ويلتقي الاتجاهان في كل موضع في تاريخ الأدبين على فترات من المحال أن نحددها بالأجيال، بل إنها قد تدوم قرونا وقد تقصر حتى لا تتجاوز السنوات المعدودة؛ فالزمن هنا يخدع الباحثين كثيرا؛ فالثبات الذي يوحي به الشكل التقليدي لشعر «شوقي» يخفي في طياته رومانسية دفاقة لا تكاد تبين؛ لشدة حرص الشاعر على التمسك بالمصطلح القديم ويصدق هذا القول على «البارودي» من قبله؛ فهي رومانسية المثال والقيم المطلقة - وهي ضرب من الضروب التي بينها البروفيسور «لاف جوي» في «التمييز بين الرومانسيات». ولقد ظل هذا الاتجاه خبيئا حتى وجد في مدرسة الديوان من يفصح عنه أيما إفصاح - وإن بدا للقراء في العقود الأولى من هذا القرن أن العقاد لا يكاد يشترك مع شوقي في شيء!
كان العقاد وشوقي يشتركان في العمر الفني وإن اختلفا في العمر الزمني؛ أي إنه دون وجود شوقي لم يكن العقاد ليثور ثورته، ويفصح عن رومانسيته، وكذلك كان علي محمود طه وإبراهيم ناجي يشتركان مع أبناء الجيل السابق في الروح، وإن اختلفت صورة الرومانسية في شعرهم، فاتخذت إطارا جديدا كالصبغة الفردية والجنوح إلى الخيال - وكذلك كان الشعراء المحدثون الذين ارتبطت أسماؤهم بشعر التفعيلة وإن كانت الرومانسية أقرب إلى روح الثورة والتحرر مع ما يكسوها من حزن وألم، فكيف بنا نقسم هذه الاتجاهات تقسيما زمنيا لا فنيا؟
أجيال الرومانسية
عندما ذكرت في كتابي عن الشعر العربي المعاصر في مصر بالإنجليزية أن أقوى تيار في الجيل الذي تلا صلاح عبد الصبور هو تيار الرومانسية الجديدة، وحددتها قائلا: إنها مزيج من الاتجاه الحديث في العالم والرومانسية الأوروبية؛ لم أكن أتصور أن أغضب أحدا من كبار شعرائنا، ولم أكن أتصور أن أحدا سيسيء فهم هذه الفكرة غير العويصة. ولكن لاقيت نفس المصير الذي لاقاه أحد شيوخ النقد الإنجليزي «و. ب. كير» حين قال: إن الشاعر الأصيل أو المجدد لا بد أن يبدأ بالرومانسية؛ إذ غضب منه الكلاسيكيون من النقاد المعاصرين، مثل «ف. ل. لوكاس المتوفى عام 1966م» وبعض المحدثين من الشعراء الذين تصوروا أن الحداثة أو المودرنية تعني بالضرورة رفض الرومانسية، وهم لا يقصدون بها في حقيقة الأمر إلا الحركة الأدبية الأوروبية المعروفة.
ومكمن الصعوبة في فهم هذا القول كما بين بعض الشارحين (مثل نورثروب فراي وماير إبرامز) هو اختلاف الزوايا التي ينظر منها إلى الرومانسية؛ فالناقد الكلاسيكي مدفوع بطبيعته ودراسته إلى الحكم على الجوانب الشكلية؛ لأنه (أيضا بسبب تكوينه الفكري) لا يرى في الفن غير الشكل - فعالم الكلاسيكية عالم ثبات وقرار - عالم تحكمه قوانين راسخة مثل القوانين الرياضية وقوانين الصحة والاستواء؛ ولذلك فقلما يناقش نزعة نفسية تخرج عن إطار قوانينه أو خيالا جامحا يركض به في دنيا لا يألفها؛ ومن ثم فهو يؤمن بأن الفن شكل وأن الأفكار (مثل المعاني عند بعض نقاد العرب) يعرفها العربي والعجمي، وأن الفن ما هو إلا براعة البناء وهندسة التركيب وحيل الصنعة.
أما النقد الحديث فيدعو إلى عدم الفصل بين الشكل والموضوع؛ فالعمل الفني كيان حي نابض، يتعرض للتزييف بل للمسخ والتشويه إذا جردت شكله لدراسة بنائه، وهذا من أكبر أخطار المدرسة التي ازدهرت قبل عشرين عاما في فرنسا، ولم تلبث أن اندثرت - ألا وهي ما يصطلح على تسميتها بالبنائية أو البنيوية - أي الاتجاه إلى رؤية نماذج أو أنماط شكلية محددة ومكررة في الأعمال الفنية بغض النظر عن نوع الفكرة أو الإحساس؛ أي إن الناقد البنيوي كان يساوي بين عناصر متباينة بغية تصنيفها في هيكل يرى فيه الدلالة الكبرى، وكان يحاكي ما فعله بعض نقاد الثلاثينيات الذين أرسوا قواعد دراسة كل جانب من جوانب العمل الفني - كالإيقاع في الشعر، أو الصور الفنية، أو الألفاظ بأشكالها المختلفة، أو الشخصيات وما إليها - بطرق الإحصاء والتقسيم والتبويب والتصنيف، وقد لاقت هذه الأنواع من الدراسة هوى في نفوس كثير في أمريكا؛ إذ إن الأرقام لها سحر خاص وهي توحي بالمنهج العلمي الذي يؤدي إلى اليقين ، ثم انهار هذا المنهج أيضا عندما نهض معارضوه في ألمانيا (فولفجانج كليمن) وإنجلترا (راجوف) ليدحضوا ما ظاهره علم وباطنه تزييف؛ لأن حقائق الأدب مثل حقائق الحياة لا بد من معالجتها معالجة شاملة في سياقها الحي، وإلا لم تعد تعني شيئا.
الناقد الحديث ينبغي ألا ينخدع بالأرقام أو الأشكال وألا يتخذها أساسا لإقامة تماثل بين عملين أدبيين يشتركان في الهيكل ويختلفان في المادة، أو فيما هو أخطر من هذا - وأقصد به الاختلاف في «النغمة» أي فيما يسمى أحيانا «النبرة» (ترجمة لكلمة ال
TONE ). وقد كانت هذه الصعوبات في الحقيقة السبب في اختلاف الزوايا التي ينظر منها إلى الرومانسية؛ ومن ثم في عدم إدراك ما يقصد إليه «و. ب. كير» من ربط النزعة إلى التجديد بالرومانسية، فالحقيقة التي يريد إبرازها هي أن كل فنان ينشأ في ظل أنماط أدبية يتشربها وتتغلغل في أعماقه وهو صغير، وهو يحاول في بداية حياته استخدامها عندما يصل إلى مرحلة النضج، ولكنه يصطدم بأن الواقع الذي يعيشه والذي ينفعل معه لا يخرج بالصورة التي يريدها من خلال هذه الأنماط، ويجد أن عليه أن يشق لنفسه طريقا جديدا - ومعنى ذلك أنه يرتاد بقاعا غير مألوفة (في الشكل والمضمون جميعا) - وبهذا يجد نفسه يعيش الوحشة التي قال «ماثيو أرنولد» إنها قدر كل عبقري، وذكرها فرانك كيرمود في سياق الحديث عن «وليم بطلر ييتس» الشاعر الأيرلندي الأشهر. أي إن الفنان يضطر مرغما إلى الابتعاد عن التقاليد الأدبية؛ اقترابا من واقع فني - نفسي أو فكري أو إنساني. وهو بهذا يوصف بالشطط أو بالتفرد أو بالمثالية، ومن ثم بالرومانسية.
ومن هنا كان لكل جيل (وقد يطول زمنا حتى يقترب من القرن أو يقصر حتى لا يجاوز العقد الواحد) رومانسيوه - أي شعراؤه الذين يصوغون رؤاهم الأصلية في أشكال أدبية جديدة - ولهذا لم يتردد «كلينث بروكسي» في وصف شعر «ت. س. إليوت» بالرومانسية، ولم يجد من حاول أن يعارض أي تناقض بين الحداثة (أو المودرنية) وبين الرومانسية بعد أن تحرر مفهومها من الاقتصار على المعنى التاريخي؛ ولذلك أيضا لم أتردد في رصد الاتجاه الرومانسي في شعر صلاح عبد الصبور والجيل الذي تلاه عمرا ويشترك معه فنا وبالتحديد فاروق شوشة ومحمد إبراهيم أبو سنة وفتحي سعيد وفاروق جويدة.
ولكن هل ينطبق هذا القول على الشعر فحسب أم يصدق أيضا على سائر الفنون الأدبية ونشأة الأشكال الجديدة؟
Bilinmeyen sayfa