وينبغي علينا في هذا المجال أن نبدي اهتماما خاصا بعلم الطب، فقد عالج العرب هذا العلم بحماسة بالغة، وهنا أيضا نجدهم، مع تعلقهم بالتراث اليوناني، يعملون بروح مستقلة ميالة إلى الملاحظة الدقيقة، ويضعون بوجه خاص مذهبا في الحياة يرتبط ارتباطا وثيقا بمشكلات المادية. وهكذا استطاع الحس المرهف لدى العرب أن يدرس الإنسان، فضلا عن عالم الحيوان والنبات - والطبيعة العضوية بأسرها على نحو لا يقتصر على استقصاء خصائص الموضوع المعطى، وإنما يتتبع تطوره وكونه وفساده؛ أعني نفس المجالات التي كانت النظرية الصوفية في الحياة تجد فيها دعامة لها.
ولقد سمعنا جميعا عن ظهور مدارس طبية قديمة العهد في المناطق الجنوبية من إيطاليا، حيث كان الاختلاط قويا بين العرب وبين العناصر المسيحية المثقفة؛ ففي «مونتي كاسينو» - ومن بعدها في ساليرنو ونابولي - ظهرت تلك المدارس الطبية الشهيرة، التي كان طلاب العلم يتقاطرون عليها من جميع أرجاء العالم الغربي.
ولنلاحظ أن هذا الإقليم ذاته هو الذي شهد أول ظهور لروح الحرية في أوروبا، وهي الروح التي يتعين علينا ألا نخلط بينها وبين المادية الكاملة، وإن تكن وثيقة الصلة بها على أية حال؛ ذلك لأن هذه المنطقة من أرض جنوب إيطاليا - ولا سيما صقلية - التي يبلغ فيها التعصب المجنون والخرافة العمياء أقصى مداهما في أيامنا هذه. وكانت في ذلك الوقت كعبة العقول المستنيرة ومهدا لفكرة التسامح.
فإذا عدنا إلى العلوم الطبيعية عند العرب، لكان لزاما علينا - في الختام - أن نقتبس عبارة همبولت
Humboldt
الجريئة، التي يقول فيها: إن العرب ينبغي أن يعدوا المؤسسين الحقيقيين للعلوم الفيزيائية «بالمعنى الذي نعتاد اليوم استخدام هذا اللفظ به»؛ فالتجربة والقياس
measurement
هما الأداتان الهائلتان اللتان شق بهما العرب طريق التقدم، وارتفعوا إلى مكانة تقع بين ما أنجزه اليونانيون في فترتهم الاستقرائية القصيرة، وما أنجزته العلوم الطبيعية في العصر الحديث. (من الجزء الأول، ص177-184)
أركان العلم لكارل بيرسن
تقديم
Bilinmeyen sayfa