وعندما انتهيت من الكتاب ودخلت المدرسة الابتدائية كان عبد الوهاب قد أزال الحاجز بين الشعر وشعر العامية؛ إذ وجد جيلنا أن من السهل عليه أن يغني شعر مهيار الديلمي مثلما يغني شعر أحمد شوقي بالعامية، بل كان جيلنا يتغنى بشعر شوقي بالفصحى مثلما يتغنى بأهازيج المونولوجستات التي شاعت بعد الحرب، وانضم إلى شوقي في ألحان عبد الوهاب: علي محمود طه، وعزيز أباظة ، وبشارة الخوري، ومحمود أبو الوفا، وغيرهم ممن سادوا الأربعينيات ضاربين عرض الحائط بالفوارق الزائفة بين الفصحى والعامية، بل إن بشارة الخوري (الأخطل الصغير) كان ممن تعمدوا إهداء عبد الوهاب أغنية يجمع فيها بين العامية والفصحى عمدا؛ فما هي إلا لغة واحدة - واحدة - وهي أغنية «يا ورد مين يشتريك»، فيقول في بيت واحد:
يا ورد ليه الخجل
فيك يحلو الغزل
وكذلك تدفقت ألحان عبد الوهاب أولا لتحيي الموسيقى الشرقية القديمة، فكتب الموسيقى في المقامات العربية الموغلة في شرقيتها مثل الراست والبيات (الذي يقترب من الألحان الشعبية) وفي المقامات الكبيرة «الماجور» التي يعجب الإنسان كيف طوعها لتطرب الأذن الشرقية لها.
لقد تفتحت آذان جيلنا على الوعي الفني الجديد قبل أن تتفتح عيونه، فامتزجت الفصحى بتاريخنا وجذورنا وحضارتنا، وتطور معها عبد الوهاب، حتى إذا كان فجر الثورة غنى لشعراء العصر، وعلى رأسهم محمود حسن إسماعيل الذي انسابت كلماته على شفاه الجماهير كأنما هي من تأليفهم وإن كانت من وحيهم، وغنى للشاعر مأمون الشناوي أحلى كلماته «من قد إيه كنا هنا» ولكامل الشناوي عذب فصحاه في الأغاني الوطنية والعاطفية الدفاقة، ولعبد المنعم السباعي، ودائما - طبعا - لحسين السيد، رفيق رحلة عمره.
وأذكر أنني عندما زرته في منزله بالزمالك لأول مرة، مع مجموعة من عشاق فنه، طلب مني عربونا على صداقتنا أن أعزف لحنا له على عود كان يعلقه على الحائط في غرفة الاستقبال البسيطة، وكنت آنذاك قد قررت هجران الموسيقى والتفرغ للأدب (1958م) فارتبكت واضطرب العود في يدي. فلم يضحك ولم يبتسم خوفا من زيادة إحراجي، ولكنه تبسط في الحديث كأنما يحادث موسيقيا محترفا، فقال بصوته الرخيم «تقدر تصورها من الدوكاه»، وأذكر أنني انهمكت في العزف بعدها، كأنما كنت أواجه أصعب امتحان في حياتي، وهو يجاملني ويتبسط معي حتى انتهيت.
لقد تعلمت من عبد الوهاب - في ذلك اليوم مثلما تعلمت في الأيام التالية - أن الفنان إنسان بسيط مفتوح القلب والصدر، وهو لا يتكبر مهما كبر، ولا يبتعد مهما فرض عليه موقعه الابتعاد، ولقد ظل إلى آخر أيامه يفكر ويناقش ويعمل، ولم يكن يرفض لقاء أحد حتى من جيل أبنائنا وتلاميذنا، وقد كان له موعد أخلفه رغما عنه يوم الأحد الماضي مع الشاعر الشاب عمر نجم، وكان هذا الشاعر قد طلب الموعد دون أمل كبير في اللقاء!
لقد غير عبد الوهاب تاريخ الموسيقى الحديثة فأحيا وجدد وطور، وبث روحا في فنوننا لا تضارعها إلا روح قادة التنوير من المفكرين والعلماء والأدباء، فتاريخه هو تاريخ القرن العشرين، وسجله سجل أجيال متلاحقة شارك في صنعها اليوم، مثلما سيشارك في صنعها بعد رحيله.
عند بائع الصحف
وقفت عند بائع الصحف أتأمل الكتب التي يقدمها للقراء على قارعة الطريق، وشدني كتاب فتصفحته وأعدتها جميعا وقد تملكني اليأس، هل هذا كل ما يستطيع بائع الصحف أن يقدمه للقراء في مصر؟
Bilinmeyen sayfa