الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
Bilinmeyen sayfa
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل الأول
Bilinmeyen sayfa
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
Bilinmeyen sayfa
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
آدم الجديد
آدم الجديد
Bilinmeyen sayfa
تأليف
ثروت أباظة
الفصل الأول
كان «حيدر أبو عبيد» تواقا أن يهب له الله غلاما من زوجته زنوبة الملواني التي تزوج بها منذ ثلاث سنوات.
وما كان زواجه عن حب وإنما بعد تفكير وتدبر وبإلحاح على أبيه؛ فقد كان يرجو أباه أن يخطب له، ولم يكن حيدر رهيف الفؤاد ولا كان تعلق بفتاة بعينها، ولا كان يعنيه أن تكون زوجه ذات جمال أو شيء من مال ولا أن تكون ذات رشاقة أو تكون هيفاء القوام.
كل ما كان يريده أن يتزوج. وحين فاتح أباه «عبيد الكيالي» في هذا الأمر فوجئ بأبيه يقول له بعد صمت قصير: انتظر حتى يختار ربنا إلى جواره أحد فتيان القرية.
وتولى الذهول حيدر: ما صلة زواجي يابا بموت واحد من فتيان القرية. - يكون مهرها نصف الفتاة البكر. - وإذا لم يمت أحد من فتيان القرية؟ - لا بد أن يموت. - متى؟ - حين يريد الرحمن الرحيم. - قد تمر سنوات. - ونحن ماذا وراءنا؟!
وأطرق حيدر لحظات ثم قال: وماذا نفعل إذا كانت زوجة الذي يموت عندها عيال وتضطر أو أضطر أنا أن أنفق عليهم من دم قلبي. - قد تكون بلا عيال. - إذن فقد تكون عقيما. - أو يكون الزوج هو العقيم. - إذن يابا أنت تريد أن تنتظر حتى يموت فتى من فتيان شقلبان، وأن يكون هذا الفتى عقيما. - لا يكثر على الله يا بني. - كثر خيرك يابا.
وانصرف حيدر عن أبيه، وراح يفكر وحده في هذا البخل الشديد الذي خلقه الله مع هذا الأب.
فهو شحيح بالسليقة حتى ليفكر إذا شرب كم يكلفه كوب الماء وهل يحتاج إليه كاملا أم يكتفي بنصفه.
Bilinmeyen sayfa
ولم يستطع رغم هذا التقتير والشح على نفسه وعلى بنيه أن يجمع شيئا من المال يساوي العيشة الضنك التي يعيشها هو وابنه وابنتاه.
ذهب حيدر في ذلك اليوم إلى صديقه بيومي رمضان، وروى له الحوار الذي دار بينه وبين أبيه، وعجب أن بيومي لم يدهش، بل قال: إن فعل أبوك غير هذا فلا يكون عم عبيد الذي نعرفه. - لك حق، ولكن كيف استطاع أن يصل إلى هذا التفكير؟ المهم ما الحل؟ - لا حل إلا أن تعتمد على نفسك. - كيف؟ - اسرح معي. - ماذا أفعل؟ - ما أفعله. - يا أخي أنت تشتري إردبين ذرة أو قمحا أو شعيرا قبل موعد الحصاد بثمن بخس ممن ضاقت بهم الحياة واضطروا إلى مال قبل الحصاد، وتبيع ما تشتري بعد الحصاد وتكسب شيئا هائفا، ولا يكاد ما تكسبه يكفيك؛ ومع ذلك تريدني أن أسرح معك! - جرب حظك. - ومن أين لي برأس المال؟ - أي مبلغ. - أنت تعرف البير وغطاه. - أسلفك في العملية الأولى. - على بركة الله.
وحدث فعلا ما توقعه بيومي، وبدأ حيدر يكسب صبابات من المال استطاع في نهاية العام أن يكتنز منها عشرين جنيها. وخيل إليه أنه أصبح من الأثرياء؛ فعشرون جنيها كانت تعني شيئا ذا شأن؛ وخاصة لابن عبيد الكيالي.
قال: بيومي، ما رأيك؟ - الحمد لله. - ليس هذا ما أسألك فيه. - إذن ماذا تريد؟ - ألا تكفي هذه الجنيهات لتجعلني أتزوج؟ - ولم لا؟! على أن تختار فتاة فقيرة يريد أهلها أن يزوجوها لأي أحد مهما يكن فقيرا وأبوه عم عبيد الكيالي. - وأنا لا يهمني من تكون. وهل تتصور أن أكون ابن عمك عبيد الذي لا يجهل أحد بخله وأضع شروطا للزوجة التي تقبلني؟! - توكل على الله. - أتعرف واحدة؟ - أعرف. - انطق. - زنوبة. - بنت حميدة بائعة الفجل. - ما عيبها؟ - والله نعم الاختيار. ثم إن البنت أيضا ليست قبيحة قبحا يدعو إلى النفور. - على العكس، بيضاء وقوامها حلو. - على بركة الله. - هيا نذهب إلى أبيك ليخطبها لك. - وأبي ما شأنه بهذا. - إنه أبوك مهما كان شحيحا جلدة. - لو طلبت منه ذلك سيرفض طبعا. - قل له إنك ستدفع المهر من جيبك. - ولو. أليست ستعيش معنا في البيت وستكلفه المأكل والمشرب. لقد زوج خيرية وروحية قبل أن يبلغا السادسة عشرة ليتخلص من طعامهما وشربهما. - اسمع. - ماذا؟ - هيا بنا إلى خالتك حميدة مباشرة، وما فيه الخير يقدمه ربنا.
وفعلا قدم الله سبحانه الخير لحيدر، وقبلت حميدة زواجه من زنوبة، ولكنها توسلت إليه: اسمع يا حيدر، أنا وزنوبة ليس لنا رجل، وأنا والحمد لله أكسب طعامي ولا أطمع فيك، ولكني أرجوك أن تعيش معنا في البيت حتى لا أصبح وحدي إذا أخذت أنت بنتي الوحيدة.
وفكر حيدر قليلا. ولم لا؟! إنني بهذا سأكون قد أرضيت أبي كل الإرضاء. وأنا الآن عرفت طريقي بتسويق بضعة الأجولة من الحبوب، وأستطيع أن أنفق على نفسي وعلى زوجتي، وأمها أيضا إذا اقتضى الأمر. وحينئذ لن يجد أبي سببا في منعي من الزواج. - والله القول قولك يامه حميدة.
وذهب إلى أبيه، وقبل أن يكمل حديثه قال أبوه: ألم تجد إلا بنت حميدة.
وأكمل حيدر متغاضيا عن اعتراض أبيه: ومعي مهرها، وسنعيش في بيت أمها.
ولم يمهله أبوه بل سارع: والله ونعم الاختيار؛ خذوهم فقراء يغنكم الله. - أطال الله عمرك. - والفرح من سيدفع تكاليفه؟ - ولا فرح ولا يحزنون. ثلاث زجاجات شربات وكم نفر من الأعيان ودمتم. وأنا الذي سأشتري الشربات. وتم الزواج. •••
ومرت عليه ثلاث سنوات دون أن تنجب زنوبة له طفلا، وكان هو قد مرن على العمل في سوق الغلال، ولكن في كميات غاية في الهوان والضآلة؛ ولهذا لم يكن عجيبا أن يعيش حياة فيها كثير من الاقتصاد إذا أشفقنا أن نقول فيها كثير من الضيق.
Bilinmeyen sayfa
ومع ذلك كان يتوق إلى طفل.
وشاء الخلاق العظيم أن يحقق له أمنيته، وحملت زنوبة. وربما كان مما يستحق الذكر أنها ولدت ولدها يوم مات جده عبيد وربما في نفس اللحظة. وصدق بيت شوقي العظيم الذي استوحاه من القرآن الكريم:
فقلت أحكامك حرنا لها
يا مخرج الحي من الميت
وفرح حيدر كل الفرح بالولد الذي رزق به، ولعله في خبيئة نفسه فرح أيضا بموت أبيه، ولكنه اضطر تحسبا للناس ونقدهم أن يلجم الفرحتين. وأقام لأبيه شبه مأتم، ولم تجرؤ واحدة من النسوان اللواتي حضرن ولادة ابنه أن تزغرد أو أن تبدي أي فرح بمجيء الغلام.
وهكذا قدم ابن حيدر البكر في مأتم جده قدوما صامتا لا يجاوب فيه بكاء المولود زغاريد ذويه وصديقات أمه. •••
لم يجد حيدر اسما خيرا من عبد الشكور ليسمي به ابنه؛ وكيف لا يشكر الله وقد ورث خمسمائة جنيه عن أبيه ورزق بابنه البكر في يوم واحد.
الفصل الثاني
أوشك الجيش الألماني أن يدخل مصر حين وصل العلمين. وراحت الجيوش الإنجليزية تجمع أوراقها.
وفجأة انقلبت المعارك انقلابا تاما لصالح الجيش البريطاني، وتشتت الجيش الألماني بددا في الصحراء، وأصبح هم الجنود الألمان الباقين على وجه الحياة من الجيش الألماني أن يهربوا من الأسر الإنجليزي.
Bilinmeyen sayfa
وانتشر من الجنود الألمان في قرى الدلتا، وكان من نصيب شقلبان جنديان من الألمان؛ هما مارك وهوفمان، وكان مارك يجيد الإنجليزية، ولم يكن في شقلبان أحد يستطيع أن يكمل جملة إنجليزية إلا عبد الشكور، الذي كان قد وصل إلى السنة الثانية من التجارة المتوسطة، التي دخلها بعد جهد جهيد مع والده حيدر، الذي كان يصر أن يخرجه من المدارس بعد الابتدائية ورفض كل الرفض أن ينتسب إلى الدراسة الثانوية. - والله لا يمكن. - يابا أنا لا أمل لي في الحياة إلا أن أحصل على شهادة جامعية. - كنت ابن من أنت حتى تنال شهادة جامعية؟! - أقل مني حصلوا عليها. - آباؤهم كانوا يطيقون. - ادفع لي المصاريف وأنا سأعمل وأعيش. - هذا كلام؛ حتى إذا دخلت الفاس في الراس أصبحت مضطرا أن أتكفل أنا بكل شيء. وكان بيومي رمضان حاضرا فإذا هو يصيح فجأة: تاهت ووجدناها.
ونظر حيدر إليه في لهفة، وأكمل بيومي: تدخل التجارة المتوسطة.
قال حيدر: ولو أنها ستكلفني إنما لا بأس، وأمري إلى الله.
وقال عبد الشكور: أمري أنا إلى الله.
وهكذا لم تجد القرية إلا عبد الشكور ليرطن مع الأجنبيين اللذين قدما إليها وهما في ملابس رثة وذقنين متطاولين، واستطاع عبد الشكور أن يفهم عن مارك الذي يتقن الإنجليزية كل الاتقان إنهما هاربان من موقعة العلمين، وأنهما سارا على ساحل البحر مستعينين بالزاد الذي صحباه من جيشهما، وحين بلغا الإسكندرية حرصا أن يختبئا في النهار ويسيرا في الليل، حتى وصلا إلى الطريق المؤدي إلى مديرية البحيرة، فراحا يتنقلان بين القرى موغلين في الدلتا، واتفقا على أن يبتعدا عن الإسكندرية ما أطاقا البعد؛ حتى لا تعثر عليهما القوات الإنجليزية. وفهم عبد الشكور عنهما أن القرى جميعها كانت ترحب بهما حين يعلم أهلوها أنهما من جيش هتلر، الذي كان يمثل عند الغالبية العظمى من المصريين الخلاص من الاحتلال البريطاني البغيض.
وطلب أعيان شقلبان إلى عبد الشكور أن يلح عليهما أن يقيما عندهم عندما علموا أن مارك نجار وأن هوفمان ميكانيكي كهربائي. وقد تداول الأعيان فيما بينهم وانتهى رأيهم إلى هذا الطلب، الذين أرادوا من عبد الشكور أن يبلغه للهاربين. وقد ارتأى هؤلاء الأعيان أنهم أولا سيكرمون جنديين من جنود هتلر، وثانيا سينتفعون بخبيرين في النجارة وإصلاح ماكينات الري والدراس. ورحب الجنديان بهذا العرض.
ولم يتصور أحد من القرية المدى البعيد الذي سيؤثر به بقاء هذين اللاجئين في حياة عبد الشكور جميعها. •••
كان عبد الشكور رغم تلقيه الدراسة بمدرسة التجارة المتوسطة يقيم في البلدة؛ فقد رأى أبوه أن هذا وإن يكن مجهدا لولده إلا أنه أكثر وفرا من أن يستأجر له حجرة في المدينة. وهكذا كان عبد الشكور يصحو قبل الفجر ليكون بالمدرسة في موعده.
وهكذا أيضا كان فقر أبيه المدقع سببا فيما صار إليه أمره بعد ذلك.
وفي لحظة من اللحظات التي تصيب الإنسان من أحلام اليقظة حلم عبد الشكور أن يعقد صداقة بينه وبين مارك ويتعلم منه الإنجليزية والألمانية. ولماذا لا؟ إنه يعلم أنه حتى بعد انتهائه من دراسته لن يجد الوظيفة في انتظاره، وقد كان يرى حملة الشهادات حيارى ضائعين بشهاداتهم لا يجدون وظيفة؛ فقد كانت أزمة الوظائف في تلك السنين طاحنة (شأنها دائما) فكيف به وهو لا يحمل إلا مؤهلا متوسطا.
Bilinmeyen sayfa
أصبح عبد الشكور موقنا كل اليقين ألا أمل له في الحياة إلا أن يتقن لغة، ويزداد الأمل إن أصبحت اللغة لغتين.
أنا لا أملك مالا، ولا بد أن مارك سيحتاج إلى مال. أبي بالكاد وبتجارته المتهافتة يقيم أود بيتنا؛ على الرغم من أنه لا ولد له غيري. وأنا لا أحصل على حلة إلا بطلوع الروح. ولكن انتظر يا ولد يا عبد الشكور؛ مارك لن يحتاج إلى مال فقط، وأغلب الأمر أن القرية بما تحتاجه من الأعمال فيها ستمكن الهاربين من الحياة؛ إنما مارك يحتاج إلى من يكلمه؛ فلا شك أنه وصديقه قد استنفدا بينهما كل حديث.
لأعقد بيني وبينه صداقة وطيدة، وأتفق معه أن أعلمه اللغة العربية ويعلمني هو الإنجليزية التي يتقنها ولا أدري لماذا؛ مع أن الألمانية هي لغته الأصلية. •••
في خبث لا نظير له أراده له الخلاق الفعال بدأ عبد الشكور يرمي شباكه على مارك ولا يحرم منها هوفمان. وما لبث أن عرف أن مارك من أم إنجليزية؛ وفهم سر اتقانه الإنجليزية.
وبدأت خطة عبد الشكور تأخذ طريقها إلى الوجود.
وليس أثمن من سمير أو أنيس، مجرد أنيس في وحشة الغربة بين قوم لا يفهمون عنك ولا تفهم عنهم. وقد رحب الغريبان كل الترحيب بإقبال عبد الشكور عليهما.
وبدأ يعلمهما العربية، وراح مارك يعلمه الإنجليزية، وراح هوفمان يعلمه الألمانية؛ وهكذا لم يضطر أن ينتظر حتى يتقن الإنجليزية ليبدأ بعدها في الألمانية، بل درسهما في وقت معا.
وقد وجد فيما يدرس جميعه أمله الأكبر في الحياة، وبجهد المستميت راح يذاكر.
ولكن لا بد له من كتب في اللغتين، ولم يجرؤ أن يفكر في أن يطلب إلى أبيه ثمنها وهو اليوم قد أتم دراسته ومكث بالقرية ينتظر فرج الله.
وراح أبوه يتوسل إلى كل ذي أكرومة أن يجد لابنه وظيفة، ولكن هيهات. وعبد الشكور يريد ثمن الكتب. - آبا. - مالك؟ - ماذا عليك إذا جعلتني أساعدك في البيع والشراء؟ - وهل ترى العمل متسعا حتى أحتاج إلى من يساعدني؟! - إذا عملت معك اتسع العمل. - وماذا تريد مني؟ - ثمن الصفقة الأولى. - أأدفع لك لتزاحمني في رزقي. - وأين سأذهب بالمال؟ إني سأدفع لك نصف ما أكسب. - وتنافسني في السوق. - ما رأيك أن تستمر أنت في تجارة الحبوب وأتخصص أنا في تجارة القطن. - ومن أين لك بثمنه؟ - أنا لا أريد منك إلا عربون العملية الأولى، وفي السمسرة متسع للجميع. - لا بأس. على أن أشاركك في المكسب. - طبعا.
Bilinmeyen sayfa
وكان عبد الشكور أذكى من أبيه؛ فكان يشتري القطن من الموزعين بثمن، بخس ولا ينتظر حتى موعد المحصول، وإنما يبيع ما اشترى بأسرع ما يمكن إلى أثرياء القرية الذين كان يطمعهم في رخص الثمن بزيادة الكمية التي سيبيعونها في الموسم، مدركين أنه كلما كبرت الكمية ارتفع السعر الذي سيعرض عليهم.
ولم يكن عبد الشكور أمينا في محاسبة أبيه؛ فاستطاع أن يشتري الكتب التي يحتاجها بجهد جهيد. ولكن الخطة نجحت على كل حال، على الأقل بالنسبة لعبد الشكور؛ فهو لم يكن يطمح إلى الغنى - لا قدر الله - في هذه المرحلة من حياته؛ وإنما كان أمله كله أن يتقن اللغتين حديثا وكتابة.
وتم له ما أراد في سنوات لم يكن فيها يضيع لحظة متاحة أو غير متاحة لدراسة اللغتين، وأتقن أيضا معهما تجارة القطن والسمسرة فيه.
بل تعلم شيئا لم يخطر له ببال؛ فقد علمه الألمانيان المتحضران آداب المائدة وكيف يستعمل أدواتها بمهارة لا تتأتى إلا لمن كان في بيتهم مائدة وخدم أيضا.
وحين أحس أنه قادر أن يواجه الحياة وفي لسانه ويده هاتان اللغتان مع خبرة التجارة قال لأبيه: أنا يابا سأسافر إلى مصر. - ماذا تعمل بها؟ - أبحث عن وظيفة. - ومن أين لك وأنا لم أترك ثقب إبرة إلا حاولت فيه أن أجد لك عملا، ولكن الطرق جميعها سدت أمامي وأمامك. - أنا أعرف طريقي. - وطبعا تريد مني مالا. - معي. - من أين؟ - مما كسبته في هذه السنوات. - إذن لن تكلفني شيئا. - على الإطلاق. - مع السلامة. - سلمك الله. - ولكن اسمع! - أمرك. - حين تستقر أرسل إلي بعنوانك حتى أعرف طريقك؛ فأنا ليس لي غيرك، ويعلم الله يا بني أني ما بخلت عليك، ولكن العين بصيرة واليد قصيرة. - أعلم يا أبي. ولولا أنك ساعدتني ما استطعت أن أجمع القرشين اللذين سأذهب بهما إلى مصر. - كان أبي بخيلا، ولكني لم أكن معك بخيلا، وإنما كنت عاجزا. - يابا أنا أعرف ذلك. - أنا لا أريد منك شيئا حتى يفتحها الله عليك. كل ما أريد منك ألا تحمل معك في سفرك وغربتك غضبا علي؛ فالله وحده يعلم كم أحبك؛ فأنت كل أملي في الحياة، ولا أعيش إلا لك. - يابا أنت لا تحتاج إلى هذا الحديث. وسترى حين يكرمني الله كيف سأرد لك المعروف. - أنا لم أمنعك من الدراسة الجامعية بخلا وإنما عجزا. - أعلم يا أبي. وأنت لا تحتاج إلى هذا الكلام. •••
وحين أخبر عبد الشكور مارك وهوفمان بانتوائه السفر قال مارك: متى؟ - في أقرب وقت.
والتفت مارك إلى هوفمان وقال له: هوفمان، إننا الآن معنا ثمن تذاكر الطائرة. - نعم. - فما بقاؤنا؟ - وماذا تريد أن تفعل؟ - نسافر مع عبد الشكور. - وماذا نفعل؟ - نذهب إلى السفارة الألمانية وهي كفيلة بأن تعيدنا إلى ألمانيا. - أي ألمانيا، الشرقية أم الغربية؟ - الغربية. - ألا تخشى أن يقبض علينا الإنجليز؟ - وماذا يصنعون بنا؟! الحرب انتهت، وتم تقسيم ألمانيا، واستقرت الأمور. - فإن جرت الأمور بما لا نريد؟ - إذا كنا وجدنا رزقنا في شقلبان فمن المؤكد إننا لن يصعب علينا أن نجد رزقنا في محلات النجارة والميكانيكا والكهرباء في القاهرة.
وقال هوفمان لعبد الشكور: ما رأيك؟ - الفكرة جيدة. - أترى ذلك؟
وقال عبد الشكور: نستأجر ثلاثتنا حجرة في القاهرة، ونعيش معا حتى تجدا وسيلة للسفر أو تجدا عملا. - وأنت ماذا ستفعل؟ - لا تخافا علي أنا أعرف طريقي كل المعرفة. - متى نسافر؟ - أليست النقود جاهزة. - طبعا. - نسافر غدا في الفجر. - وهو كذلك. - وهو كذلك.
الفصل الثالث
Bilinmeyen sayfa
كان وجود أماكن للسكنى في القاهرة أيسر شيء جهدا.
فما أسرع ما استأجروا شقة ذات غرفتين وحمام ومطبخ بجنيهين في الشهر. وفي اليوم التالي نزل ثلاثتهم؛ الأجنبيان إلى السفارة، أما عبد الشكور فقد كان يعرف وجهته كل المعرفة. •••
ذهب إلى بنك الاقتصاد والتوفير وسأل أول ساع واجهه: أريد أن ألقى المدير.
نظر الساعي بازدراء إلى ملابسه وهيئته ولم يملك إلا أن يقول له: المدير مرة واحدة! - إن كان على مرتين لا مانع.
وضحك الساعي معجبا بسرعة بديهته: فيم تريده؟ - لو كنت طلبت مقابلتك لكان من الطبيعي أن تسألني. - واضح أنك فصيح. - وهل يمنع هذا من مقابلة المدير؟
وأشار الساعي: آخر باب على اليمين تجد السكرتير، وأنت وحظك.
قال له السكرتير: وفيم تريده؟ - إنه مدير بنك، ومفروض أنه يقابل أي طالب للمقابلة. - واضح من مظهرك أنك لست صاحب حساب أو صلة بالبنوك. - وهل يمنع هذا أن تعود مقابلتي للمدير بنفع على البنك؟ - لا فائدة من مناظرتك. ما اسمك؟ - عبد الشكور حيدر. - وعبد الشكور أيضا! - اسم فيه الشكر مقدما قبل أن يقدم سامعه ما يحتاج الشكر. - حسنا، حسنا، انتظر.
ودخل السكرتير إلى المدير: شخص غريب يريد مقابلتك. - وما الغرابة فيه؟ - ملبس متهالك وذكاء واضح. - ما اسمه؟ - عبد الشكور. - فقط؟ - حيدر. - لحسن حظي أنني ليس عندي ما يشغلني الآن، هاته نتسلى عليه.
ودخل عبد الشكور ليلقى صبحي حسان بك مدير البنك. - أهلا يا بني. - أهلا بسعادتك. - اقعد. - شكرا، أطال الله عمرك. - ماذا أستطيع أن أقدم لك؟
وفي سرعة حاسمة أجاب عبد الشكور: وظيفة. - بحالها! - بأي حال لها؟ - ولماذا أوظفك؟ - أؤكد لسعادتك أنك ستوظفني. - واضح أنك تعرف ما تريده تماما. - وأعرف أيضا أنني جدير بأن أحققه. - عجيبة! - وأين العجب؟ - أنا لا أعرفك، وهيئتك لا تشجع على التفاؤل، وأنا لا أعرف مؤهلاتك التي يبدو عليك أنك مطمئن إليها كل الاطمئنان؛ ومع كل هذا الغرور منك أشعر بميل نحوك. - هذا أول الطريق إلى آمالي. - بعض الناس ينعم الله عليهم بملكة الحضور. - قرأت يا سعادة البك إنهم أجروا إحصاء واسعا في أمريكا ثبت منه أن الناس جميعا متساوون في السعادة والشقاء، وأن كل إنسان ينال قسطا من السعادة قدر ما ينال الآخر، ومن الشقاء مثل ما يصاب به الآخر. وأسباب الشقاء عندي واضحة؛ فليس غريبا أن أملك قدرها من وسائل النعمة. - اشرح أكثر. - إذا نال إنسان السعادة الوافرة في جانب واجهه القدر نفسه من الشقاء في جانب آخر من حياته؛ بحيث تكون النتيجة النهائية أن يصبح الجميع متساوين فيما يحصلون عليه من الهناء والشقاء. - فهمت ما تعني. هل تؤمن بالله؟ - الموقف الذي أنا فيه الآن يحتم على أن أقول: كل الإيمان. - لماذا؟ - لأنني أسعى جاهدا أن أبلغ رضاءك علي. - وكيف عرفت أنني أرضى بإيمانك؟ - منصبك وما أنت فيه من أبهة. - وإذا كان يرضيني أن أعرف حقيقة إيمانك. - لا أملك أمامك إلا أن أقول: نعم، إني مؤمن. - أتقول الحق؟ - أقول ما يرضيك. - لا فائدة أن أصل معك إلى حقيقة إيمانك. - ولماذا لا تكتفي سعادتك مؤقتا بظاهر الأمر مني؟ - ماذا رماك علي؟ - ما يذكره الناس والصحف عنك. - مثل ماذا؟ - مثل أنك تسلمت هذا البنك وهو في طريقه إلى الانهيار الكامل فجعلت منه مؤسسة من أكبر المؤسسات الاقتصادية في الشرق أجمع. - أهذا المديح من باب المحاولة المستميتة التي تبذلها لإرضائي. - ربما كان هذا، ولكنني في الوقت نفسه أردد ما سمعت. - أتتصور أنني بهذا الحوار سأعينك؟ - لا بأس أن أحاول. - أنت تعرف لا شك أن باب التوظيف مقفل تماما. - ومع هذا قصدت إليك. - هل كل ما في جعبتك هذا الحديث الواضح الإصرار. - لو كان هذا كل ما أملك ما تركت قريتي وقصدت إليك دون كل الأشخاص الآخرين ذوي النفوذ. - هل تملك شيئا في قريتك هذه؟ - كنت فيها أحصل على لقمتي دون ملبس. - فأنت إذن ... - أفقر من الفقر. - واضح. - إن ما أقوله لسعادتك غير خاف عليك بحكم مظهري، حتى إذا استطعت أن أتغلب على هذا المظهر فلن أذكر هذا الإنسان حتى آخر يوم في حياتي. - ماذا كنت تعمل في القرية؟ - سمسار قطن. - وأبوك هل هو على قيد الحياة؟ - سمسار حبوب يحصل لي ولأمي ولنفسه على ما يسد الرمق بجهد جهيد. - أهذه مؤهلاتك؟ - سعادتك حتى الآن لم تسألني عن مؤهلاتي. - وها أنا ذا أسأل. - تجارة متوسطة. - التجارة العليا لا يحصل صاحبها على وظيفة عندنا أو عند غيرنا إلا بواسطة لا تقاوم، فما بالك بالمتوسطة! - لو كانت هذه الشهادة هي كل مؤهلاتي ما تجرأت أن أخطو عتبة هذا البنك. - ماذا عندك. - إجادة تامة للغة الإنجليزية لا يصل إليها خريج جامعة في قسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب. - فقط؟ - ونفس الإجادة للغة الألمانية مع خبرة ستلمسها إذا عينتني بشئون القطن وبالسوق عامة. - خبرة السوق وفهمناها، ولكن من أين لك باللغتين؟ - هذه من بين المقومات التي تكون حظي من السعادة. - ألغزت فأفصح. - مصادر تعلمي لا أظنها تهم سعادتك، وإنما الذي أعتقد أنه يعنيك هو النتيجة. - والمصدر أيضا. - مصيري أن أرويه لسعادتك في يوم من الأيام. - ومن أين علمت أنني سأراك بعد اليوم؟ - طول حوارك معي على هوان مظهري، إلى جانب شيء آخر أخاف أن أذكره. - بل اذكره. - ثقتي بنفسي. - أهو نوع من الغرور مرة ثانية؟ - بل هو اطمئنان أن بنكا كالذي تديره يحتاج إلى مؤهلاتي؛ وخاصة إذا أضفنا إلى ذلك ما عرف عنك من حرص على نجاح المؤسسة التي تعمل بها.
Bilinmeyen sayfa
وفجأة قلب صبحي بك حسان النقاش من اللغة العربية إلى اللغة الإنجليزية التي يتقنها، وأجرى لعبد الشكور امتحانا عسيرا في إجادة اللغة الإنجليزية انتهى منه بأن قال له بالعربية: إن كنت تجيد الألمانية إجادتك للإنجليزية فإنك عملة نادرة. - أستطيع مؤقتا أن أقول لسيادتك إنني تعلمتها عن ألمان، أما كيف كان ذلك فأرجو أن تتركه سعادتك للأيام. - أظن أن من حقك الآن أن تتكلم عن الأيام الآتية. - إذن ... - لقد عينتك، وسأعرف خبرتك في القطن من الممارسة. - أتسمح لي بشيء، على شرط ألا تتمنع. - ماذا تريد أن تقول؟ - إنه ليس قولا، بل إنه عمل.
وقفز عبد الشكور فجأة من كرسيه واختطف يد صبحي وقبلها؛ الأمر الذي تم في لحظات وامضة لم تعط أي فرصة لصبحي أن يتأبى أو يمنع موظفه الجديد عما صنعه.
الفصل الرابع
تمكن الهاربان الألمانيان من الحصول على أوراق تسمح لهما بالعودة إلى ألمانيا، وطلب إليهما عبد الشكور أن يكتبا له عن عنوانيهما بمجرد وصولهما إليها.
ولم يكن أحد منهما يعرف أين سيستقر به المقام، كما كانا يجهلان ما بقي من أسرتيهما على قيد الحياة، فقال مارك لعبد الشكور: سأكتب إليك بمجرد وصولي إلى الأرض الألمانية.
ثم التفت إلى هوفمان قائلا: وأنت يا هوفمان ألا تنوي أن تفعل ذلك. - بالطبع، ولكن هل تنوي يا عبد الشكور البقاء في هذا البيت بعد أن أصبحت صاحب وظيفة. - المؤكد أنني سأنتظر أخباركما هنا حتى أعرف العناوين التي أراسلكما عليها.
وقال هوفمان: إننا سنطلعك الآن على سرنا الذي أخفيناه عليك طوال هذه السنوات. - ألكما سر؟ - كلانا مهندس متخرج في أعظم كلية في ألمانيا كلها، فلا تعجب إذا جاءك منا أخبار تفيد أننا نعمل في وظائف غاية في الأهمية.
وأكمل مارك: بالطبع ألمانيا اليوم تحتاج أكثر ما تحتاج إلى المهندسين بعد أن سحقت الحرب مدنها. - هل تعلمان إن كانت أسرتيكما في ألمانيا الشرقية أم الغربية؟
وقال مارك: الأمر الذي لا شك فيه أن أسرتينا في ألمانيا الغربية، وسنزداد وثوقا من هذا حين نصل إلى هناك. - هل أنتما متزوجان؟ - كان لكل منا فتاة لا شك أنها تزوجت الآن.
وأكمل مارك: أنت تعلم طبعا أن أخبار أهلنا في ألمانيا الآن خافية عنا تماما، وسنكتب لك بالتفصيل عند عودتنا. - لم يخبرني أحدكما عمن ترك من أقارب هناك.
Bilinmeyen sayfa
قال هوفمان: أنا ومارك كلانا تركنا أبوينا وأمينا على قيد الحياة، وأنا تركت مع أبوي أختين تصغراني، ومارك ترك أختا تصغره وأخا طفلا.
وقال مارك: انتظر أخبارنا كلها في أول خطاب نكتبه إليك. - إني منتظر.
وما هي إلا أيام قلائل حتى تمكن مارك وهوفمان من مغادرة مصر. •••
كان عبد الشكور يعرف تماما ما هو صانعه بالبنك.
لقد حرص أول ما حرص على أن يوثق صلته بصبحي حتى يجعله يحس أنه لا يستطيع أن يستغني عنه.
وكانت أولى خطواته في هذا السبيل أن يجعل من نفسه شبه خادم لسكرتيره نبيل معوض.
وقد كان شابا في ربق العمر حاصلا على ليسانس الحقوق، وكان من قرية صبحي بك نفسها، بل إن أباه كان يعمل ناظر زراعة لمائة الفدان التي يملكها صبحي عن أبيه، وقد امتنعت مساحة الأرض على قانون الإصلاح الزراعي فلم تنتزع الحكومة شيئا من أرضه؛ مما جعل الثورة لا تعتبره من أعدائها. وقد أتاح له ذلك أن يرقى في البنك إلى منصبه هذا الذي يشغله؛ وخاصة أنه لم يكن من عائلة ذات مكانة ولا خطر؛ مما يسر له أن ينضم إلى منظمات الثورة، ويظهر غلواء في تأييدها والهتاف لقائدها الأول ثم لقائدها الثاني؛ مما جعله من أهل الولاء والكفاءة في وقت معا؛ الأمر الذي لم يتيسر إلا لقلة نادرة في هذه الأيام. أما نبيل فلم يكن أبوه يملك إلا خمسة أفدنة، استطاع بها وبعون من صبحي وأبيه أن يكمل تعليم نبيل في كلية الحقوق، عاجزا بضآلتها في الوقت نفسه أن يعلم ابنيه الآخرين مرسي وعيسى، اللذين لم يكن أمامهما إلا أن يعملا فلاحين في أرض صبحي بك، وقد تمكن كلاهما من أن يحصل على خمسة الأفدنة مما وزعتها الثورة من الأرض التي استولت عليها. وقد نالا ما نالا من أرض الغني الكبير في قريتهم متولي باشا خطاب، الذي نال الباشاوية حين تبرع للمشاريع الخيرية بخمسة آلاف جنيه في عهد الباشاوات.
عرف عبد الشكور كل شيء عن نبيل معوض من ساعي مكتب المدير حسنين عبد المولى.
وقد عرف منه أيضا في دعوة الغداء التي دعاه إليها من أول مرتب يحصل عليه من البنك أن صبحي بك متزوج من ابنة عمه صافيناز هانم عبد الموجود، ذات الأم التركية التي لا يعرف حسنين اسمها الذي لم يسع إلى معرفته؛ فالأم قد تركت الحياة قبل أن يتزوج صبحي ابن الفلاحين من ابنتها.
وانتظر عبد الشكور أن يصل إلى الخوافي من أخبار صبحي حين يوثق صلته بنبيل؛ الأمر الذي أعد له كل الإعداد؛ وخاصة حين أبلغه حسنين أن نبيل يحب الفتيات الجميلات، أو غير الجميلات إن لم يتيسر له غيرهن.
Bilinmeyen sayfa
وقد وجد عبد الشكور منفذه إلى نبيل، وترك للأيام أن تلج به إلى هذا المنفذ. •••
كانت وظيفة عبد الشكور في قسم الأقطان، وقد أراد صبحي أن يرى مقدار كفاءته.
وانقضت بضعة أسابيع، وبدأ موسم شراء الأقطان، وتحرى عبد الشكور أن يبتعد في مشتريات البنك عن شقلبان؛ حتى لا يرى سبيلا إلى أبيه، بل تحرى أن يبتعد عن المركز جميعا الذي يعرف أغلب أهله ويعرفونه؛ فقد كان حريصا أن يقطع ما بينه وبين هذه الأيام بكل ما وسعه من جهد.
بدأ عبد الشكور جهاده الوظيفي في الصعيد، وكان هذا أمرا طبيعيا؛ فقد كان موسم القطن يبدأ في الصعيد قبل الوجه البحري بفترة طويلة. وقد استطاع بسابق خبرته في الصفقات ضئيلة الشأن أن يكون ماهرا غاية المهارة في عقد الصفقات الكبيرة، واضعا في الحسبان أن أكبر مالك لا تزيد أرضه عن مائتي فدان بعد تطبيق قانون الإصلاح الزراعي.
وقد استطاع عبد الشكور أن يثبت لصبحي نجاحه الفائق في عقد الصفقات، فكان أكثر زملائه نشاطا.
وكان يراعي في أول الأمر أن يكون صادقا مع البنك، متلمسا سرقة المشترى في السمسرة التي حرص ألا يعلم عنها البنك شيئا؛ حتى إذا انتهى من الصعيد انتقل إلى الدلتا في نشاط منقطع النظير؛ مما عاد على البنك بمكاسب لم يحققها البنك في هذا المضمار من قبل؛ الأمر الذي وفر لعبد الشكور قدرا من المال اعتبره هو في البداية جديرا بكل احترام وإجلال؛ فإن كمية النقود التي أتيحت له لم يسبق له أن رآها بله أن يملكها.
كانت أنباء صديقيه قد وصلت إليه، وأصبح قادرا أن يستأجر شقة صغيرة كل الصغر في حي الزمالك، بإيجار لو سمع به أبوه لأصابته سكتة قلبية؛ فقد كان يدفع عشرة جنيهات إيجارا للشقة التي كانت تتكون من غرفة نوم واحدة وغرفة للطعام وصالة صغيرة، وحمام لولا صاحب البيت ما عرف عبد الشكور كيف يتعامل معه.
وكانت الشقة خالية فنقل إليها سريره المتهالك وكرسيين أثارا مع السرير سخرية البواب في العمارة الجديدة.
كان لا بد أن يؤثث الشقة الجديدة بما يليق بأناقتها وفخامة العمارة التي تحتويها. وفي هذا التأثيث عرف طريقه إلى نبيل. - أجرت شقة بالزمالك. - الزمالك مرة واحدة. - إن لم يكن السكن جميلا فما قيمة حياة الإنسان. - كم إيجارها؟ - ولا يهمك. المهم أريد أن أؤثثها، وليس لي إلا أنت لتشتري لها أثاثا يبدو لائقا بالحي ويكون في الوقت نفسه ملائما لعبد الشكور. - أي عبد الشكور تقصد؛ الذي رأيته قبل أن يعين أم الذي أجر شقة في الزمالك؟ - كل ما أرجوه منك أن تنسى عبد الشكور الذي كنت من القلة النادرة الذين رأوه بمصر قبل التعيين. - طبعا أنت تقصد بمصر القاهرة. - الذين عرفوني من بلدتنا وما حول بلدتنا لن يروني أبدا على كل حال. - وأبوك وأمك. - يكفيهما أنني وفرت عليهما اللقمة التي كنت أقتطعها من قوتهما. - كنت أظن نفسي عاقا لأنني لا أزور أهلي وأكتفي برؤية أبي حين يأتي لمحاسبة صبحي بك! - كن وفيا لنفسك أولا، أما الآخرون فعليهم أن يدبروا أمر أنفسهم. - ألم يعرف أبوك أنك عينت وأنك استأجرت شقة في الزمالك؟ - ولماذا يعرف؟ - ألم يعرف على الأقل إن كنت على قيد الحياة أم لحقت بالرفيق الأعلى؟ - المؤكد أنه يعلم أنني لم أمت وإلا حملت إليه ليتولى دفني. - واضح أنك أرحت نفسك تماما. - لا. اطمئن. المهم قل لي ماذا ستفعل معي في مسألة الأثاث؟ - الأثاث أمره هين. - كيف؟ - عندنا في البنك قسم خاص بشراء احتياجات البنك في هذا المضمار، ورئيس هذا القسم حمدي خميس، وهو الذي يشتري ما يحتاجه صبحي من أثاث. - يا نهار أسود! وما لي أنا لصبحي بك وما يشتريه من أثاث. لو اشترى حمدي مثلما يشتري لصبحي بك لما أكمل ما معي ثمن كرسي واحد للشقة. - على مهلك، على مهلك، إن كل العاملين في البنك يلجئون إليه، وخبرته بالأثاث الرخيص أعظم من خبرته في الأثاث الغالي. - وصبحي بك. - إنه يشتري له ما يحتاجه المطبخ والخدم، أما أثاث صبحي بك فتشتريه صافيناز هانم التي تختار دائما أغلى الأثاث مما لا نعرفه ولا نعرف أسماء الماركات التي ينتسب إليها. - هل صافيناز هانم مسرفة؟ - مصيرك ترى حساب صبحي بك بالبنك لتعلم أن دخله لا يكفي طلبات زوجته وحدها. - والأولاد؟ - المهم عند صافيناز هانم نفسها أولا ولبسها وأثاث بينها والولائم التي تقيمها. - والأولاد؟ - كلاهما أيضا مسرف وإنما في حدود مطاقة بالنسبة لأبيهما. - عرفت أن عنده ولدا وبنتا. - الولد في السادسة عشرة، والبنت في الرابعة عشرة. - اسم الولد رأفت، أظن. - على اسم خال صافيناز هانم التركي. - الاسم مشترك، لا تعرف إن كان اسم أنثى أو اسم رجل. - لا يهم، المهم أنه اسم تركي. - اسم البنت سمعته ولكني لم أستطع أن أحفظه. - هان زاده، على اسم ستها من أمها طبعا.
سرح عبد الشكور لحظات. واضح أن صافيناز هانم هي العنصر الأساسي في بيت صبحي بك، وواضح أيضا أنها خاربة بيت زوجها. وهذه ماذا أصنع لها؟ لا بد أنني واجد لها سكة، وحين أجدها تكون أهم طريق لصبحي. ولو أنني من الآن أكاد أكون قد عرفت أحسن وسيلة لصبحي وصافيناز معا. لأطويه وأطويها تحت جناحي ما علي إلا أن ... وارتاع من صمته وسرحته المليئين بالضجيج على صوت نبيل يصيح به: هيه، أين ذهبت؟ - معك. - بجسمك. - وبعقلي. هل سترسلني إلى حمدي خميس؟ - بل يأتي هو إليك. إنك في مكتب المدير، وأنا أريد أن تكون شقتك عظيمة؛ فأنا أعتبرها كشقتي تماما.
Bilinmeyen sayfa
وفهم عبد الشكور الإشارة، وفرح بها كل الفرح، وأكمل نبيل: فرق بين أن تذهب إلى حمدي كأي موظف في البنك وبين أن يأتي هو إليك ويتسلمك من مكتب المدير العام.
ورفع نبيل سماعة التليفون وأدار رقمين وقال: حمدي، تعال.
ولما أقفل التليفون، قال عبد الشكور: ألا تقول صباح الخير. - مكتب المدير لا يقول صباح الخير. - ألم يقل هو لك صباح الخير. - طبعا قالها بكل حماس. - لم تردها عليه. - مكتب المدير لا يرد التحية. - لا تؤاخذني على جهلي. - ما زال أمامك الطريق طويلا. - واضح. •••
اشتر الأثاث بمعونة حمدي الذي وفر علينا مبلغا ضخما من المال. استطاع عبد الشكور أن يكسب احترام البواب الذي كان قبل مجيء الأثاث الجديد يحتقره احتقارا لا خفاء فيه.
الفصل الخامس
قال عبد الشكور لصبحي بك: أرجو أن تكون راضيا عني. - واضح أنك خبير بسوق القطن خبرة عظيمة. - ولكن الموسم انتهى، هل سأظل بلا عمل حتى الموسم القادم. - وماذا تريد أن تعمل؟ - هناك قسم في البنك درسته في المدرسة ولا أعلم عنه أي خبرة عملية. - أي قسم؟ - الأسهم والسندات. - والله فكرة لا بأس بها، ولغاتك تؤهلك للعمل في هذا القسم؛ على أن تعود إلى القطن في موسمه. - طبعا.
وأعطى صبحي بك أوامره أن يلتحق عبد الشكور بقسم الأسهم والسندات في البنك.
وفي اليوم التالي تسلم عمله. •••
استقبله فتحي السبكي رئيس القسم بترحاب حذر؛ أما الترحاب فبناء على أوامر صبحي بك، وأما الحذر فلن يلبث عبد الشكور أن يتبين ما يتخفى وراءه.
عرف عبد الشكور أول ما عرف عن فتحي السبكي أنه متصل بدهاقين التنظيم السياسي الأوحد؛ وهكذا انفتح أمامه باب جديد للنفاق.
Bilinmeyen sayfa
وثق صلته بفتحي السبكي؛ حتى إنه منذ أول يوم حرص أن يرافقه في الطريق إلى بيته؛ ليتعرف على مكان البيت، وليؤنس فتحي السبكي في مشواره.
كان فتحي السبكي يملك سيارة لا هي بالسيارة الفارهة ولا هي بالقميئة. وحين وصلا إلى عمارة السبكي قال لعبد الشكور: تفضل نتغدى سوا. - عزومة مراكبية طبعا. - كانت كذلك فعلا، ولكن ما دمت قلت ما قلت فأقسم بالله لن تتغدى إلا معي اليوم. - أصبح أمرا. - اعتبره كذلك.
وانتهز عبد الشكور الفرصة ليوثق صلته بفتحي ويتعرف على أسرته. ولم يفته للوهلة الأولى أن العمارة في جاردن سيتي، وأنها فخمة واضحة المهابة.
وصعد مع فتحي إلى بيته. واضح أنه كريم؛ فدعوته هذه لا تأتي من بخيل. وواضح أيضا أنه يريد أن يبهرني بمسكنه ومأكله.
كانت زوجة فتحي السبكي سيدة في أواسط العمر بشوشا، لم تفزع من الضيف المفاجئ، واثقة أن الطعام الذي لديها لا يخشى هابطا على بيتها دون انتظار.
الشقة فاخرة والأثار واضح الأناقة.
قال فتحي لزوجته وفية سعيد: الأستاذ عبد الشكور حيدر زميلي الجديد في القسم.
وسارع عبد الشكور صائحا: العفو، بل مرءوسه الصغير جدا.
وأحس فتحي بالزهو أمام زوجته، وما لبث أن أسفر عما وراء إصراره أن يتغدى عبد الشكور معه حين قال لوفية مقدما مزيدا من التعريف بالضيف: إنه مقرب جدا من البيه المدير، ويعتبره من أحسن موظفي البنك؛ رغم أنه لم يعين إلا منذ أشهر قلائل.
وانتهز عبد الشكور فرصة لا يمكن أن يفلتها لنافق رئيسه المباشر الذي يرجو منه الخير الكثير: المهم رضاء سعادتك.
Bilinmeyen sayfa
وقال فتحي فجأة: هل جاء الأولاد؟
وقالت وفية: ليس بعد.
ودار الحديث بين عبد الشكور وفتحي، وعرف منه أن لديه ابنين وابنة، وأن الابنة أكبرهم، واسمها ناهد، وهي في الثانوية العامة في هذا العام. أما الولدان فكلاهما في أواخر الدراسة الإعدادية، يسبق أحدهما واسمه باسم أخاه الأصغر بعامين هما فارق السن بينهما. ولم تفت الفرصة عبد الشكور: واضح أن ثلاثتهم مجتهد في دراسته. - كيف عرفت؟ - فارق الدراسة بين ثلاثتهم متفق تماما مع فوارق السن. - اسم الله عليك، لا تفوتك الفائتة! فعلا ثلاثتهم مجتهد، وإن كان ثلاثتهم لا يقبلون أن يلبسوا إلا أفخر ملبس، وناهد تصر على أن أشتري لها سيارة إذا نجحت في عامها هذا وذهبت إلى الجامعة. - من حقها، ولماذا لا تأتي لها بسيارة؟! - ربنا يقدرنا. - وإلى أي كلية تريد أن تنتسب. - يا سيدي مصممة على الطب، والحقيقة أن تفوقها في دراستها السابقة سيمكنها أن تحقق أملها إن شاء الله. - ستدخل الطب وبكرة نشوف. - قل إن شاء الله. - ستدخل الطب. أنا مكشوف عني الحجاب. - سنرى. - سترى.
وقدمت وفية هانم في ترحاب تدعوهما إلى الغداء. وكانت المائدة عامرة. وأدرك عبد الشكور طبعا أن الذي أمامه من الطعام هو لا شك نصيب الأبناء الذين لم يأتوا بعد إلى البيت، وأدرك أيضا السعة التي يحيا فيها رئيسه المباشر. ولم تفته الخادمة التي تلبس ملبسا محترما وتقوم بشأن ثلاثتهم على المائدة.
قال عبد الشكور وهم يتناولون قهوة ما بعد الغداء: أشرب القهوة وأتركك لتستريح فترة القيلولة. - أنت شرفت. - بل أنا الذي تشرفت فعلا لا مجاملة. هل ستخرج بعد الظهيرة. - طبعا أنا كل يوم أذهب إلى مقر التنظيم. - صحيح. - طبعا. - هل عندك مانع أن أصحبك إلى المقر وأتعرف على الأقيال الذين نعرفهم. - بالعكس فقد كنت سأعرض عليك أن تأتي معي. - متى تذهب؟ - في الساعة السادسة أكون هناك. - أنا سأعود إليك هنا في الخامسة والنصف وأذهب معك. - وهو كذلك. •••
وهكذا قدر لعبد الشكور أن يضع أقدامه على سلم توقع هو أن يصل به إلى السماء السابعة. •••
ذهب عبد الشكور إلى المقر والتقى هناك بسكرتارية الكبار ومساعديهم. واختار في اليوم الأول أن يتعرف إلى ما يرضي كلا منهم. واستطاع فيما تلا ذلك من أيام أن يكون لصيقا للغالبية العظمى منهم، وإذا استعصى عليه أحدهم رفض أن يركن إلى اليأس في شأنه، بل راح يلوب حوله ليعرف الباب الذي يدخل منه إليه ويطرقه، فإن لم يجد الطرق مجديا احتال على فتح الباب بأي وسيلة أخرى، ولو أدى الأمر إلى اصطناع مفتاح مزور.
لقد استقر في أعماق عبد الشكور استقرارا وطيدا أنه يملك ما لا يملكه أحد؛ فهو بلا أصل ولا كرامة ولا مثل، ولا تعنيه مشاعر السماء نحوه، وهو أملس ليس لديه أي شيء يخشى عليه، وهو يعلم أنه ثعلبي الخبث، وأنه ابن سوق، وأنه صاحب مقدرة على التصرف والحديث بما يجعل سامعه في حالة من السعادة والهناء والرضى عن نفسه لا تتهيأ له مع أي إنسان آخر غير عبد الشكور؛ وهكذا لم يكن عجبا أن يطمئن غاية الاطمئنان إلى أنه يحوز في يده كل مفاتيح الغنى، وذلك مؤقتا عن طريق البنك، أما مسالك الجاه فهو يرنو إليها عن طريق معارفه الجدد في مقر التنظيم، منتويا أن يقفز على رءوسهم إلى الصدور والقادة من رؤسائهم، الذين يملكون في يدهم مقادير الناس جميعا. وكلمة جميعا هذه تنصرف إلى المقادير وإلى الناس في وقت معا؛ فقد كان على بينة وثيقة أن حكام ذلك العهد على رأسهم الحاكم الفرد الذي لم يكن الآخرون بالنسبة إليه إلا دمى يحركها كما شاءت أهواؤه. كان على بينة أنهم يملكون من الناس مقاديرهم، ليس في وظائفهم أو أعمالهم العامة وحدها، بل كانت أيدي الحاكم والدمى تمتد إلى خاصة حياتهم والمستتر الخافي من شئونهم وشئون ذويهم.
وكان واثقا أيضا أن طاغية العهد لا شأن له مطلقا بالإيمان بالله ولا بأحكامه ولا بآخرته.
كان عبد الشكور على بينة من هذا جميعه، فأدرك أن المستقبل لن يفتح له ذراعيه على مصراعيهما إن لم يجد إلى بلاط الفئة الحاكمة منفذا واسع الأرجاء. وكانت ثقته بمقدار سفالته ونفاقه تملأ نفسه يقينا أنه بالغ من مطامعه ما يشتهي ويريد؛ حتى ليكاد أن يتحدى الأيام أنه لا شك إلى نجاح وفلاح.
Bilinmeyen sayfa
الفصل السادس
بدأ عبد الشكور يتعرف على طبيعة العمل في قسم الأسهم والسندات، وما لبث أن فرض نفسه على فتحي السبكي حتى أصبح أقرب المقربين إليه.
وبهذه الصلة الوثيقة تبين له ما أذهله.
لقد كان فتحي يتصرف في أسهم الناس وفي سنداتهم كأنها ملك شخصي؛ ينال منها على غير علم من أصحابها مكاسب فادحة.
وتظاهر عبد الشكور أنه لا يفهم ما يصنعه فتحي، وصرف جهده أول ما صرف إلى التعرف على أصحاب هذه الأسهم؛ فالغالبية العظمى منهم هم أصحاب الأموال الجسام الذين لم يكن العهد الحاكم قد مسهم بعد.
وعن هذا الطريق تعرف على أصحاب الثراء العريض والأصل الرفيع، حتى إذا وثق صلته بهم عاد إلى فتحي الذي كان قد أمن له كل الأمان وجعله يتعرف على خوافي الأمور وسراديبها.
وكان فتحي على قدر واسع من الذكاء؛ مما جعله يتيح لعبد الشكور أن يقوم ببعض العمليات التي تعود عليه بالربح الوفير؛ وإن لم يكن إلى وفرة عمليات فتحي طبعا.
في يوم من الأيام بينما هو في مكتبه طلبه نبيل في التليفون: ماذا تعمل؟ - مهما يكن ما أعمله أنا تحت أمرك. - تعال.
وحين جلس عبد الشكور أمام نبيل قال نبيل: أتذهب إلى السينما؟ - فيما ندر. - لماذا؟ - يا نبيل يا حبيبي، أنا العمل الذي لا أكسب منه لا يلزمني. - ربما تكسب تسلية. ويقولون إن بعض الأفلام المأخوذة عن أعمال كبار الكتاب قد تكسب ثقافة. - هل هذه الثقافة تنفعني في البنك؟ - المؤكد أنها تنفعك في الحياة. - كيف؟ - في معاملة الناس ومحادثة أهل الحل والربط. - والله لك حق؛ فأنا لا أعرف أعظم من صبحي بك. ومن يدري لعل الأيام ترمي بي في طريق بعض العظماء. - هذا أمر وارد لا شك. - بدأت أتعرف بأصحاب الأسهم والسندات من الأثرياء الكبار والباشاوات والبكوات السابقين، وأقول لك الحق: ما زلت أتهيب أمرهم وكأنهم ما زالوا باشاوات وبكوات. - العظمة عند أغلب هؤلاء ليست في الرتبة وإنما في الطبع والتصرف والخلق والثقافة ومعاملة الناس والحياة. - لك حق. ما زال لهم جلالهم وهيبتهم وكأن الثورة لم تقم. - وطبعا أبوك لم يكن يعرف واحدا منهم. - وما الداعي لهذه الملحوظة. - أقصد أن ثقافتك قاصرة في هذا الشأن. - مؤكد. - فلا بد أن تثقف نفسك حتى تعرف كيف تحادثهم. - بالسينما؟ - بالسينما وبالكتب وبالروايات الكبرى لعظماء الكتاب. وإلا ماذا ستفعل إذا حدثك واحد من هؤلاء في الحياة العامة ووجدك لا تعرف أسماء الكتاب المصريين والعالميين. - يا نهار أسود! تكون مصيبة. - ابدأ بالسينما. - أبدأ بالسينما. - أنا عازمك اليوم في حفلة الساعة السادسة. - أذهب معك. - بل تذهب وحدك. - ماذا؟ - ما سمعت. - أمرك. - وهو كذلك. أظنك في هذه الفترة لن تكون محتاجا لشقتك. - يا نبيل يا حبيبي، لم تكن محتاجا لكل هذا لتستعمل الشقة. - أنا أعلم ذلك، ولكن الحديث جر بعضه، وعليك أن تعلم أنه بصرف النظر عن مسألة الشقة فإن كل ما قتله لك صحيح، وعليك أن تهيئ نفسك لمعرفة هؤلاء الأجاويد. - والله أنا وزنت ما تقوله ووجدته معقولا. - ألم أقل لك. - فعلا لك حق. خذ المفتاح. - شكرا. - أنا لا مانع عندي أن أزيد نفسي ثقافة وأذهب إلى حفلة الساعة التاسعة أيضا على حسابي الخاص. - يا نهارك أسود! أتريد أن تطردني زوجتي من البيت. - لماذا؟ - انت انهبلت! أدخل عليها الساعة الثانية عشرة ولا تطردني. - وإذا طردتك، تنفذ الطرد؟ - سأكون بين اثنتين لا ثالث لهما؛ إما أن أخرج وأتصرف في المبيت بأحد الفنادق، وإما أن تأخذ هي العيال وتذهب إلى بيت أبيها وتصبح فضيحة بجلاجل. - وما الداعي؟! يكفيك حفلة الساعة السادسة. - وأين أترك لك المفتاح؟ - إنني منذ عرفتك وأنا معد نفسي لهذا الطلب الذي أعتقد أنه تأخر كثيرا. - ماذا تعني؟ - معي مفتاح آخر، وغدا آخذ منك المفتاح الذي أعطيته لك الآن. - ولماذا لا تبقيه معي؟ - لا، لا يمكن. لا بد أن تطلبه مني كلما احتجت إليه. وإلا فوجئت بي على رأسك في الشقة وربما في السرير أيضا. - فعلا، فعلا، لك حق. غدا أعطيك مفتاحك. - سأكون عندك بكرة قبل أن تشرب قهوتك. - وهو كذلك.
الفصل السابع
Bilinmeyen sayfa
طبعا لم يكتف عبد الشكور بالعمليات الصغيرة التي يتركها له فتحي، ولم يكن منذ أول لحظة منتويا أن يكتفي بها، ولكنه كان يدبر للأمر منذ الوهلة الأولى، ورأى أن خير وسيلة أن يجعل فتحي يثق فيه ثقة عميقة.
وفي عماية هذه الثقة راح عبد الشكور يجمع من الأوراق والأسانيد ما لا يقبل المناقشة أو التفنيد.
وحين ارتأى أن بيده ما يكفي ويزيد دخل إلى صبحي حسان. •••
قال صبحي لفتحي بعد أن استقدمه: ألق نظرة على هذه الأوراق يا فتحي. - أمرك يا افندم.
وما هي إلا لحظات حتى أدرك فتحي الكارثة الكبرى التي حلت به. ولم يكن محتاجا أن يقرأ كل الأوراق، وإنما اكتفى بنظرة سريعة عابرة كانت كفيلة لأن يرى مصيره الأسود أمام عينيه، وحين أرجع الأوراق إلى صبحي الذي جمعها في عناية بالغة وسواها وأعادها إلى الدوسيه الذي كان يحتويها، فعل كل هذا في بطء شديد، حتى إذا أودع المستندات في الدرج الذي أخرجها منه وأقفله بالمفتاح التفت إلى فتحي: ما رأيك؟ - الذي تأمر به سعادتك. - إنك موظف قديم بالبنك، ومعرفتي بك منذ سنوات طوال؛ ولهذا، ومن أجل ناهد وباسم وخالد والست وفية سأكتفي بأن أطلب منك الاستقالة لتنال المكافأة التي تستحقها، والتي تستطيع أن تعيش بها حتى تجد وظيفة في بنك آخر. - ومن سيقبلني بعد هذه المصيبة. - طول عهدك بي يجعلك تثق في وعودي. - هذا لا شك فيه. - لن يعرف أحد في العالم ما تم الآن بيننا. - والذي أتى لك بهذه المستندات. - أنا أضمن أنه لن ينطق بشيء. - أتضمن هذا المخلوق؟ - أتعرفه؟ - ليس هناك إلا واحد فقط يستطيع أن يصل إلى هذه الأوراق. - أنا أضمنه مهما كان رأيك فيه. - أمرك. - إذن. - أعطني سعادتك ورقة. - تفضل.
وكتب فتحي الاستقالة، وقبل أن يصل إلى نهايتها سأل صبحي: هل أختلق لها سببا؟ - اكتف بالقول بأنك لم تعد تستطيع الاستمرار بالعمل والبنك. - وأطلب المكافأة؟ - اطلب تسوية حالتك كما يقولون في الحكومة.
وأعطى فتحي الاستقالة إلى صبحي بك، وفي تحامل مرير على رجلين لا تكادان تسعفانه قام عن كرسيه ومشى خطوات، وقبل أن يضع يده على أكرة الباب قال وظهره لصبحي: شكرا يا سعادة البك. - العفو مع السلامة. •••
استدعى صبحي عبد الشكور وأخبره بما حدث لفتحي، ولم يدهش عبد الشكور حين قال له صبحي: تحل محله. - أخشى أن يغضب هذا الزملاء الذين سبقوني في العمل بالقسم. - نحن في بنك، ومن حقي وحدي اختيار الأصلح دون نظر إلى الأقدمية. - إذن أمرك. - ولي عندك رجاء. - بل أمر. - لا يعرف أحد ما كان من أمر فتحي. - إذا سمعت أن أحدا عرف أكون أنا وحدي المسئول أمامك. - وهو كذلك. •••
ليس بعجيب على عبد الشكور ما فعله في اليوم نفسه.
لقد ذهب في وقت الغداء إلى بيت فتحي. ولم يفاجأ بفتحي وهو يفتح الباب حتى إذا وقعت عيناه على عبد الشكور ارتسمت الدهشة الآخذة الذاهلة على كل سمات وجهه: أنت؟! أهذا معقول؟! لقد توقعت أي إنسان إلا أنت. - ولهذا جئت. - فعلا ، منك أنت لا شيء يستغرب. - اسمح لي أشرح أولا. - اشرح. - هنا؟ - نعم هنا؛ فبيتي حرام عليك منذ اليوم. - ليكن ما تريد مؤقتا. - تكلم. - من الذي يخلفك في رئاسة القسم؟ - المفروض إسماعيل وجدي. - فمن له مصلحة في الوشاية بك غيره؟ - أنت. - لماذا؟ - أنت مقرب من رئيس البنك وربما يعينك في مكاني. - وأجعل نفسي في الواجهة؟ وأحرم نفسي مما كنت تتركني أقوم به من أعمال تعود بالربح الوفير؟ - ربما تريد الربح كله. - ألا تعرف مقدار ذكائي؟ - أعرف مقدار خبثك. - ليكن. كيف سيتاح لي أن أقوم بهذه الأعمال بعد أن انكشف أمرها؟ أليست مصلحتي أن أتخذ منك ستارا واقيا وأكتفي أنا بالعمليات التي كنت تتركها لي؟
Bilinmeyen sayfa
فكر فتحي فيما سمع وأطال التفكير، ثم قال لعبد الشكور: تعال، ادخل.
وصاح عبد الشكور: هكذا يجب أن تكون الأمور. كان من الأول يا أخي.
خالت عليه الحيلة وصدقني. أنا أحتاجه في التنظيم السياسي ولا أريد أن يسيء إلي عندهم. أما الوسائل التي كان يحصل بها على الأرباح في البنك فقد تبين لي بالخبرة أنها وسائل بدائية عاجزة.
إن الطريقة التي توصلت لها أنا هيهات لألف شخص مثل فتحي أن يفكر فيها. أما صبحي فأمره ميسور. فرجت يا عبد الشكور من أوسع الأبواب.
الفصل الثامن
مرت أيام قلائل على مباشرة عبد الشكور لعمله الجديد حين فتح الساعي الباب وقال: سعادة أبو العلا بك عفيفي.
وفتح الساعي الباب للقادم دون أن ينتظر أمر عبد الشكور.
وبهت عبد الشكور كما بهت البك القادم. وفي لعثمة قال عبد الشكور: أهلا، مرحبا.
لم يكن قد أعد نفسه لهذا الموقف مطلقا؛ ولهذا لم يكن عجيبا أن تركبه الحيرة. ولم يمهله القادم، بل قال وهو يجلس دون دعوة من عبد الشكور: أين فتحي بك؟ - ترك العمل في البنك. - لماذا؟ - وجد مرتبا أحسن في بنك آخر. - إذن أحب أن أتشرف بسعادتك فسيكون بيننا عمل كثير. - الحمد لله، لم يعرف شكلي.
وبعد هدأة قال: عبد الشكور. - عبد الشكور ماذا؟ - آه يكاد المحظور أن يقع. ولكنه لم يستطع أن يفر منه، واضطر أن يجمع حروف الكلمة في صعوبة بالغة وهو على يقين أنه إذا أخفى اسمه الكامل فسوف يعرفه أبو العلا من غيره. لم يجد بدا من أن يقوله وليكن بعد ذلك ما يكون. - عبد الشكور حيدر.
Bilinmeyen sayfa