ويعتقد ستروس أن الوجوديين وأنصار التجربة المعاشة - بوجه عام - يصعدون مشاغلهم الشخصية إلى مرتبة المشكلات الفلسفية. وهذا - على حد تعبيره في كتاب
Tristes tropiques
الذي كان نوعا من الترجمة الذاتية لحياته، موضوعة في إطار أنثروبولوجي - «أمر محفوف بالمخاطر، وقد يؤدي إلى نوع من الفلسفة السوقية ...»
24
ذلك لأن التفكير عندما يدخل المرحلة التعليمية الموضوعية، لا ينبغي أن يعود مرة أخرى إلى الإهابة بالتجارب الشخصية والفردية التي كان يدور حولها قبل وصوله إلى هذه المرحلة، والتي تجاوزها عمدا عن طريق التجريد وبناء أنساق شخصية، فأمثال هذه المذاهب ترتد ثانية إلى المرحلة قبل العلمية، وتنسى أن العالم - بتجريداته ونماذجه الشكلية - يستطيع أن يلقي ضوءا حتى على التجربة المعاشة ذاتها، ويفسرها بطريقة أكثر ثراء. والمهم في الأمر أن هذا الصراع بين ستروس والوجوديين يذكرنا بالصراع الذي دار قبله بما يزيد عن قرن من الزمان، بين كير كجورد - فيلسوف الذاتية المشهور - وبين هيجل - نصير التجريد العقلي والنسق الفكري الشامل -
25
ويبدو أن كل عصر يشهد فصلا من فصول هذا الصراع الذي لا ينتهي بين أنصار الفكر العيني المعايش للحياة وأنصار الفكر التجريدي الذي يسعى دواما إلى الشمول.
ولقد كان من نتيجة هذا الصراع بين النزعة التجريدية عند ستروس، والنزعة العينية عند سارتر، أنهما تبادلا الاتهامات في ميدان آخر، هو ميدان التاريخ، الذي كان سارتر يتأمله في حركته وديناميكيته وصيرورته الدائمة، على حين كان ستروس يجمده لكي يدرس نماذجه بطريقة سكونية، فقد عاب سارتر على ستروس أن فلسفته تتهرب من الواقع الحي لكي تغرق نفسها في تجريدات شكلية تنصب على حضارات بدائية يصفها ستروس نفسه بأنها «خارج التاريخ»؛ ومن ثم فإنها تعجز عن الانتقال من ذلك الميدان الذي كان فيه التاريخ متوقفا أو مجمدا - إن جاز هذا التعبير - إلى مجال التاريخ الحاضر في تدفقه نحو المستقبل. ومن المؤكد أن ستروس عاجز عن تطبيق أية نتيجة يتوصل إليها في مجال بحثه - على الإنسان المعاصر - بالرغم من كل ما بذله من جهود لتأكيد وجود تشابهات أساسية في «الطبيعة البشرية» بمعناها العام، وبغض النظر عن موقعها من التاريخ.
على أن ستروس يرد على هذا الاتهام بأن الوجودية - وخاصة عند سارتر - هي التي تمركزت حول الحاضر، واتجهت صوب المستقبل أكثر مما ينبغي. صحيح أنها تمجد التاريخ وتؤكد تدفقه وصيرورته، ولكنها في نظرتها إلى التاريخ تفهم الماضي من خلال مقولات الحاضر فحسب، ولا تعطي هذا الماضي حقه، بل لا تعترف للآخرين بالحق في دراسة الماضي لذاته، وإنه لمن الطبيعي للمذهب الذي يرتكز على مقولات الذاتية، وعلى تحليل الإنسان في موقفه العيني وفي «مشروعه» الحي، أن يكون متمركزا حول الذات وحول الحاضر، وأن يكون التاريخ الماضي في نظره هو ما يؤدي إلى الحاضر، والمستقبل هو ما ينبثق عنه؛ على أن النتيجة التي ترتبت على هذا هي أن سارتر قد تجاهل العقلية البدائية، وبدا كما لو كان يساير الرأي القائل بأن البدائيين عاجزون عن التحليل العقلي والبرهان المنطقي، وهو استنتاج غير مستغرب عند فيلسوف يتخذ من الذات - في موقع تاريخي معين - مركزا يدور حوله كل تفكيره، وإذا كانت الوجودية تتهم البنائية بأنها تتطلع إلى الماضي المتجمد خوفا من مواجهة الحاضر والمستقبل وتهربا من مسئولية اتخاذ موقف منهما، فإن البنائية تعود - من جانبها - فتتهم الوجودية بأنها تغمض عينيها عن شكل أساسي من أشكال التجربة البشرية، هي تلك النظم والطقوس والأساطير التي عاشت بها الإنسانية البدائية، وتتصور أن السعي من أجل مستقبل أفضل يتحرر فيه الإنسان من شتى أنواع العبودية، معناه تجاهل البناءات الاجتماعية والفكرية للإنسان في صورتها النقية الأولى، أو أن الهدف الأول يتعارض مع الثاني، مع أنه لا تعارض بين الاثنين على الإطلاق.
وهكذا فإن البنائية والوجودية - ممثلتين في ستروس وسارتر - تتبادلان الاتهامات بصورة يبدو معها كأن المذهبين يقفان على طرفي نقيض، وكأنه لا سبيل على الإطلاق إلى إيجاد أية وسيلة للتقريب بينهما. ومن المسلم به أن المسافة بين هذين المذهبين كبيرة إلى أبعد حد، وأن بينهما اختلافا أساسيا في منهج التفكير ووسائله وأهدافه. ومع ذلك فربما كان من الممكن - بشيء من الجهد - أن يتلمس المرء بعض النقاط التي يتلاقى فيها المذهبان، أو على الأقل بعض أوجه الشبه غير المباشرة. وربما غير المقصودة، بينهما.
Bilinmeyen sayfa