فسكت فهيم وفكر هنيهة، ثم قال: إنك يا نديمة سر لا يدرك، ولكني أود أن أعلم سرك قبل أن أقدم على هذا المشروع، فقولي لي: ما علاقة هذه الفتاة بك؟
فضحكت نديمة وقالت: ابنتي. - تكذبين، قولي الحقيقة. - قلتها. - لا أصدق أن أما تفعل هكذا. - وإذا قلت لك: إنها ابنة أختي. - ولا ابنة أختك. - هذه هي الحقيقة، ولماذا لا تصدق؟ أليست الفتاة التي في المطرية خليلتك بعلم أمها ورضاها؟ - نعم ولكن لأم تلك أحوالا أخرى. - مثل أحوالي، تلك لم تكن زوجة شرعية وأنا لم أكن زوجة شرعية لأحد، وقد قضيت حياتي خليلة لواحد بعد آخر، كما أنت تقضيها الآن، وكما يقضيها كثيرون. - وتريدين أن تسير هيفاء في هذا السبيل؟ - ماذا يضرها أن تسير فيه كما سرت أنا فيه؟ وهل تطمع بأن تعيش أفضل من عيشتي مع أخلائي، وعيشة خليلاتك معك؟ - هبي أني تركتها بعد حين. - لا تتركها إلا وتترك معها ما يقيها الفقر. - أفليس الأفضل أن تزوجيها زواجا شرعيا من فتى كفء؟ - لا أجد الفتى الذي أعيش معه ومعها كما أريد، فقد تعودت أن أعيش عيشة الرخاء. - إذن تسعين إلى مصلحتك. - لا أظنك تلومني، وإلا فما كنت أعنى بتربيتها حتى صارت وردة جميلة أو ثمرة شهية، هل تلومني؟ - لا ألومك. - طبعا لا تلومني؛ لأن مبادئك تنطبق على مبادئي، وأحسب نفسي سعيدة بأني توفقت إلى صديق لا يستنكر مبادئي، فهل تستنكرها؟ قل، إنك حر الضمير. - لا أقدر أن أستنكرها؛ لأني جار عليها. - وكثيرون مثلنا يجرون عليها والدنيا لهؤلاء.
فضحك فهيم قائلا: ماذا تعنين؟ - أعني أن ما يسمونه مبادئ أدبية وفضيلة لا يجتمع مع الغنى إلا نادرا، دلني على واحد من أقرانك الأغنياء يسير في غير هذا السبيل. - لا أجد واحدا؛ ولهذا أستغرب تمسك الناس بهذه المبادئ الأدبية التي لا حرمة لها عند الأغنياء، فلماذا لا يلغونها حتى تتمتع كل طبقة بالحرية المطلقة؟
فضحكت نديمة قائلة: كأنك غبي لا تدري أن إطلاق الحرية لجميع فئات الناس، يزيل الحد الفاصل بين الغني والفقير وبين القوة والضعف وبين الاستعباد والعبودية، فلو تيسر أن يكون كل الناس أحرارا لكان نصيبك من التمتع عشر نصيبك منه الآن، فلا تقدر أن تتمتع ما لم يتقشف عشرة أشخاص غيرك، وهذه المبادئ التي يسمونها أدبية ليست إلا قيودا للفقراء؛ لكي يستحكم الأغنياء منهم لامتصاص دمائهم، والتمتع بإتعابهم.
فقهقه فهيم قائلا: أراك تتكلمين كاشتراكية، فلا أنت عاملة ولا أنا صاحب عمل، فلماذا تتعرضين لمسألة التنازع في الأمور الاقتصادية؟ نحن نتكلم بمسألة المبادئ الأدبية. - كل الأمور مرتبطة بعضها ببعض، ترى الفقير بل المتوسط يقمع شهواته ويحرم نفسه لذاتها، ويلزم جانب الاستقامة حتى ينال سمعة حسنة، ويذاع عنه أنه فاضل؛ فالفضيلة هي رأس ماله الوحيد، وبها وحدها يكسب ثقة معامليه؛ ولذلك تراه إذا قرب في سبيله من منتدى للفجور أو الخلاعة أو القمار تجنبه؛ لئلا يقال عنه: إنه فاسق أو خليع أو مقامر فيخسر ثقة معامليه ؛ وبالتالي يفقد مسترزقه ويعد ملوثا بالعار، وأما المثري المستقوي بماله فيقني الحسان كما يقني الجياد، ويتقلب بين الحانات وأندية القمار كأنه يتردد بين المعابد والمساجد، وليس من يجسر أن يفتح فمه بمثلبة به، بل يضطر المقربون إليه أن يبجلوه وينعتوه بجميع النعوت الحميدة كأنه نموذج الفضيلة. - لا أنكر هذا الواقع، ولكني لا أجد علاقة بينه وبين موضوع اهتضام الأغنياء للفقراء. - بينهما كل العلاقة؛ فإذا كان كل الناس أفاضل مستقيمين، وكل منهم قنوعا بحقوقه، فلا يكون ثمت هاضم ومهضوم، ولكن لما كان الناس اثنين متنازعين - الواحد شرير طماع والآخر فاضل قنوع - صار في وسع الأول أن يختلس حق الثاني حين يكون القانون غامضا ومنفذ القانون غافلا، أما الثاني فلا يستطيع أن يختلس حق الأول؛ لأن الفضيلة شكيمة لضميره تكبح نفسه عن الاعتداء على حق سواه، فترى أن الأول حر والثاني مقيد، وهما في ساحة نزاع؛ فالأول مستحكم من الثاني طبعا؛ ولهذا استقوى الأول بما اختلسه من الثاني فصار ذاك غنيا وهذا فقيرا، وذاك سيدا وهذا عبدا، وذاك فوق المبادئ الأدبية وهذا تحت نفوذها.
فبهت فهيم من تعليل نديمة، وتحمس في الرد عليها قائلا: لا أنكر أن الفضيلة قيد لذويها يضعفهم تلقاء قوة الأشرار، ولكني لا أسلم أن الطمع يفضي إلى الغنى دائما، ولا أن الفضيلة تقود إلى الفقر، فبين الفقراء أشرار وبين الأغنياء أفاضل. - ولا أنا قلت ما لا تسلم به كما أني لا أنكر هذا الاستثناء الذي تقوله، وإنما أقول لك: إن معظم الذين ادخروا الثروات الطائلة في حياتهم لم يحرز الواحد منهم جنيها، إلا كان أحد السذج المتمسكين بالفضيلة قد اشتغل مجانا شغلا يساوي الجنيه، فإذا لم يوجد في العالم كثيرون مثل هؤلاء السذج، فلا يمكن أن يجمع أولئك الطماعون تلك الثروات الطائلة.
فقهقه فهيم قائلا: «إذن فلتحي الفضيلة.»
فقالت نديمة باسمة: لا تهزأ بقولي يا فهيم، نعم، فلتحي الفضيلة، وليكثر الأفاضل السذج؛ لأنهم هم الأغنام التي تقتات بها ذئاب البشر. - كأنك تمثلين الأغنياء بالذئاب. - ليس الأغنياء كلهم ذئابا ، بل بينهم أغنام سمينة تأكلها ذئاب أخرى قوية، كما أنه ليس كل الأفاضل أغناما، بل فيهم ذئاب في جلود الأغنام يقفون في المعابد يضرعون ولكن لإله المال، ويصلون وهم يفكرون في استنباط المكايد لغيرهم، هم الفريسيون الذين قال عنهم الناصري: إنهم يعفون عن البعوضة ويبلعون الجمل، فهؤلاء أشر الذئاب، والحمد لله أنك لست منهم، بل أنت ذئب قوي لا يخشى أن يقتات جهارا بأغنامه.
وهنا قهقهت نديمة ملء شدقيها، وقهقه فهيم معها، ثم قال: والله إنك لفيلسوفة، وما كنت أظنك محنكة هذه الحنكة، فمن أين لك كل هذه الخبرة يا نديمة؟
فابتسمت قائلة: لقد اختبرت العالم جيدا يا فهيم، وذقت حلوه ومره، وكنت سيدة وأمة وذئبا ونعجة. - ولكنك خبيرة جدا بشئون الأغنياء. - لأني كنت خليلة غني. - أين؟ - هنا في مصر. - من هو؟ - لا أود أن أقلق راحته الآن في رمسه، دعنا منه. - دعينا منه، نعود الآن إلى هيفاء، أليس لها أهل يهمهم أن يعلموا مصيرها؟ - كلا لا تخف، ليس لها أهل غيري. - أبوها؟ أمها؟ - لا أب ولا أم. - عموم؟ أخوال؟ - لا يهتمون بأمرها. - من هم؟ - لا تسل عنهم. - أود أن أعرف أصلها وفصلها، وإلا فلا أجسر أن أقدم على المشروع الذي اقترحته. - لا تعقد المسألة يا فهيم. - ماذا يضرك أن تقولي من هم؟ إذا كانوا لا يهتمون بأمرها، فأود أن أعلم لمن أنتسب فيما لو صارت هيفاء حليلتي ولو بالرغم مني.
Bilinmeyen sayfa