لأنه لا فرق بين الجانبين؛ فقد قال سقراط ذات مرة لرجل جلس مع سائر من أحاطوا بالفيلسوف، لكنه جلس صامتا، فقال له سقراط: كلمني يا هذا لكي أراك! وها هم أسلافنا قد تكلموا وتكلموا، وكلامهم مثبت في الصحائف. فلم يبق علينا نحن الأخلاف المعاصرين إلا أن نراهم من خلال ما قالوا وما صنعوا.
ديمقراطية الثقافة
الغموض في حياتنا الثقافية ضارب بسحبه الدكناء؛ فالرؤية مبهمة وشعاب الطريق أمامنا يختلط بعضها ببعض. ولا غرابة أن تتعثر الخطى ويتلكأ السير. وحتى الأفكار الرئيسية الكبرى، التي على هداها ترسم مخططات التنفيذ، قلما نظفر منها ولو بقليل من تحديد معانيها وتمييز معالمها. ونسوق في هذه الكلمة مثلا مما تجري به الألسنة بين قادة الحركة الثقافية في الوطن العربي عن «ديمقراطية الثقافة» ووجوبها.
فالغموض هنا غموض مركب، فلا «الديمقراطية» موحدة المعنى بين من يستعملون هذه الكلمة في مجالات الحياة المختلفة، ولا «الثقافة» محدودة التعريف في جميع استعمالاتها؛ فينتج عن ذلك أن تجيء عبارة «ديمقراطية الثقافة» في درجة غموضها حاصلا لضرب الغموضين. ومع هذا الغموض كله لم نجد أحدا ممن يعنون فينا بالتخطيط للثقافة العربية، يتردد ولو للحظة قصيرة، حتى تتبين له معالم المعنى.
ولهذا نقع في مفارقات كثيرة، أقل ما يقال فيها، إنها تحد من سرعة السير؛ فنحن نخلط هنا خلطا خطيرا بين معنيين؛ أحدهما هو الديمقراطية بمعنى المساواة الكاملة بين الأفراد، والثاني هو الديمقراطية بمعنى المساواة في «الفرص» المتاحة للجميع. فإذا أخذنا بالمعنى الأول في دنيا الثقافة، نتج لنا الرأي العجيب الذي يأخذ به كثيرون مضللون مع الأسف العميق، وهو أن يراعي في الإنتاج الثقافي أن يكون «للشعب». ومؤدى ذلك ألا يبدع المبدعون شيئا في الأدب أو الفن، إلا إذا كان في متناول أفهام الجماهير، أو - على الأقل - واضح وفاضح، لكنه برغم ذلك خلط شائع.
وأما إذا أخذنا بالمعنى الثاني، الذي هو أن تكون المساواة المطلوبة مساواة في الفرص المتاحة، نتج عن ذلك - في نهاية الأمر - أن تكون لكل درجة من درجات السلم الثقافي في أبناء الشعب ثقافتها التي تلائمها. فلا بد أن نقدم للشريحة العليا طعامها الفكري والفني، بنفس الضرورة التي نقدم بها للقاعدة العريضة من أبناء الشعب طعامها. لا، بل إني لأجازف فأقول إنه لو كان لإحدى المجموعتين أولوية منطقية على الأخرى، لكانت الأولوية لأفراد الذروة العليا في الحياة الثقافية؛ لأنهم هم الذين يعودون فينقلون تحصيلهم إلى من هم دونهم درجة أو درجات. وإلا فمن الذي يكتب الكتب، أو يذيع في الراديو والتلفزيون، موجها كتابته أو إذاعته لعامة الشعب، أو للأطفال أو لربات البيوت، ولغير هؤلاء وأولئك، إلا من الذي يكتب الكتب، أو يذيع في الراديو والتلفزيون، موجها كتابته أو إذاعته لعامة الشعب، أو للأطفال أو لربات البيوت، ولغير هؤلاء وأولئك، إلا من هم أقدر على العطاء الفكري؟
Bilinmeyen sayfa