Notes & Queries
العدد 204 لعام 1959م؛ إذ أثبت أن الله قد وهب الشياطين قوة خاصة على الرؤية في الظلام، وهذا ما يؤكده البيت التالي الذي يستشهد به البروفيسور آدمز في كتابه عن ميلتون (طبعة نيويورك 1955م):
لا تفصح إلا عن مشاهد كرب وأصقاع وأسى!
فهي ظلمات تستطيع الشياطين فيها أن تعي سوء مآلها وضياع آمالها (كما يؤكد البروفيسور تليارد).
رحيل أستاذ
كان عام 1957م قد بدأ يطوي صفحته حين قال لي الدكتور مجدي وهبة: «خذ هذه القصائد إلى الدكتور لويس عوض؛ فهو أقدر الناس على الحكم على دقة ترجماتك»، واعترتني الرهبة، وبدا علي التردد، ولكن الدكتور مجدي أكد لي أن الدكتور لويس سوف يرحب بي، وفعلا أدرت قرص التليفون بيد هيابة، وجاءني صوت الدكتور لويس هادئا وهو يحدد لي يوم الأحد التالي، وذهبت إليه أحمل كراستين مكتظتين بقصائد رومانسية مترجمة عن الإنجليزية، وجلست على الفور أقرأ له أحد النصوص وهو يتابعني في صمت، وكان يتوقف أحيانا ليسألني هل هذه الكلمة العربية قديمة أم محدثة؟ هل وافق عليها المجمع؟ ولم ندر بالوقت إلا حين طرق الباب طارق يعلن للدكتور لويس وصول زائر، وتنبهت إلى الساعة فإذا نحن تجاوزنا الحادية عشرة ليلا، وأردت الاستئذان فغضب وقال فلينتظر الزائر حتى ننتهي نحن، وفعلا جلس الزائر يستمع حتى انتهينا وخرجت.
وفي الشهور التالية كنت أقضي لديه عصر يوم الأحد ومساءه نقرأ الشعر الإنجليزي أو نراجع ترجمات الشعر، وهناك قابلت أحمد عبد المعطي حجازي لأول مرة، وسمعت تحليل لويس عوض لإحدى قصائده، وقابلت كثيرين من شباب المثقفين الين كانوا لا يرتوون مهما سمعوا من حديث لويس عوض، وكان رغم هدوء صوته واثق النبرات قاطعا حاسما، يمزج فلسفته السياسية التي لم يتخل عنها طول العمر بمنهجه الأدبي، ويخرجها في قالب إيمان لا يتزعزع بمصريته وحبه لأرض مصر، وكثيرا ما كنت أراه حين أزوره منهمكا في قراءة فصل في كتاب عن مصر القديمة، بالفرنسية أو بالإنجليزية (وكان يجيدهما إجادة مطلقة)، وكان يشجعني على الاستمرار في بلورة نظرة شاملة للأدب، نظرة تضع الأدب في سياقه الإنساني الكبير ولا تقف به عند حدود الطرائق والصور والأساليب الأدبية، ومضت شهور عام 1958م الحافلة وأنا أحس أن نورا جديدا بدأ يضيء جوانب كتب الأدب الإنجليزي الذي أتخصص فيه حتى حل الصيف وعدت إلى بلدتي رشيد.
ودار الزمان وتخرجت في الجامعة في العام التالي، وقبض على الدكتور لويس عوض وأفرج عنه، وانفض سامر منزله، وحلت الستينيات بما غصت به من قضايا ومعارك فكرية، كان أهمها بلا شك معركة جماعة النقاد أو جماعة النقد الحديث، التي كانت تدعو إلى تحرير الأدب من الانشغال بالدعوة السياسية المباشرة، والنقاد الآخرين، الذين اتهموها بأنها تدعو للفن من أجل الفن، وحاولوا تأكيد البديهيات تحت شعار الفن للحياة. ورفض الدكتور لويس عوض الدخول في هذه المعركة؛ لأنها كما قال لي مرارا وتكرارا «زائفة»، وقد قابلني ذات يوم خارج دار الشعب في شارع القصر العيني حيث كان يقيم، وسار معي حتى ميدان طلعت حرب وهو يفصل لي القول في مغبة تبسيط الأمور بهذه الصورة المخلة ونصحني بالتركيز على دراساتي الجامعية حتى أنتهي من الدكتوراه ، فالقضية في نظره ليست قضية أو وظيفة الفن في المجتمع، ولكنها قضية «وجود» الفن في المجتمع.
وحتى رحيلي إلى إنجلترا عام 1965م ظلت علاقتي بالدكتور علاقة قارئ لا يستطيع اتباع خطى أستاذه؛ إذ انشغلت بالكتابة للمسرح وبالنقد المسرحي دون أن تكتمل عدتي الأدبية درسا وتحصيلا . وفي إنجلترا قابلته عدة مرات في الصيف، وكنا نسير أميالا طويلة ونحن نناقش المسائل الأدبية في مصر التي تتغير من يوم إلى يوم، وكنت أزداد كل يوم إيمانا بضرورة المنهج النقدي الذي أرساه لويس عوض في كتبه العديدة، فأنا بطبيعتي موسوعي القراءة، أجور على تخصصي بقراءة كتب في فروع أخرى، وكان لويس عوض يشجعني على هذا، وأذكر أنني ذكرت هذا للدكتور شكري عياد أثناء زيارة له إلى لندن في صيف 1967م فقال لي: لا بأس ولكن انته من كتابة الدكتوراه أولا ثم عد إلى «الصرمحة» بين الكتب!
وعندما عدت إلى مصر عام 1975م كانت التحولات في الحقل الأدبي أعقد من أن أفهمها بعد السنوات العشر في إنجلترا، ولكن لويس عوض كان ثابتا كالطود لا يتغير ولا يتحول؛ فهو يؤمن بقضية الثقافة إيمانا يقترب من حد التقديس، وهو في هذا تلميذ مخلص لأستاذه طه حسين، وللعقاد، ولأبناء ذلك الجيل من الرواد الذين توسلوا بالصحافة لنشر رسالة الثقافة، ومن خلالها مبادئ التحضر والرقي، فكانت عيناه مثبتتين على أوروبا، يأخذ منها المنهج العلمي الصحيح، ويستقي منها قيم الموضوعية والحياد في البحث العلمي، وإن كان لا يثنيه ذلك عما آمن به من حب لمصر يصل إلى حد التفاني فيها.
Bilinmeyen sayfa