Louis Althusser » أوسع وأشمل بكثير من تفكير «سيباج»، كما أن اتجاهات العام في تفسير الماركسية - وهو اتجاه بنائي في أساسه، وإن لم يكن هو ذاته يرحب كثيرا بهذه الصفة - قد تحددت معالمه قبل سنوات قليلة من ظهور كتاب سيباج عن الماركسية والبنائية. ومع ذلك فقد أرجأنا الكلام عنه إلى ما بعد عرض آراء سيباج حتى يكون الانتقال بينهما انتقالا إلى مزيد من التفصيل والتعمق في الموضوع. هذا فضلا عن أن ألتوسير ما زال مؤلفا خصب الإنتاج، وما زال صاحب مدرسة كاملة في التفسير الماركسي، في الوقت الذي توقف فيه إنتاج سيباج فجأة بموته السابق لأوانه.
وليس من الصعب أن يستدل المرء على طبيعة الظروف التي ظهر فيها التفسير البنائي للماركسية عند ألتوسير؛ إذ إن جهده الفلسفي يمكن أن يوصف بأنه رد فعل على رد فعل؛ فبعد النقد العنيف الذي وجه إلى الجمود الفكري الذي اتصفت به المرحلة الستالينية، حدث رد فعل في الاتجاه المضاد، وظهرت تفسيرات للماركسية تؤكد جوانبها الإنسانية وتحاول التوفيق بينها وبين كثير من المذاهب الفلسفية التي حاربتها طويلا، وكأنها تحاول إزالة صفات التحجر المذهبي وإنكار النزعة الإنسانية، وهي الصفات التي اتهمت بها ماركسية ستالين في أوساط كثيرة - منها الأوساط الماركسية ذاتها - في الخمسينيات من هذا القرن.
ولقد كان المفكر الذي حمل لواء هذه الدعوة إلى كسر جمود الماركسية التقليدية وإذابة جليد الاتجاه اللا إنساني في الستالينية هو «روجيه جارودي
Roger Garaudy »، ولو شئنا أن نلخص الطابع المميز لرد الفعل عند جارودي - بالقياس إلى الاتجاهات السائدة من قبل - لقلنا (مستخدمين لفظا أصبح شائعا في هذه الأيام): إنه هو الاتجاه إلى «الانفتاح» على الفلسفات الأخرى التي كانت تقف من الماركسية السابقة موقفا عدائيا صريحا، محاولا بذلك تعويض الدجماطيقية والتزمت والخصومة العنيفة التي اتسمت بها فترة عبادة الفرد الستالينية؛ ففي كتاب «النزعة الإنسانية الماركسية
Humanisme marxiste »، وكذلك في كتاب «آفاق الإنسان
»، قدم جارودي للماركسية تفسيرا إنسانيا وصفه بأنه يستخلص - «عن طريق التحليل النقدي للوجودية والفكر الكاثوليكي وللماركسية - نقاط الالتقاء الممكنة في المسعى المشترك الذي تبذله هذه المذاهب من أجل الوصول إلى الإنسان الكلي»، وواضح من هذا الوصف أنه يهدف إلى إثبات وجود نوع من التكامل بين أفكار ماركس وبين مذاهب أخرى كانت حتى ذلك الحين تخوض ضد هذه الأفكار معارك حامية؛ على أن جارودي قد ذهب في هذا البحث عن التكامل والسعي إلى التوفيق، ومحاولة إجراء «حوار» يسوده التفاهم مع التيارات الفلسفية الأخرى إلى حد أبعد مما ينبغي؛ إذ إنه أرجع الماركسية إلى أصولها المثالية، وخاصة عند «فشته
Fichte » وتجاهل الانقلاب الإبستمولوجي الذي قام به ماركس وإنجلز، وجعل التحول الاجتماعي راجعا إلى أسباب إنسانية تجريدية ولم يعط إلا أهمية ثانوية لمقولات المادية التاريخية والديالكتيك الموضوعي، وإذا كانت الماركسية قد كسبت - بمحاولة جارودي هذه - صداقة بعض التيارات التي كانت تعاديها كالوجودية والشخصانية، أو اتخذت صورة متقاربة معها، فإنها قد خسرت قدرا غير قليل من طابعها النضالي وقدرتها على نقد الأيديولوجيات المضادة لها، وفقدت جانبا كبيرا من طابعها العلمي الموضوعي.
ويمكن القول: إن أعمال ألتوسير كانت - في جانبها الأهم - رد فعل على هذا الاتجاه إلى إذابة الماركسية في رخاوة النزعة الإنسانية (ولهذا وصفناها من قبل بأنها رد فعل على رد فعل). وكانت سعيا إلى العودة بها إلى صلابة النزعة «العلمية
Scientificité »، وعودة إلى تأكيد مقولاتها المادية المستمدة من كتب مثل «الأيديولوجية الألمانية» و«رأس المال»، وإبرازا لطابعها المتميز الذي يرتكز على أسس لا يمكن الجمع بينها وبين تلك التي تقوم عليها الفلسفات البرجوازية، فلسفته هي بمعنى معين نوع من «السلفية» المتقشفة الصارمة، التي ترجع إلى المنبع وتنبذ التحريفات. ولكنها تقوم في الوقت ذاته بحركة مزدوجة؛ فهي في رجوعها إلى المنبع لا تكتفي بلعبة الاقتباس والاستشهاد بالنصوص، وهي اللعبة التي يندفع إليها كثير من الماركسيين، إما عن عجز منهم عن التفكير المستقل، وإما عن تقصير في متابعة تيارات الفكر التي أعقبت ظهور المؤلفات الأساسية للماركسية، وإما نتيجة الانشغال بالكفاح السياسي، ورغبة في خدمة الاعتبارات العلمية والكفاحية قبل أية اعتبارات أخرى. بل إن ألتوسير يعود إلى الأصول مزودا بكل إنجازات الفكر والعلم المعاصر، ويستخدم في فهم النصوص أحدث أدوات التحليل الفكري التي عرفت في النصف الثاني من القرن العشرين، وخاصة تلك التي تحققت في العلوم الإنسانية التي امتد إليها تأثير العلم الطبيعي، كعلم اللغويات المرتكز على فكرة البناء، والتحليل النفسي الجديد المتأثر بهذه الفكرة نفسها، مما أتاح إلقاء جديد على موضوعه من زوايا حديثة متعددة. وهكذا يمثل تفكيره عودة إلى المنبع وقفزة إلى الأمام في آن واحد، وهو - فضلا عن ذلك - لا يتجاهل المشكلات السياسية التي تشغل الماركسيين في الوقت الحاضر، وكل ما في الأمر أنه يؤكد الحاجة إلى منهج يتمشى مع الاتجاه الأساسي لماركس، ويتيح لنا معرفة الواقع بطريقة علمية، فهو ينظر إلى الماركسية بوصفها علما يأخذ هو على عاتقه صياغة قوانينه الأساسية، عن طريق هذه القوانين يمكن التصدي للمشكلات التي تواجه الإنسان المعاصر بثقة والإتيان بحلول أصيلة لها.
على أن من الخطأ أن ننظر إلى هذه العودة إلى المنبع على أنها مجرد شرح وإيضاح لفكر ماركس، فمرحلة الشرح قد تم تجاوزها منذ وقت طويل، بل لقد أصبحت كثرة الشروح المباشرة وتكرارها الممل مشكلة من المشكلات التي تواجه الفكر الماركسي. وكان من الضروري أن تأتي بعد ذلك مرحلة تقديم ذلك الفكر بطريقة منهجية جديدة، وإعادة تفسيره في ضوء المعرفة الجديدة التي تم اكتسابها في ميادين متعددة. بل إن نصيب الفكر المبتكر الخلاق في أعماق ألتوسير لا يقل عن نصيب الكتابات الأصيلة التي يقوم بتفسيرها، فإذا تذكر المرء ذلك المستوى الهابط الذي قدمت به الماركسية في كثير من الشروح المباشرة - التي امتلأت بالدعايات الساذجة وسطحت تفكير الفيلسوف نفسه - أمكنه أن يقدر أهمية العمل الذي قام به ألتوسير، الذي بعث حياة جديدة في الفكر الماركسي، و«أثبت أن المفكر يستطيع أن يكون ماركسيا وخلاقا في الوقت ذاته.»
Bilinmeyen sayfa