لمحت أحد الصحفيين المعروفين يتمشى الهوينا على شاطئ البحيرة، يدخن البايب، عيناه شاردتان في الأفق، إنه ضيف دائم على موائد الوزراء، يتشمم الأخبار وراء البحار، يرقب حركة القطط السمينة من الذكور والإناث، قلمه يطل من جيبه العلوي، له غطاء من ذهب، كل كلمة منه توزن بالدولار أو الدينار أو الاسترليني، يأتيه الشيك فوق مكتبه قبل أن يكتب عنوان المقال، قد يتحول القط السمين فجأة إلى بطل قومي، وقد ينقلب البطل القومي فجأة إلى قط سمين، إنها صاحبة الجلالة الصحافة!
لمحني الصحفي المشهور وقال: «أهلا يا دكتورة.» ثم ابتعد مسرعا يتطلع نحو السماء، رأيت ثلاث طائرات هليكوبتر ملونة تتسابق في الفضاء قرب الشاطئ داخلها رءوس شباب يلعبون في الجو. ربما يمتلك الواحد منهم طائرة هليكوبتر أو سيارة مائية تمشي فوق الرمل أو فوق البحر، ربما يكون ابن هذا الصحفي الشهير داخل إحدى هذه الطائرات يملكها أبوه أو صديق أبيه من كبار القطط السمينة، وكلهم يعشقون الصحافة وأضواء الإعلام، يتنافسون على الظهور أمام الرأي العام، يحركون السبحة بين أصابعهم علامة التقوى والإيمان، تفوح أنفاسهم برائحة الخمر والنساء والمخدرات.
ثم لمحتها تمشي بجسمها الطويل الممشوق داخل مايوه أسود مزين عند البطن بفص من اللؤلؤ أو الترتر، تهز جسمها برشاقة الراقصات وهي معروفة وسط راقصات البطن، يمشي إلى جوارها زوجها، يرتدي مايوها من النوع الديني المحتشم، يغطي ركبته، ربما هو سعودي أو كويتي أو من الدوحة، يملك مسجدا وعددا من العمارات أو المحلات، ربما هو في السلك الدبلوماسي أيضا، فهو يحمل في يده التليفون «المحمول»، يشتري في الصحف المساحات للإعلان عن البضائع في محلاته، سيارات أو تليفزيونات أو كومبيوترات، يشتري من جامعة كاليفورنيا درجة الدكتوراه، يشتري أيضا لنفسه حراسة خاصة بودي جارد. إن مات فجأة برصاصة مكتومة الصوت أو سم تضعه له زوجته في الشراب، يظهر نعيه في أكبر الصحف في صفحة كاملة أو نصف صفحة بالبنط العريض، ولا يمضي على موته أيام، حتى ترقص زوجته الفنانة في إحدى حفلات الزفاف بالقاعة الواسعة في فندق الخمس نجوم، ثم تتزوج في السر أحد الأمراء في بلد من بلاد الخليج.
كنت جالسة على شاطئ بحيرة مارينا، في يوم من أيام يوليو 1988، أستمتع بالفرجة على أنواع الرجال والنساء من الطبقة الجديدة، وجاءت صديقتي القديمة تدعوني إلى وليمة الغداء، مائدة طويلة رصت عليها الصحون، أطباق لا أعرف اسمها تنطقها بالفرنسية، وأطباق أعرفها مثل الفول المدمس والطعمية والعدس أبو جبة، وفخذة خروف مشوية. صديقتي تتفاخر بكل ما تملك، وأنا أفقد شهيتي. تملأ الصحن أمامي بالطعام، لم أعد آكل اللحم الضأن. ليه يا نوال؟ شرحت لها أن لحم الضأن يحتوي على كميات كبيرة من الدهن. سألتني بدهشة: «عاملة ريجيم يا نوال؟ مش معقول!»
رمقت جسمها السمين المترهل بنظرة من طرف عيني، وقالت: «خلاص عجزنا يا نوال، ومافيش متعة في حياتنا إلا الأكل.»
حين عدت إلى بيتي أحسست أن جسمي خفيف، رشيق، وضعت نفسي تحت الدش، غسلت رمال شاطئ مارينا، وصور الأجساد فوقه، وشعرت بسعادة!
القاهرة، يوليو 1998
حالة فتاة من دفتر أحوال عيادتي
منذ العام الماضي بدأت تحملق في الليل بلا نوم، وإن نامت رأت الطوفان يغرق الأرض، وسيدنا نوح يركب السفينة ويمضي بدونها، ترى نفسها في الآخرة، ماشية فوق الصراط من تحتها النار، قدماها داميتان، جسمها يتأرجح قبل أن يسقط، تفتح عينيها فتجد نفسها راقدة فوق سريرها ملفوفة بالبطاطين، غارقة في عرقها، تقرأ الفاتحة، تحمد الله أنها لم تمت بعد وأمامها فرصة للتوبة، تنهض إلى الحمام، تغتسل خمس مرات، ثم ترتدي الثوب الواسع الطويل، حول رأسها تلف القماش السميك، تقف أمام الله لتصلي، لا شيء يظهر منها إلا ثقبين صغيرين موضع العينين في القماش الأسود. بعد الصلاة تجلس في حجرها كتاب الله، تقرأ وتستغفر الله على ذنبها الكبير، ليس في حياتها إلا هذا الذنب، منذ ولدت وهي تنام على صوت أبيها يرتل القرآن. منذ الطفولة لم ير وجهها رجل غريب. طوال سنين الدراسة لم تكلم أحدا، وبعد التخرج اشتغلت في مكتب ليس فيه أحد، مخزن بالدور السفلي في متحف صغير مهجور لا يزوره أحد، تجلس إلى مكتبها وأمامها الدفتر، تسجل عدد المومياء التي تأتي للتخزين أو المخزونة من قبل، تنفض عنها التراب بفوطة صفراء، ثم تعدها وتسجل الرقم في الدفتر، تغلق الدفتر وتضعه في الدرج، ثم تفتح كتاب الله وتقرأ حتى يحين موعد الانصراف. تحمل حقيبتها وتعود إلى بيتها ماشية على قدميها. مسافة ساعة ونصف، تقطعها بخطوة متزنة محكومة، ولا شيء في جسمها يهتز من تحت الثوب الواسع السميك.
رأسها الملفوف بالقماش الأسود مطرق إلى الأرض، في الحر والبرد تمشي المسافة مرتين في الذهاب والعودة، لا تركب الأوتوبيس حتى لا يحتك بها أحد من الخلف، ولا تركب «تاكسي» وحدها مع سائق غريب. وفي البيت تغتسل من تراب الطريق، وتتوضأ وتصلي قبل أن تأكل، وبعد الأكل تنام وتحت وسادتها كتاب الله. تصحو على صوت أبيها يناديها لتعد له الطعام. بعد أن يأكل، يصلي ويدعو الله أن يحمي ابنته من الشيطان، لولا المائة والأربعين جنيه كل شهر ما جعلها تخرج من البيت، وهو رجل عجوز بلا مورد، وهي بلا زوج يعولها. لم يتقدم إليها إلا ابن أخته العاطل بلا دخل، لو أرسل الله إليها زوجا ميسور الحال لما خرجت من البيت.
Bilinmeyen sayfa