كان منهجه التدريسي في الفلسفة يغطي موضوعات اللاهوت والأخلاق وفقه القانون والسياسة العامة، وكانت محاضراته في فقه القانون والسياسة (والتي لم تصلنا إلا عبر ما دونه الطلبة من ملاحظات) تحتوي على العديد من أفكاره (كآلية عمل منظومة السعر، وعيوب الحمائية، وتطور المؤسسات الحكومية والاقتصادية)، وقد ظهرت هذه الأفكار بعد أعوام بين دفتي كتابه «ثروة الأمم» على نحو مطابق تقريبا.
لكن أفكار سميث التأملية حول الأخلاق كانت هي السبب في ذيوع صيته؛ ففي عام 1759 نشر سميث هذه الأفكار في كتاب تحت عنوان «نظرية المشاعر الأخلاقية»، وهو كتاب يتمتع ببراعة الأسلوب وأصالة المحتوى، وقدم فيه سميث شرحا لتقييماتنا الأخلاقية من منظور علم النفس الاجتماعي. ويذكر هنا أن صديق سميث، الفيلسوف والمؤرخ ديفيد هيوم، أرسل نسخا من هذا الكتاب إلى عدد من أصدقائه، ومن هؤلاء كان السياسي تشارلز تاونسند، وأعجب تاونسند بالكتاب أيما إعجاب، إلى الحد الذي دفعه إلى توظيف سميث فورا بمرتب سخي قدره 300 جنيه استرليني طيلة الحياة، وذلك كمعلم خصوصي لابن زوجته، الدوق الشاب لمدينة باكلو. (4) رحلاته
على الرغم من ذكائه اللامع، لم يكن سميث خيارا متوقعا عندما يتعلق الأمر بوظيفة المعلم الخصوصي، حيث يصفه الكاتب جيمس بوزويل بأنه كان يملك «ذهنا تزدحم فيه كافة أنواع الموضوعات»؛ مما جعله شارد الذهن، حتى إنه أقدم ذات مرة - في غير وعي - على وضع الخبز والزبد في إبريق الماء الساخن بدلا من الشاي، وسار في حين آخر ثمانية أميال متفكرا في إحدى المشكلات قبل أن يلاحظ أنه أصبح في مدينة دانفيرملين، وفي إحدى المرات سقط في مصرف مياه لعدم تركيزه في الطريق.
لم يمض وقت طويل حتى انطلق سميث مع تلميذه في رحلة إلى فرنسا، حيث كان السفر جزءا من العملية التعليمية لكل شاب أرستقراطي في ذلك الوقت، واستمتع كلاهما في باريس بالصحبة الرائعة لديفيد هيوم الذي كان السكرتير الخاص للسفير هناك. لكن سميث لم يكن يتكلم الفرنسية بطلاقة، ووجد صعوبة في التواصل مع الآخرين ؛ فبدأ الضجر يتملكه وأخبر هيوم: «لقد بدأت بتأليف كتاب من أجل تمضية الوقت.»
5
ولم يكن هذا الكتاب إلا «ثروة الأمم».
وفي رحلاته التالية، عبر الجنوب الفرنسي، وإلى جنيف، والعودة إلى باريس، التقط سميث معلومة تلو الأخرى حول أوجه الحياة الأوروبية: ثقافيا وحكوميا وتجاريا واقتصاديا وفيما يتعلق بالقانون، وأعمل فكره في الفوارق بينها وبين الأوجه السائدة في أرض الوطن. وكان للمناقشات التي خاضها مع عدد من الأسماء البارزة في أوروبا القارية فضل في تشذيب الأفكار التي وردت في كتابه العظيم. (5) «ثروة الأمم»
رجع سميث مع تلميذه إلى لندن في عام 1766، وعاد سميث إلى كيركالدي ليقيم فيها، حيث استطاع توفير ما يكفي لشراء منزل فخم في شارع هاي ستريت، وعاش فيه مع والدته وابنة خاله جانيت. (ومن الجدير بالذكر أن سميث ظل يخصص جهوده لخدمة والدته حتى وفاتها في عام 1784، فلم يتزوج قط، لكن يبدو مما كتبه أنه كان على علاقة في وقت مبكر «بشابة على قدر كبير من الجمال واللباقة».)
6
أمضى سميث أعواما كثيرة في كيركالدي وهو يكتب وينقح ويصقل مخطوطته على حساب صحته، لكنه تحسن بعد مدة طويلة أمضاها في لندن من 1773 إلى 1776، مستمتعا بصحبة مفكرين عظماء آخرين، من أمثال الرسام السير جوشوا رينولدز، والمؤرخ الجليل إدوارد جيبون، والسياسي الراديكالي إدموند بيرك، وبوزويل، وحتى المعجمي الدكتور صامويل جونسون، رغم تعارض آراء سميث مع آراء الأخير.
Bilinmeyen sayfa