فابتسم جورجي وقال: نعم، وقد فعلت أنت المعجزة بإحيائي يا يوسف، ولك علي ... - لا تقل شيئا؛ إذ لم أفعل أمرا سوى أني كنت واسطة لتنبيه القوة الحية الكامنة فيك، فهي كالماء المحبوس في الحوض وأنا قد فتحت «الحنفية» فتدفق الماء، وأنت تستطيع أن تفعل هذه المعجزة لأصحابك إذا كنت تشاء أن يحيوا. - أشاء ولكن ما قولك إذا كان حوض حياتهم قد نضب، وقد فتح «الحنفية» قبلي كثيرون فلم تقطر قطرة حياة. - جرب فتحها أنت فلعل غيرك لم يهتد إلى أسلوب فتحها الصائب، وإذا مهدت لي السبيل فأساعدك في ذلك.
فنهل جورجي نهلة عميقة من «الشيشة» ونفخ غيمة من دخانها ثم قال: عبثا يا صديق عبثا تهتم في الأمر، ولا أدري لماذا تهتم بإحياء الموتى والدنيا تكاد تضيق بالأحياء، أما كفانا ما حولنا من الأحياء الذين يكافحوننا ونكافحهم حتى نحيي أمواتا لنزيد عدد المتكافحين في الدنيا؟! فدع الموتى في قبورهم. - لو كانوا موتى الجسد لتركناهم في قبورهم طبعا، ولكنهم موتى النفس فلنحي أنفسهم لنزيد جيش الخير قوة وإلا بقوا من جنود الشر، والقوة المالية التي لهم تقدرهم على التخريب والتدمير في بناء الهيئة الاجتماعية. ألا تراهم يبذلون هذه القوة على إحياء محال القمار والحانات والملاهي، وأماكن الفجور، فكأنهم ينفقون مالهم في صنع الأسلحة لتسليح الشيطان الرجيم، فإذا استطعنا أن نستميلهم إلى جانب جنود الخير قوينا عوامل البناء في الهيئة الاجتماعية. - إنهم موتى يا يوسف، موتى ولا جرثومة حياة فيهم، فلا تتعب نفسك في إحيائهم، بل دعهم يتمادون في فنائهم لكي تتحول هذه القوة المالية التي عندهم لغيرهم من العامة، الذين هم أحق بها منهم، فإذا أحيينا أنفسهم وتابوا عن الملاهي والحانات وأندية القمار، بقيت فلوسهم محبوسة في خزائنهم، فدعهم في غيهم يعمهون، دعهم يسكرون ويقامرون لكي تتدفق تلك الأموال إلى السوق فيذهب هذا السلاح من أيدي الأشرار إلى أيدي الأخيار.
فتنهد يوسف وقال: آه لو صح ما تقول، ولكن هذا السلاح يتحول من أشرار إلى من هم أشر، يتحول من السكيرين إلى بائعي المسكرات، ومن الفاسقين إلى تجار الأعراض، ومن المقامرين إلى ناصبي أحابيل القمار.
عند ذلك دخل رجل حسن البزة، وأومأ إلى جورجي أن يتبعه، فخرج جورجي من القهوة إليه وتهامسا قليلا أمام الباب، ثم تركه ذاك ومضى، وكان يوسف متشوفا إلى الخارج فرأى ذلك الرجل يعود إلى مركبة تنتظره في الشارع، ثم لمح في المركبة سيدتين وفي الحال عرف هيفاء إحداهما، ووقعت عينه على عينها، أما أمها فكان نظرها يتبع ذلك الرجل حتى ركب معهما.
بين المال والعمل
فلما عاد جورجي سأله يوسف: من هذا الرجل؟ - يدعى جميل مرمور، وهو وكيل رجل غني جدا يدعى فهيم بك رماح. - هل تعرف رماح بك؟ - أعرفه قليلا؛ لأني سمسرت له، هذا رجل قدير فقد جمع ثروة طائلة في بضع سنين، وساعده الحظ إذ اغتنم فرصة المضاربات بالأراضي. - هل هو مصري؟ - كلا، لا أظن، وأظنه سوريا ولكنه عاد من أميركا على ما فهمت من وكيله، وكان معه بعض المال فجعل يضارب بالأطيان فكان من الرابحين، وهو يتنعم الآن فعنده مركبات وخيل وأتوموبيلات وخليلات و... - خليلات؟ أليس متزوجا؟ - ولماذا يتزوج مثل هذا والنساء كلهن له؟ - إذن توافق على سلوكه هذا؟ - وافقت أو لم أوافق، هذا هو شأن الكثيرين من الأغنياء يستطيعون أن يتمتعوا فيتمتعون. - كم خليلة لهذا الشرير؟ - قيل لي: إن له ثلاث خليلات. - إنه لدنيء. - دنيء؟ هو الشريف الفاضل، وإذا كلمته لا تقول إلا: «يا حضرة الفاضل.» وإذا كتبت له قلت: «يا صاحب السعادة.» والفقير يمضي له: «عبد سعادتكم.» وإذا سافر كتبت عنه الجرائد: «سافر سعادة الوجيه السري النبيل فهيم بك رماح.» وإذا اكتتب بعشرة جنيهات لجمعية خيرية كتبت الجرائد: «تفضل سعادة الأريحي الكريم المفضال فهيم بك رماح بعشرة جنيهات.» فهل هذا دنيء؟ أنا وأنت دنيئان؛ لأننا لا نملك قرشا، وأنت إذا سكنت في منزل فيه امرأة قالوا: «إنك ساقط.» وأما هو فيستطيع أن يأتي بخليلته إلى الأوبرا على مرأى من الجمهور، وإذا زرته في مقصورته في الأوبرا وجب عليك أن تنحني احتراما لخليلته. - والله لا أفعل، وإذا دخل مثل هذا الفاسق إلى مجلس أنا فيه لا أقف له، وإذا تكلم بصقت في وجهه؛ لأن مثل هذا يجب أن يخبئ وجهه في كمه إذا ظهر في مجلس.
فضحك جورجي قائلا: إذا دخل فهيم رماح إلى مجلس أدار الجلاس وجوههم عنك، ولو كنت تلقي عليهم حكمة سليمان ووجهوا أنظارهم إليه ولو كان يهذي، وإذا تكلمت في حضرته قالوا لك: «صه، الكلام لمن هو أوجه منك.» - لا أحضر مجلسا كهذا. - المجلس الذي لا يتشرف بحضور مثل فهيم لا يعد مجلسا معتبرا. - أكتفي بهذا المجلس الذي أعده أشرف من مجلسه. - لا تجد فيه إلا موتا، وأما المجلس الذي يكون فيه مثل فهيم فهو مجلس الأحياء؛ لأن هؤلاء السراة مصدر الحركة الحيوية في الهيئة الاجتماعية، وفي يدهم «زنبلكها»، فإذا راموا أوقفوا حركة العالم. - إنك متطرف يا جورجي، العالم بالعامة لا بالأغنياء. - العالم بالأغنياء لا بالعامة. - من بنى هذه البناية؟ الفعلة والبناءون وهم من العامة، ومن يجر مركبات النقل هذه التي تنقل البضائع؟ العامة، ومن صنع هذه المصنوعات؟ العامة، ومن اشتغل الخبز الذي نأكله وربى الخراف التي نطبخها؟ العامة. - نعم، ولكنهم فعلوا ذلك بأموال المتمولين، يحبس هؤلاء أموالهم فلا يعود الصانع يستطيع أن يصنع ولا الزارع أن يزرع. - ولكن من أين هذا المال الذي في أيدي المتمولين؟ هل هم خلقوه أم صنعوه؟ وما معنى المال؟ أليس هو نتيجة عمل؟ ألا تعلم أن كل قرش هو بدل عمل يساوي قرشا، ولولا العمل ما حصل القرش؛ فالقروش تمثل أتعاب العمال؟ ولم يكن من قرش في الدنيا إلا وقد بذل بدله تعب في عمل، فإذن الأموال نتيجة عمل العمال فالعالم بالعامة. - نعم، الأموال نتيجة عمل العمال، ولكن هذه الأموال في أيدي الأغنياء، وهم المتصرفون بها، فإذا أمسكوها وقفت حركة العمل، ولم يعد العامل يجد مسترزقا. - وإذا أضرب العمال عن العمل لم تعد أموال الأغنياء ذات قيمة؛ لأنهم لا يقدرون أن يأكلوا ذهبا وفضة ونيكلا ولا يلبسون بنك نوت «ورق عملة». - ولكن العامة لا يقدرون أن يضربوا عن العمل؛ لأنهم يحتاجون إلى نتيجة عملهم؛ لكي يأكلوا ويلبسوا. - والأغنياء لا يقدرون أن يحبسوا أموالهم؛ لئلا تصبح بلا قيمة. - نعم، لا يوافقهم أن يحبسوها، ولكنهم أقدر على حبسها من العمال على الإضراب عن العمل؛ لأن الغني إذا اضطر إلى التوقف عن تثمير ماله يبقى ماله لسد حاجته، فيستخدم عاملا لزرع قمحه وصانعا لنسج ثوبه وصنع حذائه، فماله قوته وهو يستخدم هذه القوة لأوده ومعيشته، وأما العامل فإذا أضرب عن العمل كان ملغيا قوته، فبماذا يعيش؟
فسكت يوسف هنيهة ثم قال: كأنك تقول: إن قوة العامل لا تستغني عن قوة المال، ولا تستطيع أن تبرز إلا بها؛ لأن الناسج لا يقدر أن ينسج إلا إذا كان بين يديه قطن ينسجه، والقطن بمال فإذا لم يكن مال ليشتري قطنا فالناسج لا ينسج ... - نعم، وأقول أيضا: إن المال لا غنى عن العمل؛ لأنه إذا وجد المال لشراء القطن فالقطن لا ينسج لنفسه، بل لا بد له من عامل ينسجه، فالمال بلا عمل صفر كما قلت أنت، ولكنه أقدر من العمل، فهو يستطيع أن يشتري القطن وناسجه معا؛ ولهذا قلت لك: إن «زنبلك» الحركة في أيدي الأغنياء. - إنك فيلسوف في الأمور الاقتصادية فسر معي إلى العمق فيها، ألا تسلم معي أن المال نتيجة العمل، ولولا العمل لم يكن من مال؟ - أسلم. - إذن هب أن المتمولين انقطعوا عن العمال، أو أن المال انفصل عن العمل، فالعمال يعملون من جديد لينشئوا مالا جديدا يكون سبب الحركة بينهم.
فضحك جورجي وقال: إنها لنظرية صحيحة ولكنها لا تخرج إلى حيز الفعل إلا إذا محقت هذا العالم كله، وخلقت آدم وحواء جديدين وأنشأت عالما جديدا، ولكن ما دام العالم يشتمل على 1500 مليون نسمة، فما هو حاصل الآن لا بد من حصوله، والعالم لا يستطيع أن يغير مجراه إلا بويل عظيم على الإنسانية أشد جدا من ويل تحكم المتمولين بالعمل. - إذن تسلم بتحكم المتمولين بالعمل. - نعم، ولكن لا مناص منه. - ألا تعتقد أن الاشتراكية هي الدواء الوحيد للشفاء من هذا التحكم. - نعم قد تكون الاشتراكية هي الدواء، ولكن العلاج بها إذا لم يكن تدريجيا كان قاتلا، كالدواء الذي تعطيه للعليل دفعة واحدة، وهو مقسم إلى جرعات متتابعة في مواعيد متباعدة. - إنك فيلسوف اقتصادي كبير. - كما أنك فيلسوف اجتماعي أدبي كبير. - كيف أدركت هذه الحقائق؟ - بالاختبار الطويل. - ولكن ألا تعتقد أن في هذا النظام الاجتماعي ظلما وويلا على الإنسانية. - أعتقد، ولكن لا مناص منه. - نعود إلى فهيم رماح ونتخذه مثلا ولا نقصده بالذات، هل يجوز لمثل هذا أن يجمع الأموال من أتعاب العمال. - جمعها بذكائه ومهارته. - بل ابتزها بذكائه ومهارته؛ لأنها لم تحصل إلا لقاء تعب عمال، فكل قرش في يده يمثل تعبا في عمل قرش، وهو لو رام أن يتعب في عمل ليحصل ثروته الطائلة ما جمع منها عشر معشارها في حياته، ولو عاش ألف عام. - نعم، إنه لم يتعب في مقابلها، ولكنه جمعها أو ابتزها كما تقول، وقد أصبحت ملكه. - أصبحت ملكه؛ لأن هذا النظام فاسد وهذا ما يؤيد مبادئ الاشتراكية، التي تقضي بتوزيع الريع على قدر العمل. - أوافقك على ذلك، والعالم سائر في مبادئ الاشتراكية هذه بحرب عوان بين المتمولين والعمال، والحرب لمن غلب. - يسرني جدا أننا وصلنا إلى حقيقة واحدة اتفقنا عليها، وما دامت هذه الحرب سجالا، فلا بدع أن يغلب العمال على أمرهم حينا بعد آخر، ولكن الغلبة الأخيرة لهم. - عسى أن يصح هذا الحلم. - نعود إلى رماح هذا، هل يجوز له أن يبذر ثروته هذه على الزواني وعلى الخلاعة والفساد؟ - لا يجوز له، ولكن ليس من قوة تمنعه. - ما قولك لو أنفق هذه الأموال في عمل نافع للعمران ، فينتفع هو ويسترزق معه عمال عديدون؟ - حسن جدا، ولكنه لا يفعل وليس من يستطيع إرغامه على أن يفعل، فهو لا يهتم بالعمران ولا بأهله، بل يدع العمران يهتم بنفسه وهو يهتم بلذته، هل تستطيع أن تنفي الأنانية من البشر؟
فتنهد يوسف وقال: آه ... الأنانية ... الأنانية هي سبب هذا الويل على الهيئة الاجتماعية، لا أطيق تصورها. - أنصح لك يا أخي أن تعبدها، وإلا فلا تستطيع أن تعيش ساعة في هذا العالم. - حماني الله من شرور الأنانية والطمع. - إني أشفق عليك يا أخي. - أشفق عليك من كره الأنانية والطمع؛ لأنك سائر في تيارهما حتما، إذ لا تستطيع أن تعيش في المريخ أو في زحل بل على هذه البسيطة، وأينما ذهبت كنت بين الأنانيين والطامعين والنمامين والماكرين والمنافسين والمزاحمين، فإذا لم تزاحم طامعا مخادعا ماكرا كنت مطموعا بك مخدوعا مدفوعا إلى الوراء، في حين اندفاع سواك إلى الأمام، فتقع بين أرجل من هم وراءك.
Bilinmeyen sayfa