لعل التصوير الأصدق للعلاقة بين العلم والحرية - إذا ما نظر إليها من زاوية فلسفية - هو أنها تمثل «نقيضة
antinomy »؛ أعني أن هذه العلاقة مزدوجة على نحو ينطوي على تناقض.
هذه النقيضة يظهر أحد طرفيها بوضوح قاطع في فلسفة اسبينوزا، وذلك في قوله: «إن الناس يخطئون إذ يظنون أنفسهم أحرارا، وهو ظن لا يرتكز إلا على أن لديهم وعيا بأفعالهم، على حين أنهم يجهلون الأسباب التي تحكمت في هذه الأفعال، وإذن فقوام فكرتهم عن الحرية هو أنهم لا يعرفون أي سبب لأفعالهم؛ ذلك لأنهم حين يقولون: إن الأفعال الإنسانية تتوقف على الإرادة، فهم إنما يفوهون بألفاظ ليست لديهم أية فكرة عنها. والواقع أن الكل يجهلون ما هي الإرادة وكيف يمكنها تحريك الجسم ...»
2
أما الطرف الآخر فنستطيع أن نجد تعبيرا واضحا عنه لدى باحث كان في واقع الأمر متأثرا في تفكيره باسبينوزا إلى حد غير قليل، هو «ستوارت هامبشير»، وذلك حين قال: «بقدر درجة وعيي الذاتي بفعلي، وبقدر معرفتي الواضحة بما أقوم به أصبح حرا، بمعنى أن أفعالي تطابق نواياي.»
3
فالنقيضة تتمثل في أن الشعور بالحرية - وهو شعور باطل في رأي اسبينوزا - كان عنده مرتبطا بالجهل بالأسباب. أما عند هامبشير فإن هذا الشعور ناتج عن المعرفة الواضحة، فكيف إذن يكون الجهل مرتبطا بالحرية من جهة، وتكون المعرفة مرتبطة بها من جهة أخرى؟ هل الجهل هو الذي يوهمنا بأننا أحرار؛ بحيث إننا لو اكتسبنا معرفة لما عدنا نشعر بالحرية؟ أم أن هذه المعرفة هي وسيلتنا إلى اكتساب الحرية؟
الحق أن هذه النقيضة - وإن بدت حادة قاطعة - ليست بالخطورة التي تبدو عليها لأول وهلة؛ ذلك لأن اسبينوزا نفسه، مع تأكيده أن الشعور بالحرية يرجع إلى الجهل بالأسباب، قد عاد وأكد أن حرية كل كائن إنما تكون في معرفته بالضرورة الباطنة المتحكمة فيه. وبعبارة أخرى: فإن الحرية تكون في نظره وهما إذا ما فهمت بمعنى «الفعل الذي لا سبب له»؛ لأن كل فعل لا بد قطعا أن يكون له سبب، وإن كنا نجهل أسباب أفعالنا في معظم الأحيان. أما إذا فهمت الحرية بمعنى إدراك الضرورة الباطنة المتحكمة في الظواهر؛ فعندئذ يكون المرء حرا كلما عرف تلك الأسباب العميقة الداخلية المنبعثة من طبيعته الخاصة، والتي تدفعه إلى أفعال معينة، ويكون مرغما أو مقهورا إذا كان سلوكه منبعثا عن عوامل خارجية لا تنتمي إلى طبيعته الباطنة، وإذن فهناك حرية وهمية ترتبط بالجهل، وهناك حرية حقيقية ترتبط بفهم الضرورة الباطنة أي بالعلم، وهناك أيضا حرية اختيار عشوائية، ليس لها من مصدر سوى عدم معرفتنا بالأسباب. وفي مقابلها الحرية التي يجلبها السير وفقا للعقل، والتي ترتبط بالضرورة (لا بالقهر) أوثق الارتباط.
ولكن على الرغم من أن من الممكن تجاوز هذه النقيضة بالتفرقة بين الحرية العشوائية والحرية الناتجة عن فهم الباطنة والتصرف وفقا لها، فما زال من الصحيح أن العلاقة بين الحرية والعلم تنطوي - الوجهة الفلسفية - على إشكال حقيقي؛ ذلك لأن العلم كلما ازداد تقدما، أتاح لنا أن نكتشف أسبابا ضرورية لكثير من الأفعال التي كنا نظنها «حرة» أو منبعثة عن إرادتنا وحدها، وكلما اتسع نطاق العلم؛ تضاءل نطاق ما يسمى بالأفعال الحرة، بهذا المعنى فالعلم في هذه الحالة يلغي الحرية. ولكن العلم - من جهة أخرى - يعمل على تحرير الإنسان؛ لأنه كلما تقدم أتاح له مزيدا من القدرة على التحكم في الظواهر والسيطرة عليها. وهكذا يمكن القول - في آن واحد: إن العلم هو الذي يقضي على الحرية، وهو الذي يجعلها ممكنة. «فكيف يمكن التخلص من هذا التناقض؟»
لا بد لنا - إذا شئنا أن نصل إلى حل لهذا الإشكال - من أن نعرض لكل من طرفيه بمزيد من التفصيل. (2-3) التعارض بين العلم والحرية
Bilinmeyen sayfa