8
وإذن فما يقوم به العالم عند وضعه قانونا طبيعيا هو أن يدرس مجموعة من الظواهر، ويصنفها ويحللها ويكشف العلاقات والتعاقبات بينها، ثم يصف أكبر عدد منها بأبسط طريقة ممكنة؛ ومن هنا كان من الخطأ الفادح أن نتحدث عن القانون العلمي وكأنه «يحكم» الطبيعة؛ إذ هو لا يعدو أن يكون «وصفا» للمجرى العادي لإدراكاتنا لا «تفسيرا» لها. (5) فكرة العلية
تقتصر مهمة القانون في معناه العلمي - عند بيرسن - على وصف تعاقبات الإدراكات الحسية عن طريق اختزال ذهني، ولما كان العلم يقتصر على الوصف، ولا يفسر شيئا، فمن الطبيعي ألا ننتظر منه تعليلا للترتيب الذي تحدث به هذه الإدراكات، أو إيضاحا لعلة تكرار هذا الترتيب، وبعبارة أخرى: فليس من مهمة العلم أن يضفي الضرورة على تعاقب انطباعاتنا الحسية؛ وعلى ذلك فإن ما يسمى بالعلية ليس إلا ملاحظة حدوث تعاقب معين وتكرار حدوثه في الماضي. أما أن هذا التعاقب سيستمر في المستقبل، فهذا ما يستحيل أن نجزم به، وإنما موضوع للاعتقاد أو الإيمان نعبر عنه بمفهوم «الاحتمال». وليس في وسع العلم مطلقا أن يبرهن على وجود أية ضرورة كامنة في التعاقب، أو أن يثبت بأي يقين مطلق أن من الضروري تكرار هذا التعاقب فيما بعد؛ فالعلم بالنسبة إلى الماضي وصف، وبالنسبة إلى المستقبل اعتقاد.
9
ومع ذلك فإن للعلية مفهوما شعبيا يشيع بين الناس، ويرتكز على ملاحظة قدرتنا على إحداث أمور معينة بإرادتنا، مثل رفع الحجر باليد عندما نريد ذلك؛ فالحوادث التي تتعاقب في هذه الحالة تبدو راجعة إلى فعل خاص أقوم به وأحدثه وأسببه؛ أي إن قوتي هي التي أدت إلى حدوث هذا التعاقب، وحتى لو سقط الحجر من يدي وكسر النافذة، فإن الفهم الشعبي لفكرة العلية يحكم في هذه الحالة بأن سبب هذا الكسر هو الحجر المتحرك؛ بحيث يظل لفكرة الإرغام أو الإجبار دور في هذه الحالة أيضا، مع أن كل ما يمكن قوله من وجهة النظر العلمية هو أن جزئيات الحجر كانت تتحرك بطريقة معينة نحو جزئيات الزجاج، وبعد اصطدامها بها أصبحت نفس الجزئيات تتحرك بطريقة مختلفة كل الاختلاف، وإذا كان في وسعنا أن نصف طريقة حدوث هذا التغير، فليس في استطاعتنا أن نقرر «لماذا» حدث، وأي إقحام لفكرة الضرورة أو القوة يقضي تماما على الطابع العلمي لأحكامنا. ومع ذلك فإن تاريخ الفلسفة حافل بأمثلة هذا الفهم الباطل الذي يخلط بين المفهومين الشعبي والعلمي للعلية، فأرسطو حين يعجز عن تعليل حدوث الحركة في البداية، يدخل فكرة المحرك الأول، ويستمر هذا الخلط حتى القرن التاسع عشر، حين نجد فيلسوفا مثل شوبنهور يجعل من الإرادة مبدأ كونيا، «ويضع الإرادة من وراء جميع مظاهر الكون، تماما كما يفعل البدائي الذي يفترض وجود إرادة إله العواصف من وراء كل عاصفة.»
10
على أنه ليس يكفي أن نقرر أن الخلط ظل سائدا في فهم الأذهان لفكرة العلية منذ أقدم العصور حتى عصرنا الحالي، وإنما الواجب أن نبحث عن تعليل لهذا الخلط المتأصل في النفوس، والتعليل الذي يأخذ به بيرسن هو التعليل العملي: ففكرة العلية - في معناها الشعبي الشائع بين الناس - راجعة أساسا إلى اعتبارات عملية تجعل من المحتم على الكائن المفكر أن يفضي اطرادا ضروريا على تعاقب إدراكاته؛ فالأصل في فكرة العلية كما تشيع في الأذهان، هو إذن ضرورة عملية نعمل على تجسيمها في صورة ضرورة موجودة في الأشياء ذاتها، وتبلغ هذه الضرورة العلمية حدا يستحيل معه أن نفهم بعقولنا عالما يفتقر إلى مفهومي العلة والمعلول،
11
ومع ذلك فإن هذا النظام المطرد بأسره ليس إلا مسألة تجربة، واعتقادنا به ليس في حقيقته إلا اقتناعا مبنيا على الاحتمال.
أما الفهم العلمي لفكرة العلية عند بيرسن فإنه يتفق إلى حد بعيد مع تصور جون استورت مل القائل: إن العلة هي السابق المطرد
Bilinmeyen sayfa