ومن المؤكد أن لهذا الرأي أساسا من الصحة، حتى من وجهة النظر العملية ذاتها؛ ذلك لأن معرفة القاعدة النظرية أو القانون النظري توسع نطاق العلم، وتزيد بالتالي من قدرة الإنسان على السيطرة على الطبيعة؛ فالشخص الذي يفهم نظرية فيثاغورس في صيغتها المجردة لديه معرفة أوسع نطاقا بكثير من ذلك الذي يطبقها دون فهم نظري لها، على ميدان عملي محدد، وبذا يكون الأول أقدر حتى من الناحية العملية ذاتها، وإلى هذا الحد نستطيع أن نقول: إن مبدأ المعرفة النظرية كان عاملا هاما في تقدم العلم. وفي تحقيق سيطرة الإنسان على الطبيعة.
ولكن الذي حدث بالفعل هو أن هذا المبدأ قد أسيء استغلاله إلى أبعد حد؛ بحيث أصبح عائقا في وجه تقدم المعرفة؛ ففي العصر اليوناني تحولت المعرفة النظرية إلى معرفة كلامية أو لفظية، وأصبحت النتائج العلمية تستخلص من أقيسة لفظية لا تقدم ولا تؤخر، وازداد ابتعاد الإنسان تدريجيا عن واقع الأشياء وعن عالم الطبيعة، متخذا لذلك ذريعة من مبدأ المعرفة النظرية، وازدادت قوة الاتجاه إلى الابتعاد عن الواقع في العصور الوسطى، ووجد له سندا في النزعة الزاهدة المضادة للطبيعة في مسيحية العصور الوسطى، فكانت نتيجة ذلك تقلصا تدريجيا في قدرة الإنسان على التحكم في الطبيعة، دون أن يجرؤ أحد على مناقشة هذا المبدأ المقدس، مبدأ المعرفة النظرية أو الاعتراض عليه؛ ذلك لأن الاعتراض على هذا المبدأ المتأصل في النفوس كان في واقع الأمر احتجاجا على أسلوب كامل في الحياة. وكان دعوة إلى التغلغل في عنصر مكروه هو الطبيعة المادية، ونستطيع أن نقول: إن بيكن كان من أول وأجرأ من ناقشوا المثل الأعلى للحكمة النظرية هذه، ووجهوا إليه اعتراضات حاسمة.
فقد أدرك بيكن بوضوح تام هذا العيب الأساسي في طريقة تفكير فلاسفة اليونان والعصور الوسطى، وهو بأن العقل النظري وحده كفيل بالوصول إلى العلم، وحمل على الفكرة القائلة «بأن مما يحط من قدر الذهن البشري أن يظل عاكفا مدة طويلة ودون انقطاع على الاتصال بالتجارب والجزئيات، التي هي موضوعات الحس، وأن يقتصر على المادة وحدها، لا سيما وأن هذه الأمور تقتضي عادة جهدا في البحث وهي ليست موضوعا رفيعا للتأمل. كما أن الحديث عنها ليس بالحديث الرفيع، ودقتها لا حد لها، وهكذا نبذت التجربة بازدراء، ولم يقتصر الأمر على تجاهلها أو إساءة تطبيقها.»
6
وعلى هذا الأساس أعاد بيكن تقويم الفلسفة اليونانية في ضوء اعتراضه الأساسي على مثال المعرفة النظرية هذا، وقلل إلى حد بعيد من قيمة كبار الفلاسفة اليونانيين الذين لم يشتهروا إلا بفضل دعوتهم إلى العلم النظري الخالص، واحتقارهم للتجربة، واستبدالهم عالم الألفاظ بالعالم الطبيعي الحقيقي، «وهكذا فإن اسم السفسطائيين الذي رفضه بازدراء أناس يظنون أنفسهم فلاسفة، وأطلقوه على البلاغيين، مثل جورجياس وبروتاجوراس وهيبياس وبولوس
؛ هذا الاسم يمكن أن ينطبق بالفعل على المجموعة كلها، مثل أفلاطون وأرسطو وزينون، والفارق الوحيد بين أولئك وهؤلاء هو أن الأولين كانوا مرتزقة جوالين، يتنقلون بين البلدان المختلفة ويستعرضون حكمتهم ويطالبون بثمن لها، على حين أن الآخرين كانوا أكثر وقارا واحتراما. وكانت لهم مقارهم الثابتة ومدارسهم المفتوحة. وكانوا يعلمون الفلسفة بلا مقابل». وهكذا يقتبس بيكن وصفا مشهورا لفلسفة أفلاطون بأنها «حديث عجائز عاطلين إلى شبان جاهلين»، ويرى أن هذا الوصف ينطبق على الجميع، وهو يستثني من هذا الحكم الفلاسفة اليونانيين الأوائل، مثل أبنادقليس وهرقليطس؛ لأنهم لم يفتحوا مدارس، وإنما واجهوا الحقيقة مباشرة، وعلى أية حال، فإن مما يعيب اليونانيين جميعا أنهم «يشتركون مع الأطفال في الميل إلى الكلام والعجز عن الإنجاب (المثمر)؛ بحيث كانت حكمتهم لفظية لا تثمر أية نتائج.»
7
ومثل هذا النقد يوجهه إلى الفلاسفة المدرسيين في العصور الوسطى؛ ففي إحدى فقرات كتابه «النهوض بالعلم» يقول: «إن هذا النوع المنحط من المعرفة قد ساد أساسا بين المدرسيين، الذين كان لديهم ذكاء قوي حاد، وأوقات فراغ طويلة، وقراءات قليلة التنوع. ولكن كان ذكاؤهم حبيسا في زنزانات كتاب قلائل أهمهم أرسطو حاكمهم المستبد، مثلما كانت أشخاصهم حبيسة في زنزانات الأديرة ودور العلم، ولما لم يكونوا يعرفون من التاريخ الطبيعي أو الزمني إلا قليلا، فإنهم قد تمكنوا، باستخدام مادة ضئيلة ولكن مع استعمال مفرط للعقل، من أن يحيكوا أنسجة العنكبوت المضنية التي نجدها في كتاباتهم؛ ذلك لأن ذكاء الإنسان وذهنه، إذا ما مورسا على مادة مثل تأمل مخلوقات الله، فإنهما يعملان تبعا لمقدار هذه المادة ويتحددان بها. أما إذا مورسا على ذاتهما، مثلما ينسج العنكبوت خيوطه؛ فعندئذ لا يكون لعملهما نهاية، يأتيان حقا بمعرفة أشبه بنسيج العنكبوت، تعجبنا فيها دقة الخيوط وحبكة النسج. ولكن ليس لها قوام ولا منها جدوى.»
وهكذا تحولت حملة بيكن على العلم النظري الخالص عند القدماء والمدرسيين إلى حملة على كل تقيد بأية سلطة في ميدان العلم، ودعوة إلى البدء في طريق جديد غير تلك الطرق العتيقة التي لا تثمر ولا تجدي. ولا شك أن حملته على السلطة في العلم قد تركزت في شخص أرسطو، الذي وجه إليه أشد انتقاداته وأعنف هجماته، وقد نرى نحن اليوم في هذا الهجوم قسوة مفرطة، وجحودا بفضل أرسطو الذي لا يستطيع أي باحث منصف أن ينكره. ومع ذلك ينبغي ألا ننسى أن بيكن لم يكن يحارب أرسطو من حيث هو أثر تاريخي، وإنما كان يحاربه من حيث هو قوة حية، تعد هي المرجع الأخير في كل علم قائم، ومن حيث هو عقبة قوية تقف في وجه أي إحياء للعلم؛ ومن هنا كان عنف نقده بالقياس إلى أي نقد حديث لأرسطو؛ ذلك لأن أرسطو لم يعد اليوم قوة حية في أي ميدان باستثناء الفلسفة (ويعتقد الكثيرون أنه لم يعد حيا في هذا الميدان بدوره)، وإنما هو أثر تاريخي، نبدي نحوه نفس الإعجاب الذي نبديه بمبنى أثري قديم: لا يصلح للسكنى. ولكنه كان في زمنه شيئا رائعا.
ونستطيع أن نقول: إن بيكن قد أحدث في مجال المعرفة انقلابا موازيا لذلك الذي أحدثه لوثر وكالفن منذ فترة وجيزة - بالنسبة إلى ذلك العصر - في مجال الدين؛ ففي حالة أصحاب الدعوة الدينية الجديدة، الثائرة على جمود الكنيسة الكاثوليكية، كان يكفي لتحقيق غاية الدين أن يكون الفرد إنسانا صالح النوايا، وهو ليس في حاجة إلى «سلطة يأخذ بتفسيراتها للدين». وفي حالة بيكن كان يكفي لتحقيق غاية العلم أن يبدأ المرء وكأنه طفل بريء، وأن يتحرر من كل سلطة مفروضة على ذهنه، وأن يستخدم عقله ويضع لنفسه منهجا صحيحا؛ وبذلك يصل إلى الحقيقة دون معونة من آراء القدماء، ونستطيع أن نمضي في هذه المقارنة أبعد من ذلك فنقول: إن المذاهب الدينية الثائرة كانت تؤمن بقدرة كل شخص على أن يتصل بموضوع الدين، وهو الله، اتصالا مباشرا دون وسائط، وبالمثل كان بيكن يؤمن بأن في وسع كل ذهن أن يتصل بموضوع العلم، وهو الطبيعة، اتصالا مباشرا دون وسائط، وكما أثبتت الثورة الدينية أن سلطة الكنيسة لا جدوى منها في الوصول إلى الخلاص، فكذلك حاول بيكن أن يثبت - في ثورته العلمية والمنهجية - أن سلطة القدماء وفلسفتهم اللفظية لا جدوى منها في الوصول إلى الحقيقة، وإنما هي عقبات تجعلنا نكتفي بمواجهة الألفاظ بدلا من أن نواجه الطبيعة والأشياء مباشرة.
Bilinmeyen sayfa