ما الذي دفع أبناء تلك الفترة، أن يأكلوا آباءهم، إذا استخدمنا التصور الفرويدي الذي أسلفناه؟ ظني هو أنه - بين عوامل تاريخية أخرى - حين وجد معظم الأفراد أن ليس لهم أدوار اجتماعية يؤدونها على سبيل المبادأة والأصالة والإبداع، ورأوا أنفسهم أقرب إلى أدوات صماء تنفذ ما يراد منهم أن يؤدوه، عزت عليهم أنفسهم، فأوجدوا لأنفسهم تلك منافذ تحقق فردياتهم المكتومة، ولكنها موجة جاءت فغمرت، وواضح أنها في سبيلها إلى السكون المنتج الفعال.
على أن ما نلحظه اليوم ونخشاه، هو أن بندول الحياة الثقافية على وجه التعميم الذي لا يخلو من استثناءات هنا وهناك، عندما زحزح من موقعه المتطرف نحو التمرد، لم يقف عند نقطة الاعتدال، بل تأرجح إلى الطرف النقيض، واعتصم هناك بحصن يريد به أن يشد الناس إلى الوراء. فاعجب ما شاء لك العجب لشباب يرفضون الحاضر، لا ليقفزوا إلى المستقبل قفزا يتناسب مع فتوة الشباب وأمله، بل ليكر راجعا إلى ركن من الماضي يحتمي به! لولا أن ثمة في أفق حياتنا دلائل كثيرة تدل على أن ذلك البندول في طريقه إلى التوسط العاقل، وعندئذ يعتدل بنا الميزان.
ولادة عصر جديد!
قضى التاريخ على هذا القرن العشرين، أن يجيء مرحلة وسطى يتحول فيها الناس من حضارة كانت قد استقرت على قوائمها، إلى حضارة أخرى، تريد بدورها أن تستقر على قوائم، أو - إن شئت مزيدا من دقة التعبير - قل إنهما رؤيتان مختلفتان في حضارة واحدة؛ إحداهما شهدت ذروتها في أوروبا خلال القرن الماضي، ويرجى للأخرى أن تتم ولادتها في القرن الآتي (الحادي والعشرين). وأما هذا القرن الذي نحن فيه، فهو همزة الوصل بين الحالتين، فإذا كان له حسنة تذكر، فهي أنه هو الذي احتمل آلام المخاض تمهيدا لقدوم وليد جديد.
كان القرن الماضي هو الذي بذر البذور. وسيكون القرن الآتي هو الذي يحصد الثمار. وأما المرحلة الوسطى، التي هي الشجرة في نمائها وعنائها، فقد كانت نصيبنا نحن - أبناء القرن العشرين - ففي القرن الماضي ظهرت طائفة من الأفكار العظيمة، التي سوف تكون بذورا وجذورا للحياة الجديدة؛ فلا يكاد عصرنا الحالي يضيف من عنده إلى تلك الأفكار الكبرى فكرة واحدة؛ ولذلك فقد انحصرت مهمته في الفهم والهضم والشرح والتحليل، وأحيانا قليلة في المعارضة والتعديل، ثم في محاولات التطبيق؛ ففي منتصف القرن الماضي ظهر دارون بفكرة التطور البيولوجي، وظهر في الوقت نفسه تقريبا ماركس بفكرة التطور المادي للتاريخ، وبعدهما بقليل ظهر فرويد بفكرته عن اللاشعور. وجنبا إلى جنب مع تلك الأفكار ظهرت رياضة جديدة كادت أن تنسف أسس العلم الرياضي كما عرفته الدنيا منذ إقليدس. كما ظهر في العلوم الطبيعية منهج جديد يختلف اختلافا بعيدا عن كل ما ألفته تلك العلوم من قبل، ألا وهو منهج البحث بالأجهزة الدقيقة «التكنولوجيا». فما هي إلا أن انكشفت طبيعة الوحدات الصغرى، كالذرة، والخلية، فانفتح الطريق أمام رؤية جديدة للكون، هي الرؤية التي تبلورت في نظرية النسبية التي قدمها أينشتين، فنتج عن هذا كله ما نتج مما نعيش الآن في مناخه وتحت سمائه.
تلك هي البذور التي بذرها علماء القرن الماضي، والتي كتب على عصرنا أن يتولى فهمها وهضمها وتطبيقها، وربما قدم لها تعديلات هنا وهناك. وكان لا بد أن تحدث تحولات في رؤية الإنسان، وفي طرائق عيشه بناء على ذلك العلم الجديد. ولو كانت تلك التحولات مقصورة على مستوى العلماء وحدهم، يتناقشون ويتجادلون، لذهبت الموجة في غفلة من جمهور الناس، لكنها كانت تحولات تناولت صميم الحياة العملية، مما استتبع حتما أن يتغير شيء من القيم والعرف؛ وبالتالي لم يكن بد من حروب وثورات ليتحقق الشمول على أرض الواقع، في البيت والشارع، والمزرعة، والمصنع.
جاءت حياتنا - على امتداد ما مضى من القرن العشرين - مضطربة الموج، مهتزة المعايير، لا نكاد نميز الفوارق الفاصلة بين ما هو خطأ وما هو صواب في أي شيء؛ فليس يدري أحد على وجه اليقين الثابت كيف يكون نظام الحكم، بحيث نضمن للسفينة أن تسير بمنجاة من العواصف والصخور. وحتى في البلاد التي رسخت جذورها في استقلالها بحكم نفسها، والتي لم تكن تتعرض لزلازل الثورات والانقلابات، ظهر فيها إبان هذا العصر الراهن ما قلقل بنيانها الراسخ؛ لأن تحولا جديدا طرأ عليها وعلى الدنيا بأسرها ، وهو أن يأخذ العمال بنصيب في حكم بلادهم، بعد أن لم تكن فكرة كهذه تخطر بالبال منذ أن كانت في الدنيا حكومات! فعلى أية صورة، وإلى أي حد ينال العمال هذا الحق العادل المشروع؟ إجابات كثيرة مختلفة تسمعها من أقطار الأرض.
وكذلك لا يدري أحد دراية اليقين الثابت، كيف يكون التعليم الذي يضمن لكل فرد حقه، ويضمن في الوقت نفسه للمجتمع تقدمه في ظروف الحياة الحاضرة. إننا لمعذورون إذا كنا نبني في نظم التعليم اليوم ما نهدمه غدا، ونهدم اليوم ما أقمناه بالأمس؛ فالتحولات سريعة وجارفة، والأفكار متقلبة متغيرة بعد أن كان العالم طوال العصور ثابتا وعلى رأي معين محدد في التعليم، خلاصته أن هناك مادة علمية موجودة بين أيدينا، وعلينا أن نصبها في رءوس الدارسين، وليس لهؤلاء الدارسين إلا أن يتقبلوا ما يتلقونه، راضين أو ساخطين! فجاء عصرنا هذا - عصر التحولات - ليسأل: وأين تذهب بشخصية الدارس نفسه؟ لماذا لا تكون تنمية هذه الشخصية هي الأساس الذي تتكيف له مقررات التعليم، بدل أن نجعل الأولوية لتلك المقررات، وافقت شخصية الدارس أم لم توافق؟ وما زال العالم يتخبط بين هذين المحورين.
كلا، ولا يدري أحد على وجه اليقين الثابت على أية صورة مثلى نصب حياتنا الاقتصادية، بحيث نستوثق من صيانة حقوق الأفراد كما ألفناها، ونضمن في الوقت نفسه اطراد النمو للمجتمع في جملته. هنا أيضا تأتيك الإجابات المتعارضة، بل إن البلد الواحد ليتذبذب في الرأي يوما بعد يوم. وهكذا، وهكذا تجري سفينة عصرنا على موج يعلو بها ويهبط، لأنه عصر التحولات.
وحياتنا في مصر إبان مرحلة التحولات هذه، ملأى بأمثلة تبين مقدار ما تتعرض له من غموض الرؤية، بسبب اختراقنا لمنطقة الضباب الحضاري، التي يخترقها العالم كله بين مرحلة ذهب زمانها، ومرحلة ينتظر لها أن تجيء. إنني أذكر جيدا ذلك الصديق الذي قابلني يوما منذ نحو ثلاثين عاما، وكنا صنوين على طريق العمر، وعلى طريق الدراسة كذلك ، لكنه كان أنفذ مني بصيرة بطبيعة الفترة التي نجتازها. وأخذنا نتحدث طويلا وعميقا عن أفضل أساليب العيش في زماننا هذا. وكنت أنا ممن يأخذون بضرورة أن يصعد الصاعدون سلم الحياة درجة درجة، ومع كل درجة ينبغي للصاعد أن يؤهل نفسه بما يبرر له ذلك الصعود. وأما صديقي فكان رأيه أن هذا الذي أقوله عن الصعود المتأني لا يجوز إلا في زمان استقرت فيه المعايير، وما دام عصرنا تموج من تحته الأرض وتميد، فلا ثبات ولا استقرار. إذن فلمن يستطيع كل الحق في أن يقفز طيرانا من أسفل السلم إلى أعلاه، دون أن تطأ قدماه مراحل الصعود الجزئية ليعرف مذاقها. ولقد كان لكلينا - صديقي وأنا - أن عاش وفق رأيه، فطار صديقي على قمم الجبال في حياتنا طيران الصقور، جزاء رؤيته الصادقة لطبيعة عصره، وزحفت أنا على أديم الأرض زحف السلاحف، ولكن لعله أدوم بقاء.
Bilinmeyen sayfa