وهذا حق، فما في شيء من هذا كنت أريد أن أتحدث إليك، وما إلى شيء من هذا دعوتك الليلة، وإنما هو تعارفنا وتحدثنا عن الريف قد شط بي ودفعني إلى الاستطراد، فلنعد إذا إلى ما كنا نريد أن نأخذ فيه ولنقبل على طعامنا قبل كل شيء.
وأخذنا في حديث جديد لم يصرفنا عن الطعام، ولكنه لم يعجل عودتي إلى بيتي، فقد كان الجد الذي يريده صاحبي أنه يجب أن يكون بينه وبيني تعاون في الدرس، يعلمني بعض ما عنده، وأعلمه بعض ما عندي، فهو يرى أن أمري في الجامعة لا يستقيم إلا إذا تعلمت لغة أجنبية وألممت ببعض هذه العلوم التي كنا نجهلها في الأزهر جهلا تاما، والتي كان جهلنا إياها يخيل إلي وإلى أصحابي أننا نسمع من المحاضرين في الجامعة الأعاجيب مع أننا لم نكن نسمع منهم إلا أيسر الأشياء وأهونها.
وهو كان يريد أن يمنحني من ذلك ما ينقصني، لا يسألني على ذلك أجرا إلا أن أعوده معاشرة كتب الأزهر، والتصرف في علم الأزهريين، وكانت علوم ثلاثة من علوم الأزهر تخلبه وتشوقه بنوع خاص، وهي المنطق والفقه والأصول. فأما المنطق فقد كان أمره يسيرا، وكنت أرى أني أستطيع أن أقرأ معه كتابا من كتبه المختصرة. وأما الفقه والأصول فقد كان أمرهما أعسر من ذلك وأشق، وأنى لي أن أعلمه علما لا أحسنه، وما أظن أني سأحسنه في يوم من الأيام؟ وهو مع ذلك مصمم على أن يدرس المنطق والفقه والأصول على أن يعلمني الفرنسية، ويقرأ معي ما أحب من التاريخ وما أشاء من هذه الكتب التي لا بد من قراءتها لمن يريد أن يعيش في هذا العصر الحديث عيشة لا غرابة فيها. وكان حوارنا طويلا شاقا ملتويا فيه كثير من الاستطراد حتى لقد انصرفنا من داره وقد كاد يسفر الصبح، وما كدنا نبلغ حينا في أقصى الجمالية حتى سمعنا المؤذن ينبئ الناس بأن «الصلاة خير من النوم»، وكنا لم ننم فعدنا أدراجنا، وفي ذلك اليوم جلس معي إلى أستاذ الأصول رجل ليس على رأسه عمامة بل على رأسه طربوش.
وافترقنا بعد الدرس على أن نلتقي في الجامعة كل يوم إذا كان المساء على أن نرتب أمرنا بيننا، يعلمني الفرنسية وأعلمه المنطق، ومن ذلك اليوم لم نفترق حتى أتيح له أن يسبقني إلى باريس.
كنا نلتقي في قهوة بشارع قصر النيل قريبة من الجامعة قبل أن تبدأ المحاضرات بساعة أو أكثر من ساعة، فنأخذ في أحاديث مختلفة، وكثيرا ما كان يشاركنا في أحاديثنا بعض الطلاب حتى إذا أقبلت ساعة الدرس نهضنا إليه. أما هو فكان ينهض متثاقلا دائما، وأما أنا فكنت أنهض خفيفا شديد النشاط، وكان يضحك من خفتي، وكنت أضيق بتثاقله، وكان يقول لي هون عليك فليأتين يوم تنصرف فيه عن هذه الدروس انصرافا.
ولم أكن إذا دخلنا غرفة الدرس أفر من مجلسه، ولم يكن ينغص علي الاستماع للأستاذ، حتى إذا انتهينا من الاستماع انصرفنا إلى داره أو إلى شارع كوبري قصر النيل فزعم لي أنه يعلمني الفرنسية، وزعمت له أني أعلمه المنطق، والحق أننا لم نكن نصنع من هذا شيئا، وإنما كنا نمضي في لغو مختلف متصل كهذا الذي صورت بعضه آنفا، وكنا ننفق في هذا اللغو خير أجزاء الليل، ثم نفترق، فأما هو فكان ينفق بقية الليل في القراءة أو الكتابة ثم في نوم قليل، ثم يصبح فيغدو على ديوانه، وأما أنا فكنت أنفق بقية الليل في تفكير طويل مضطرب لا يكاد يذيقني النوم إلا غرارا، فإذا دعا المؤذن إلى الصلاة أسرعت إلى الأزهر، ومضيت وجه النهار مستمعا للأساتذة أو دارسا مع الطلاب حتى إذا أقبل المساء التقينا كدأبنا في كل يوم.
وانقضى العام الأول والثاني والثالث من حياتنا في الجامعة على هذا النحو، لم يتقدم هو في درس المنطق ولم أتقدم أنا في درس الفرنسية، ولكننا تقدمنا في إدارة هذه الأحاديث الطويلة المختلفة التي تلم بكل شيء ولا تكاد تتقن شيئا، ولكنها تفتح القلوب لألوان من العواطف وتهيئ النفوس لضروب من الخواطر، وتغير الطريق التي كان كل واحد منا قد رسمها لنفسه في الحياة.
كان يريد أن ينفق حياته موظفا يثقف نفسه ثقافة جديدة في كل يوم ويلتمس لذته في القراءة والكتابة والحديث، فأصبح أشد الناس بغضا لديوانه، وزهدا في عمله، ورغبة في أن يهجر مصر ويعبر البحر إلى بلد من هذه البلاد التي يطلب فيها العلم الواسع والأدب الراقي، وتتغير فيها الحياة من جميع الوجوه. وكنت أريد أن أكون شيخا من شيوخ الأزهر مجددا في التفكير والحياة على نحو ما كان يريد المتأثرون للشيخ محمد عبده، أستعين على ذلك بما أسمع في الجامعة، وما أقرأ من الكتب المترجمة، وما أجد في الصحف، وما أتلقط من أحاديث المثقفين، فأصبحت وأنا أشد انصرافا عن الأزهر، ونفورا من دروسه وشيوخه، وحرصا على أن أهجر مصر وأعبر البحر إلى بلد من هذه البلاد التي يطلب فيها العلم الواسع والأدب الراقي وتتغير فيها الحياة من جميع الوجوه، ولم يكن لصاحبي ولا لي إذا التقينا حديث إلا هذه الهجرة وأسبابها، وإلا هذه الأحلام العريضة البعيدة التي لا حد لها، والتي تستأثر بنفوس الشباب حين يفرضون على أنفسهم بلوغ غاية بعيدة شاقة، وحين تخيل إليهم آمالهم أن بلوغ هذه الغاية أمر يسير.
ثم أصبحت ذات يوم مشغول النفس بما كنا نتحدث فيه أمس، وإني لجالس في بيتي لم أذهب إلى الأزهر، وما كان أكثر تخلفي عن الأزهر في هذه الأيام، وانقطاعي إلى خادمي الأسود الصغير، يقرأ لي قراءة محطمة أقيمها أنا، وأصلح معوجها في نفسي. يقرأ لي مرة في ديوان من الشعر، ومرة في كتاب من كتب التاريخ، وحينا في قصة من قصص العامة، وإني لجالس ذات يوم إلى خادمي الأسود وهو يقرأ علي ديوان البحتري، وإذا الباب يطرق طرقا عنيفا، وإذا صاحبي يدخل وكأنه العاصفة، وإذا هو يدعوني في صوت سريع إلى أن أنهض فألبس ثيابي وأخرج معه، وأن أسرع، فإن العربة تنتظرنا، وأحاول أن أسأله كيف خرج من ديوانه؟ وما هذه العربة التي تنتظرنا؟ وإلى أين يريد أن يذهب بنا؟ ولكنه لا يجيب، وإنما يستعجلني ويلح في الاستعجال، حتى إذا تركته وذهبت لألبس ثيابي سمعته وهو يذهب ويجيء كالمجنون، ويتغنى في صوته الغليظ بما يحضره من الشعر، ثم أخرج له فيخطفني خطفا، ويعدو بي عدوا حتى يلقيني في العربة إلقاء، ثم يأمر السائق أن يمضي إلى مكان كذا حيث يقيم فلان.
ثم يهدأ بعض الشيء، وينبئني بأن الجامعة قد أعلنت في الصحف أنها سترسل طلابا إلى أوربا، وقد حددت موعد الامتحان وأنه قد أقبل إلي، لألقى فلانا وفلانا، وكلهم من أعضاء مجلس الجامعة، ويجب أن أوصيهم به خيرا. فهو واثق بأنه سيجوز الامتحان على أحسن حال، ولكنه يخشى أن يغلبه على الفوز بالبعثة أولئك الشبان الذين يتوسط لهم أصحاب الجاه.
Bilinmeyen sayfa