تأليف
إلياس أبو شبكة
في حديث الشعر
لا أكتب هذه المقدمة لأحدد الشعر، أو لأعلم الشاعر كيف ينبغي له أن يشعر، وأي طريق يجب عليه أن يسلك ليصل إلى هيكل النور الأسمى، أو لأجيء بنظرية أتعصب لها وأعلن لأجلها حربا؛ فالشعر كائن حي تحتشد فيه الطبيعة والحياة، فلا يقاس ولا يوزن، والنظريات مذاهب وأغراض، لا تعيش إلا على هامش الأدب، كما يعيش العرض على هامش الجوهر، أو كما يعيش الديكتاتور الزائل على هامش الأمة الأزلية.
وقد تصح النظريات أو المذاهب في كتاب سياسي، أو وصية سياسية موجهة إلى شعب له أوضاعه الخاصة، وحدوده المقررة، وثقافته، وجنسيته؛ ولا تصح في شعر يعبر عن الحياة؛ فالحياة لا جنسية لها ولا أوضاع ولا حدود، وهي أوسع من أن نضع لها حدودا ومقاييس، والدائرة الغير المحدودة لا تنحصر في الحدقة الضيقة.
ليس للفكر حد ولا تخوم، فكيف نضع للحياة حدا وهي هدف الفكر؟!
كيف نحدد هذه القوة المتحولة في اللانهاية، هذه القوة المجهولة؟!
ورب قائل إن الإنسان دائم الشوق إلى معرفة المجهول، وهذا صحيح، على أن الشوق إلى معرفة المجهول لا يلزم العقل البشري إلا عندما يقتنع الإنسان بأن إدراكه الحسي للعالم الخارجي لا يكشف له حقايق الأشياء التي يراها ويلمسها، ويضطر إلى الاعتراف بأن إدراكاته الذاتية ليست سوى تأثيرات لسبب خارجي يجهل حقيقته، ولكن الجاهل لا تمر في خاطره أية شبهة بشهادة حواسه الذاتية، ويعتقد كل الاعتقاد أن الأشياء التي يراها ويلمسها هي الحقايق بعينها.
ولا يمكن تحويله عن هذا الاعتقاد؛ لأن نظريته في مبحث المعرفة تمثل أحط دركة من المادية التافهة؛ ولأنه يصر على إدراكه ما لا يدرك - بل يحس - على إدراكه الحقيقة المطلقة، ورؤيته إياها من وراء المظهر المتحول في الحياة.
كيف نستطيع إدراك ما لا يدرك بل يحس؛ لنقيده في دائرة ضيقة من اصطلاحاتنا البيانية، ثم نوزعه مذاهب وطبقات هي سياسة الشعر لا طبيعته؟ أليس من الخرق أن نحاول بلغة وضعية تحديد لغة المجاز والكناية، لغة الروح، لغة الحس الوجداني العميق؟!
Bilinmeyen sayfa