وإذا فقد زرت فرنسا وأقمت فيها، وستعود إلى مصر ولم يكن بينك وبيني هذا اللقاء الذي كنا نرجوه، ولست أدري أيسوءك هذا أم لا يسوءك، ولكني أعلم أنه يسوءني حقا؛ فقد كنت حريصا على لقائك لأراك بعد أن طال افتراقنا، وقد كنت حريصا على لقائك لأستعين بك على نفسي وعلى ما يدهمها من الأحداث والخطوب. ولكن الجامعة أبت أن نلتقي، وأبت أن تطول إقامتك في هذا البلد حتى تتاح لنا فرصة اللقاء، وإني لأرجو أن تتاح لك عودة قريبة، فما أرى أنك قد زرت فرنسا ولا انتفعت بزيارتها، وما أظن إلا أنك ستعود وفي نفسك حسرات لا تنقضي، فليس من الهين أن تدنو من الغاية ثم ترد عنها ردا، وأن تشارف الأمل ثم تقطع بينك وبينه الأسباب، ولست في حاجة إلى أن أنبئك بأني قد رفضت الإذعان لأمر الجامعة، وأبيت أن أعود في هذه المرة كما أبيت ذلك في العام الماضي. وكيف تريدني على أن أعود وقد أنفقت أعواما في فرنسا، ثم لم أصنع شيئا تحسن العودة والاطمئنان إليه، وإنما كان حظي من الفساد والشر أكثر من حظي من الصلاح والخير! وماذا تريد أن أقول حين أعود إلى مصر فأسأل عما صنعت؟ أأحدث الناس عن فرنند وإلين وما لقيت عندهما مما أحب وما لا أحب؟ أم أحدث الناس بذلك المرض الذي ألح على جسمي حتى أشرف بي على الموت؟ أم أحدثهم بهذا المرض الذي ألح على عقلي حتى أشرف بي على الجنون؟
لا يا سيدي! إن العودة إلى مصر شيء لم يقدر لي بعد، ولو أني بلغت من مقامي في فرنسا كل ما أريد ما رضيت هذه العودة ولا أجبت إليها، فأنت تعلم أني قد نذرت ألا أترك باريس حتى أصير إلى ما تصير إليه، وحتى أرى مخرجها من هذه الحرب كيف يكون، وما أبعد الأمد بيننا وبين آخر الحرب كما ترى! فالأسباب مقطوعة بيني وبين مصر حتى تنكشف هذه الغمة، وهب كل شيء يجري كما أحب، فكيف أعود إلى مصر دون أن أصطحب إلين وليس لي إلى الحياة سبيل إذا لم أكن قريبا من إلين، أراها متى شئت وتراني متى أحبت، وأفرغ إليها حين أضيق بحياة العمل والجد، وإلين فرنسية لا تريد أن تهجر وطنها، ولا أن تفارق باريس، وإن أعطيت ملء الأرض ذهبا، فإقامتي في فرنسا قضاء محتوم لا مندوحة لي عنه، وشهد الله ما أجد لذلك ألما، وإنما أجد فيه اللذة كل اللذة. فاقرأ تحيتي على مصر إن شئت، ولا تحدث أصحابنا بشيء من أمري، وإن سألك أهلي عن بعض أمري فقل لهم ما يخطر لك، ولكن احذر أن تنبئهم من حقيقة أمري بشيء؛ فما ينبغي أن نشق على هذين الشيخين، وما ينبغي أن نشمت بنا الشامتين.
وبعد فإن أمور مصر محزنة حقا، أليس مما يسوء ويحزن أن يعجز هذا البلد السعيد الناعم بالسلم ومنافعها عن أن يمد الجامعة من المال بما يمكنها من استبقاء بعوثها في أوربا حتى تتم ما أرسلت من أجله؟
أو ليس مما يحزن ويسوء أن نرى هذه الجهود الضخمة الشاقة التي تبذلها الشعوب الصغيرة لتثبت للحرب ولتحتمل أثقالها ونفقاتها، وتضحي فيها بما تضحي به من الأنفس والأموال، وأن نرى مصر عاجزة أو بخيلة لا تستطيع أو لا تريد أن تنفق على عشرة من أبنائها يدرسون العلم فيما وراء البحر؟ ولكن ماذا ينفع الحزن والأسى، وماذا يجدي اللوم والتقريع؟ لا بد مما ليس منه بد. عد إلى مصر فأنت مضطر إلى أن تعود، ولأبق أنا في فرنسا، فأنا مكره على أن أبقى، وسنرى أيتاح لنا أن نلتقي، وأين يتاح لنا أن نلتقي!
وداعا أيها الصديق وإن لم يكن بيننا لقاء.
20
وأعود إلى باريس بعد ثلاثة أشهر قضيتها في القاهرة فأرى صاحبي، ولكني لا أكاد أعرفه لولا صوته الذي لم يتغير ولولا ضحكاته العراض التي لم تهذبها الإقامة في باريس، فأما غير ذلك من أطوار نفسه فقد تغير حتى أنكرته أشد الإنكار، فصاحبي محزون مغرق في الحزن، حتى ليفسد عليك رأيك في الحياة إن لقيته في هذا الطور. وصاحبي مسرور مغرق في السرور، حتى ليثير في نفسك الإشفاق عليه من هذا الإغراق في السرور إن لقيته في هذا الطور أيضا، وصاحبي ينتقل من الحزن إلى السرور ومن السرور إلى الحزن فجأة في غير تهيؤ ولا تدرج ولا انتظار لهذا الانتقال. وإنما أنت مع رجل بائس يائس، سيئ الرأي في الحياة والأحياء، قد أظلم كل شيء في وجهه وفي نفسه، فلست تسمع منه إلا شرا ونكرا. وإذا أنت ترى هذا الرجل قد وثب فجأة من نقيض إلى نقيض وأصبح فرحا مرحا، منطلق اللسان بالثناء على كل أحد وعلى كل شيء، ممتلئ الفم بهذا الضحك المزعج العريض، لا يتكلم هادئا ولا يتحرك هادئا، وإنما هو عنيف في لفظه، عنيف في حركته، عنيف في كل شيء، حتى إنه ليلفت إليه وإليك الناس، وحتى إنه ليخيفك من أن ينكروا مكانكما ويدعوكما إلى الصمت وإلى إيثار الهدوء.
وصاحبي إن حزن لا يعدل بالكتاب شيئا، وصاحبي إن سر لا يعدل بالشراب شيئا. وهو مسرف في صحبة الكتاب يأخذ المجلد الضخم فلا يكاد ينصرف عنه حتى يزدرده ازدرادا، وصاحبي مسرف في الشراب إذا أقبل الليل عليه لم تكفه الزجاجة ولا الزجاجتان من معتق النبيذ، وإنما يشرب حتى يعجز عن الشرب. وهو لا يعجز عن الشرب إلا حين تعجز يده عن تناول الزجاجة وصب شيء من روحها في القدح، وإذا انتهى العجز بصاحبي إلى هذا الحد لبث مكانه لا يريم، نائما كالمستيقظ، ومستيقظا كالنائم حتى تنجلي عنه الغمرة بعد ساعات. وصاحبي يختلف إلى السوربون قليلا ولا يكاد يختلف إلى القهوة، ولكنه يلزم بيته في أكبر الوقت، وقد يستخفي اليوم أو الأيام لا نعلم أين هو، ثم نلقاه فنسأله فينبئنا بأنه كان مع إلين. ولم يتح لأحد أصحابه ولم يتح لي بالطبع أن نرى إلين هذه أو نسمع منها أو نتحدث إليها، حتى لقد كان يخيل إلينا أنها شخص من أشخاص الأساطير قد خلقه صاحبنا لنفسه خلقا في وقت من أوقات سكره ولهوه، ولكنه كان يحدثنا عنها فيطيل الحديث، وكانت أحاديثه لا تصور شخصا مخترعا، وإنما تصور شخصا حيا يذهب ويجيء، ويعبث ويلهو ويعين على العبث واللهو، ويدفع إليهما أحيانا. وكثيرا ما ألححنا على صاحبنا في أن يعرفنا إلى إلين أو يعرفها إلينا، فلم نكن نلقى منه إلا إباء وإعراضا، وكان يقول: إن حب الاستطلاع إثم، فما تريدون من إلين؟ إني أحدثكم من أمرها بما يعنيكم وما لا يعنيكم، وإلين صاحبتي أنا لا صاحبتكم أنتم، ولن يكون لكم منها إلا هذا الذي تسمعون عنها، وإنه لكثير أكثر مما ينبغي، وكثيرا ما جد بعض أصحابنا في تتبعه والبحث عن إلين فلم يظفر بطائل، ولولا أني رأيت إلين بعد ذلك لما شككت في أنها كانت شخصا من أشخاص الخيال.
وقد أنفقنا عاما دراسيا كاملا على هذا النحو، ألقى صاحبي بين حين وحين فأنكر من أمره أكثر مما أعرف، ولا تتصل بينه وبيني تلك الأحاديث التي كانت تتصل بيننا في القاهرة والتي كانت لا تنقضي، وإنما تلتوي وتعوج، وتخرج بنا من موضوع إلى موضوع ومن رأي إلى رأي، حتى أضرع إليه في أن يقفها لأنه أعياني وأجهدني حقا.
لم تكن تتصل بيننا هذه الأحاديث في باريس، إنما كان يلم بحديث عن السوربون قليلا ويطيل الحديث عن إلين، مثنيا عليها حينا، شاكيا منها حينا آخر، واصفا محاسن جسمها ومحاسن نفسها دائما.
Bilinmeyen sayfa