وقد ولد فرانسس بيكن في 22 يناير سنة 1561م، وعين أبوه في منصبه الكبير بعد مولده بسنوات قلائل: وكثيرا ما كان أبوه يصطحبه إلى البلاط الملكي، حيث كانت الملكة إليزابيث تعجب بحضور بداهة الطفل وحكمته السابقة لأوانها، وتلقبه «بحامل الأختام الصغير». وهكذا ظهر منذ البداية عنصر آخر كان له تأثيره الواضح في شخصية بيكن: وهو أن نشأته وطبيعة علاقاته العائلية كانت تؤهله على نحو تلقائي لمستقبل سياسي، ولخدمة القصر الملكي في بلاده.
وكان بيكن في الثانية عشرة من عمره عندما التحق بكلية «ترينيتي» بجامعة كيمبردج. وهكذا أتم دراسته فيها وهو لم يكمل الخامسة عشرة من عمره، وهناك ظهر عنصر ثالث كان له دوره الحاسم في تحديد اتجاهه العقلي في المستقبل؛ ذلك لأنه سرعان ما سئم المناهج الدراسية العتيقة التي كانت سائدة في الجامعة، والتي كانت كلها مركزة حول منطق أرسطو وميتافيزيقاه ولاهوت القديس توما الأكويني، واتضح له منذ البداية أن الفلسفة التي تلقاها إنما هي فلسفة ألفاظ عقيمة، لا تفيد من الناحية العملية شيئا، ولا تقدم أية معونة للإنسان في كفاحه الأساسي من أجل السيطرة على الطبيعة والنهوض بحياته. وهكذا تحدد في ذهنه الهدف الذي سيتجه إلى تحقيقه طوال حياته، وهو القضاء على سلطة القدماء والمدرسيين، والدعوة إلى فلسفة مثمرة من الناحية العملية.
وقد انصرف بيكن بعد هذه المرحلة الأولى من دراسته إلى الدراسات القانونية. ولكن لم يتم تعليمه القانوني إلا بعد وقت طويل: فقبل إتمام دراسته، منحت له فرصة السفر إلى الخارج، ليعمل مساعدا للسفير البريطاني في فرنسا، فاغتنم الفرصة وسافر إلى باريس، حيث قضى في عمله هذا عامين ونصف العام. وفي عام 1579م عاد إلى بلاده على عجل؛ إذ توفي أبوه فجأة دون أن يؤمن له مستقبله، فكان على بيكن أن يشق طريقه بنفسه بعد أن كان يعتمد كثيرا على مساعدات أبيه، واضطر بيكن إلى الاستدانة لإكمال دراساته القانونية، ومنذ ذلك الحين أصبحت الاستدانة عادة ملازمة له طوال حياته. وكانت من أوضح مظاهر الضعف في شخصيته.
وفي تلك الفترة بدأت صداقة بيكن للإيرل إسكس
Essex
وهو شاب مرموق تفوق في الميدان العسكري، واختارته الملكة إليزابيث صفيا لها وهو في الحادية والعشرين من عمره، في الوقت الذي كانت هي فيه تناهز الستين من عمرها، وكثيرا ما كان بيكن يقدم النصح والتوجيه إلى صديقه، بينما قدم إليه هذا الأخير خدمات كثيرة، ومنها ضيعة صغيرة تدر إيرادا معقولا، ومع ذلك فقد ساءت العلاقات بين إسكس وبين الملكة، واتهم بخيانتها وتدبير انقلاب ضدها، فحوكم وأدين وأعدم في عام 1601م. وكان بيكن نفسه من المشتركين في إدانة صديقه. وفي إثبات مسئوليته عن خيانة الملكة، ويرى الكثيرون في ذلك نقطة سوداء في حياة بيكن، ويعدونها من أوضح مظاهر انتهازيته ورغبته في تملق الملوك ولو على حساب أخلص أصدقائه، على حين أن كتابا آخرين يرون أن بيكن لم يفعل إلا ما يحتمه عليه الواجب، وأن تهمة الخيانة ثابتة على إسكس، فلم يكن مفر من الاشتراك في إدانته، وعلى أية حال فقد أكد بيكن نفسه أنه آثر مصلحة الوطن - ممثلا في شخص الملكة - على علاقته الشخصية بصديقه. وكان يرى في ذلك مبررا كافيا لسلوكه.
وبعد عامين من إعدام إسكس، توفيت الملكة إليزابيث، واعتلى جيمس الأول عرش إنجلترا، وانتعشت آمال بيكن في الحصول على منصب حكومي كبير، يدر عليه دخلا سنويا يضمن له حياة مستقرة؛ ذلك لأنه كان قد بذل محاولات متعددة للحصول على منصب كبير في عهد إليزابيث. ولكنه لم يتلق إلا وعودا، ولم يصل إلى شيء مما كان يطمع فيه. وفي سنة 1607م تولى بيكن أول منصب عام كان يصبو إليه، وهو منصب المدعي العام. وفي سنة 1613م أصبح محاميا عاما، ثم مستشارا خاصا للملك سنة 1616م. وفي العام التالي أصبح حامل الأختام الملكية. وفي سنة 1618م عين كبير للمستشارين، ومنح لقب «لورد فيرولام» ثم منح لقب «ألفيكونت» سنة 1621م.
وعندما بلغ نجاح بيكن في ميدان المناصب العامة هذه القمة، بدأ يتدهور بسرعة، فقد اتهم بالرشوة، وبأنه يتقاضى هدايا من المتهمين قبل محاكمتهم وأثناءها، وحاول الإنكار في البداية، ولكنه اضطر إلى الاعتراف بتقاضي الرشوة، وإن كان قد أكد مع اعترافه هذا أمرين: أحدهما أن هذه الهدايا لم تؤثر في الأحكام القضائية التي أصدرها، والآخر أن تقاضي الهدايا كان أمرا شائعا في بلاده في ذلك الحين ، حتى بالنسبة إلى مناصب القضاة، وقد كان بالفعل صادقا في المسألة الثانية على الأقل، ويبدو أن حاجته إلى المال، وديونه التي ظلت تتراكم طوال حياته، وتعوده حياة البذخ والمتعة، كل ذلك جعله يغض الطرف عن المصدر الذي يحصل منه على المال، أو الوسيلة التي يأتيه بها هذا المال، وعلى أية حال فقد أدانه مجلس اللوردات، وحكم عليه بغرامة مقدارها 40 ألف جنيه، والحبس في البرج طوال الوقت الذي يشاؤه الملك، وعدم تولي أي منصب في الدولة، أو الاقتراب من البرلمان أو المحاكم. ومع ذلك فقد أعفاه الملك من الغرامة ولم يدم حبسه إلا أياما قلائل، وإن يكن قد حرم بالفعل من تولي المناصب العامة بعد ذلك، ومن الواضح أن تخفيف العقوبة على هذا النحو دليل على أن جريمته لم تكن شيئا خارجا عن المألوف في ذلك الحين.
ورغم أن بيكن قد تفرغ بعد نكبته هذه لحياته الخاصة ولمشروعاته العلمية الواسعة، فإن صحته - التي لم تكن قوية في وقت من الأوقات - قد بدأت تتدهور بسرعة. وكان موته مرتبطا ارتباطا وثيقا بالهدف الرئيسي لحياته الفكرية، وهو تحويل العلم إلى ميدان التجربة العلمية؛ ففي أثناء تجربة بدا له أن يجريها في يوم مثلج شديد البرودة، لكي يختبر تأثير التبريد في منفع التعفن، أصيب ببرد قاتل، وتفاقم المرض بسرعة، فتوفي في التاسع من أبريل سنة 1626م. وكان عندئذ في الخامسة والستين من عمره.
فإذا شئنا أن نلخص أهم العوامل التي تحكمت في تحديد الاتجاه الفكري لبيكن من خلال دراستنا السابقة لحياته، لقلنا: إن أولها هو ارتباطه بأسرة لها مصلحة أساسية في التجديد الديني بإنجلترا. وفي استقلال الكنيسة الإنجليزية عن كنيسة روما المتعصبة، فقد كان هذا العامل هو الذي تحكم في دعوته إلى الفصل القاطع بين مجال الدين ومجال العلم. وفي ثورته على السلطة العقلية بجميع أنواعها.
Bilinmeyen sayfa