إن القول بأن المعرفة عند ديكارت متكاملة، بأن الميتافيزيقا تكون أساسا ضروريا لبناء المعرفة الموحد، لا يكفي في ذاته لإثبات الدور الإيجابي الذي تقوم به الميتافيزيقا في بناء العلم، فقد تكون الميتافيزيقا أساسا ضروريا، تقدم إلى العلم مبادئه الأولى، ثم تتركه بعد ذلك وشأنه. ولكن حقيقة الأمر هي أن الميتافيزيقا تظل - عند ديكارت - تمارس فاعليتها إيجابيا في جميع مراحل المعرفة العلمية، وتظل جذورها تقدم إلى العلم عصارتها التي تعطيه القدرة على البقاء والنماء، وهذه الحقيقة لا تتضح إلا إذا أدركنا طبيعة المنهج الذي كان ديكارت يدعو إلى اكتسابه في تحصيل العلوم.
إن هناك حقائق معروفة عن منهج ديكارت، تحشد بها الكتب رائعة، ولا نجد ما يدعونا إلى تكرارها، وكلها تدور حول اتخاذه الرياضة نموذجا لكل معرفة نود أن تكون يقينية، فديكارت واحد من ذلك الصف الطويل من الفلاسفة الذين افتتنوا بالدقة الرياضية، وحاولوا أن يحاكوها في سائر مجالات المعرفة، بدءا من أفلاطون مرورا باسبينوزا وليبنتس وكانت وانتهاء إلى هوسرل. ولكن الأمر الذي يلفت النظر عند ديكارت هو أنه حاول - في عصر كان فيه العلم التجريبي قد بدا يثبت وجوده، وبدأت نتائجه المثمرة تظهر للعيان - أن يقيم بناء شاملا لعلم فيزيائي يعتمد أساسا على المنهج الذي أثبت نجاحه في الرياضيات وهو الاستنباط، والاستنباط بطبيعته عملية عقلية؛ ومن ثم فإن أي علم فيزيائي يبنى عليه لا بد أن تكون أسسه مخالفة للعلم التجريبي. صحيح أن العلم التجريبي يلجأ إلى الرياضة في صياغة قوانينه. ولكنه لا يكتفي بالرياضة وحدها، وإنما يعتمد على المشاهدات والتجارب وتكوين الفروض. وهكذا ما كان يقوم به جاليليو في أبحاثه التي سبقت ديكارت زمنيا ثم عاصرته فترة ما. أما ديكارت فكان يعتقد بأن العقل وحده قادر - عن طريق الاستنباط - على أن يشيد بناء الفيزياء كاملا، ومثل هذه الطريقة في إقامة العلم الفيزيائي لا بد أن يكون للميتافيزيقا فيها دور رئيسي.
ذلك لأن الاستنباط، عند ديكارت، يبدأ من مجموعة قليلة من المبادئ ذات اليقين المطلق، ويقوم العقل بتوسيع هذه المبادئ تدريجيا، مع مراعاة الاحتفاظ بيقينها المطلق في كل خطوة، حتى يمتد بها إلى أوسع آفاق المعرفة، ومن طبيعة هذه المبادئ التي تتخذ نقطة انطلاق أنها ميتافيزيقية، ومعنى ذلك أن هناك خطا واحدا متصلا، يبدأ بالميتافيزيقا وينتهي إلى الفيزياء، وتكون واسطة الانتقال بين كل مراحله هي الاستنباط، وعلى هذا النحو يقيم ديكارت علما فيزيائيا مرتكزا، لا على تجارب أو مشاهدات، بل على مبادئ ميتافيزيقية قبلية تعبر عن حقائق أزلية، ويستحيل فهم الفيزياء عنده منفصلة عن مبرراتها ونقاط ارتكازها الميتافيزيقية.
ولا شك في أن منهج ديكارت هذا يظل مختلفا عن مناهج العصور الوسطى؛ لأن الأسس الرياضية التي يتمسك بها ترتكز كلها على فكرة «الوضوح»، وهي فكرة كان يفتقر إليها تفكير المدرسيين الذي كان مغرقا في الغموض، ولم يكن يكترث بمناقشة المقدمات التي يرتكز عليها مناقشة نقدية، ومن جهة أخرى فقد كان ديكارت يسعى دائما إلى أن يكشف بمنهجه حقائق جديدة، فقيمة الاستنباط عنده تكمن في أنه يتيح توسيع نطاق المعرفة إلى آفاق جديدة لم تكن معروفة من قبل، على حين أن المنهج الذي كان سائدا عند المدرسيين كان يقتصر على قياس كل حالة تصادفنا بمبدأ عام معروف من قبل؛ ومن ثم فلا مجال فيه للتوسع أو التجديد.
وبرغم هذه الفوارق فإن منهج ديكارت الاستنباطي في الفيزياء لم يصل إلى مستوى المنهج الذي اتبعه علماء عصره الكبار مثل جاليليو وباسكال، وإنما ظل يحمل من سمات العصور الوسطى فكرة استخلاص حقائق العالم الفيزيائي بالعقل، وعدم الاكتراث بالتجارب، وتشييد البناء العلمي كله على مبادئ يقينية قليلة تدرك كلها بالنور الفطري أو الإلهي، ويظل يقينها المطلق ساريا على كل تطبيقاتها التالية.
وكانت نتيجة هذا الإصرار على استنباط حقائق الفيزياء بطريقة عقلية: وقوع ديكارت في أخطاء واضحة، مثال ذلك: اعتقاده أنه لما كان الله هو الدعامة الأولى للعلل التي يتسلسل بها عالم الطبيعة، فإن من المستحيل الحد من استمرار هذا التسلسل عن طريق وجود «فراغ
Vide »؛ ولذلك رفض ديكارت فكرة «الفراغ» برغم أن معاصريه من العلماء كانوا يجرون تجارب مثمرة حولها، وترتب على ذلك إنكاره لنظرية جاليليو الجديدة عن سرعة سقوط الأجسام في الفراغ؛ لأن الثقل في رأيه لا معنى له في شيء غير موجود وهو الفراغ، وهاجم ديكارت آراء جلبرت في المغناطيسية، مع أنها كانت أصح من آرائه، واعتقد أن الضوء ليست له سرعة، وإنما ينتقل آنيا أو لحظيا. وفي المجال البيولوجي كون نظرية غير صحيحة عن الدورة الدموية حتى بعد ظهور نظرية هارفي
Harvey
الثورية. أما في الميدان الفلكي فقد حاول أن يتخذ موقفا وسطا بين النظرية الجديدة والنظرية التقليدية؛ حتى لا يغضب الكنيسة، فقال بفكرة «الدوامات» التي تحيط بالأرض، وتنقلها حول الشمس دون أن تكون الأرض ذاتها متحركة.
15
Bilinmeyen sayfa